صفقة السلاح الروسي لسورية… نهاية المنطقة العازلة
راسم عبيدات
منذ أكثر من عامين وماكينة الإعلام الخليجي القطري والسعودي والإماراتي والتركي و«الإسرائيلي» والفرنسي، ومعها المعارضات السورية المختلفة، لم تكفّ عن بث أكاذيبها وسمومها عن بوادر تغيّر في الموقف الروسي تجاه حليفها الرئيس بشار الأسد، وأنّ رحيله بات وشيكاً، وتعقد اللقاءات والمؤتمرات لبحث «ترتيبات ما بعد الأسد في سورية»، وحاولت تلك الدول وبخاصة السعودية وقطر تقديم رشاوى مالية واقتصادية للقيادة الروسية بمليارات الدولارات من أجل تغيير موقفها وتخليها عن الأسد، وأكثر من ذلك وعود بحفظ المصالح الروسية في سورية، واستمرت تلك الأبواق في نشر الأكاذيب والدعايات المغرضة حتى بعد لقاء وزير الخارجية الروسي لافروف مع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في موسكو أخيراً، وفي المقابل كانت ماكينة الكذب التركي تبث أكاذيبها حول الموافقة الأميركية على إقامة منطقة حظر جوي في الشمال السوري، أو ما يُسمى بالمنطقة العازلة في الأراضي السورية، أيّ اقتطاع جزء من الأراضي السورية ومنع الطيران السوري من التحليق فوقها، لكونها تقع في مرمى صواريخ الباتريوت الأميركية المنشورة على الحدود التركية السورية، وتركيا سعت إلى توريط أميركا والغرب الاستعماري عسكرياً في سورية منذ بداية الأزمة السورية، بحيث يخدم هذا التوريط مصالحها في اقتطاع جزء من الأراضي السوري، وكذلك القضاء على الجماعات الكردية وبالذات حزب العمال الكردستاني، بما يمنع نشوء أو قيام دولة كردية، ولكن الإدارة الأميركية كانت تسارع إلى نفي موافقتها على إقامة مثل هذه المنطقة، لأن الموافقة الأميركية على إقامة تلك المنطقة لها تداعيات إقليمية ودولية كبيرة، وفيها خطر كبير على المصالح الأميركية يطاول أوكرانيا وجورجيا وأفغانستان وغيرها من المناطق الأخرى.
صفقة السلاح الروسي لسورية ليست فقط لها معنى ودلالة عسكرية، لجهة تحديث السلاح السوري، واستخدامه في تحصين قوة النظام السوري، واسترداد الجغرافيا التي سيطرت عليها العصابات التكفيرية والإرهابية، وتشكيل عامل ردع جدي لمن يريد التطاول على سورية وسيادتها الوطنية والعبث بجغرافيتها تقسيماً وتركيباً.
صفقة السلاح التي اشتملت على أحدث مقتنيات الترسانة العسكرية الروسية وبخاصة الطائرات النوعية ميغ 31 وصواريخ الكورنيت، التي لعبت دوراً كبيراً في المجزرة المرتكبة بحق الدبابات والمدرعات «الإسرائيلية» في حربها العدوانية التي شنتها على لبنان وحزب الله في تموز 2006، وبخاصة مجزرة وادي الحجير، التي ألقى منها سيد المقاومة سماحة السيد حسن نصرالله خطابه الأخير في ذكرى نصر تموز، بل هي تحمل رسالة سياسية واضحة يجب أن تقرأ في كل عواصم «التهويش» الكلامي والكذب بأن روسيا تقف إلى جانب حليفها الأسد، وهي تعتبر سورية منطقة نفوذ استراتيجي لها غير قابلة للتفاوض، وبأن سورية والأسد جزء من الحل لا جزءاً من الأزمة، والأولوية يجب أن تكون لكل دول العالم، هي الحرب على الإرهاب وتنظيماته التكفيرية «القاعدة» ومتفرعاتها من «داعش» و«النصرة» و«السلفية الجهادية» وغيرها، التي باتت بمثابة السرطان الذي يهدد تفشيه بخطر جدي على السلم والأمن العالميين، وبعد الحرب الكونية العدوانية التي تدخل عامها الخامس على سورية، فإن الجيش السوري راكم من التجارب والخبرات الشيء الكثير الذي يمكنه من محاربة تلك الجماعات الإرهابية والتكفيرية وإلحاق الهزيمة بها، ولذلك هو يستحق أن يسلح بأحدث الأسلحة من أجل اجتثاث هذا الخطر الداهم.
الرسالة الروسية وصلت لتلك العواصم، لتقول لهم تخلوا عن أحلامكم ومناوراتكم وأكاذيبكم، فروسيا خيارها سورية والأسد، ولا حل سياسياً للأزمة السورية من دون الأسد، بل وتحت سقف الأسد.
في وقت كان يجرى إعلان صفقة الأسلحة الروسية لسورية، كان «خليفة» تركيا الجديد يريد أن يحقق نصراً يمكنه من تحقيق فوز مستحق في الانتخابات التركية القريبة، حيث فشل في تشكيل حكومة تركية جديدة، وكان يريد أن يقيم المنطقة العازلة داخل الأراضي السورية، ويوجه ضربة قاصمة للأكراد كعقاب لهم على المشاركة الواسعة في الانتخابات، وما حصلوا عليه من مقاعد، ساهم في عدم حصوله على الغالبية المطلقة، ولكن يبدو أن الهزائم تلاحق هذا الطاغية المتهور، تزامن إعلان الصفقة مع قرار دول رئيسية في حلف «الناتو» سحب منظومة الباتريوت المرابطة على الحدود السورية التركية… ألمانيا والولايات المتحدة ستسحبان بطاريات الصواريخ الخاصة بكل منهما، ولن تمددا لها بعد انتهاء المهلة المقررة.
إعلان سحب الباتريوت يعني عملياً نعي منطقة الحظر الجوي التي أراد الأتراك من خلالها إدارة عملياتهم وتآمرهم على سورية، بتقديم الدعم والحماية للجماعات المسلحة التي يقومون بزجّها داخل الأراضي السورية، وبما يعني المس بالسيادة الوطنية لسورية، والسعي لتقسيم جغرافيتها، واستخدام ذلك في أي عملية تفاوضية لحل سياسي في سورية، والهدف الآخر هو سحق الجماعات الكردية وبالذات، حزب العمال الكردستاني، فهذا يمنح حكومة أردوغان فرصة لفوز مستحق في الانتخابات المبكرة القريبة، ولعلنا نعي جيداً أكاذيب أردوغان عن موافقة حكومته الدخول في حرب على «داعش» والاقتراب من الموقف الأميركي، فالهدف ليس «داعش» بل شن حرب مفتوحة على الجماعات الكردية مستغلاً التوافق الإقليمي والدولي في أولوية الحرب على الإرهاب على أي أولويات أخرى، ولكن أحلام أردوغان تبخرت، حيث القرار الأميركي الألماني بسحب بطاريات الباتريوت، ورفض الخطة التركية لسحق الأكراد.
أميركا تعي جيداً أن موافقتها على منطقة الحظر الجوي، تعني مخاطر حرب شاملة ستدخلها سورية بكلّ قوتها، ويدخلها معها حزب الله، وتكون «إسرائيل» مرماها، وستدخلها لاحقاً إيران، ولا ضمانات ألا تدخلها روسيا بشكل أو بآخر.
وهنا تخشى الولايات المتحدة أن يتكرّر السيناريو الكوبي إذا ما أقدمت على تأمين غطاء جوي لمرتزقة دربتهم في المنطقة لفرض هذا الحظر الجوي بالقوة، بفشل هؤلاء المرتزقة في تحقيق نصر عسكري وهو أمر تضعه الولايات المتحدة في حساباتها، فشل سيقود إلى التدخل الروسي المباشر في صلب المعركة الدائرة في سورية في تكرار لأزمة الصواريخ الكوبية ورفع سقف الاشتباك الحاصل مع الولايات المتحدة، انطلاقاً من الساحة السورية، ورسم معادلات جيوستراتيجية أقلها إجهاض الدرع الصاروخية الأميركية انطلاقاً من الجغرافيا السورية.
أميركا بسحبها بطاريات الباتريوت تقول لحلفائها من أتراك و«إسرائيل» ومشيخات النفط والكاز، إنّ ما بعد التفاهم النووي غير ما قبله وإنّ زمن الحرب قد انتهى، فزمن حروب حلفاء أميركا هو زمن أميركي تحدّده ساعة توقيت واشنطن لا أيّ عاصمة أخرى، وعلى من يريد أن يفعل خلاف ذلك فليفعله من حسابه.