روسيا وشرق أوكرانيا
حميدي العبدالله
في بداية التحرك لسكان شرق وجنوب أوكرانيا، بعد أيام قليلة على انفصال القرم عن أوكرانيا وانضمامها إلى روسيا الاتحادية، وجّه سكان المقاطعات الشرقية والجنوبية نداءات إلى روسيا لتقديم المساندة لهم على غرار المساندة التي قدمتها لسكان القرم.
وفي الأسابيع الأولى التي أعقبت اندلاع الأزمة الأوكرانية حشدت روسيا قواتها قرب الحدود مع أوكرانيا وبذلت مساعيَ سياسية لإقناع الغرب والسلطات الأوكرانية الجديدة بفتح حوار جاد مع سكان المقاطعات الشرقية والجنوبية، وإعادة تركيب أجهزة السلطة على نحو يخفف من هيمنة كييف على هذه المقاطعات. ولكن لا الغرب ولا السلطات الجديدة في أوكرانيا استجابا للمساعي الروسية، فأصرّ سكان المقاطعات الشرقية والجنوبية على إجراء استفتاء للاستقلال عن سلطات كييف. وعشية إجراء الاستفتاء وجهت القيادة الروسية نداءات لتأجيل الاستفتاء، ولكن سكان هذه المقاطعات، وغالبيتهم من الروس أو الناطقين باللغة الروسية، لم يستجيبوا لنداءات القيادة الروسية، وأجروا الاستفتاء وأعلنوا عن قيام جمهورية «نوفاروسيا» التي تضمّ المقاطعات الشرقية والجنوبية.
ولكن منذ ذلك الوقت لوحظ أنّ دعم روسيا لسكان هذه المقاطعات تراجع، وبدأت موسكو تلحّ على الوصول إلى تسوية مع الغرب ومع سلطات كييف أكثر من مجاراتها لرغبات وتطلعات سكان المقاطعات الشرقية والجنوبية.
وعندما شنّ الجيش الأوكراني هجوماً عسكرياً ضدّ هذه المقاطعات تحت شعار محاربة الإرهاب لم يكن رد فعل موسكو قوياً، بل قامت بسحب قواتها من الحدود المشتركة، وأعاقت تدفق اللاجئين إلى داخل روسيا هرباً من هجمات الجيش الأوكراني وأرسلت ممثلاً عنها إلى كييف لحضور حفل تنصيب الرئيس الأوكراني الجديد.
بديهي أنّ السلوك الروسي هذا طرح أسئلة حول دوافعه، فهل هو يعبّر عن ثقة بقدرة سكان المقاطعات الشرقية والجنوبية على الصمود في وجه هجمات الجيش الأوكراني، حيث تقوم روسيا بتقديم دعم عسكري غير علني من خلال تزويد قوات الدفاع الشعبي في هذه المقاطعات بالأسلحة التي تمكنها من الدفاع عن نفسها، أم أنّ موسكو غاضبة من سلوك سكان هذه المقاطعات الذين رفضوا التنسيق والتعاون مع السلطات الروسية، وأحرجوا روسيا وحاولوا توريطها في أزمة كبرى مع الدول الغربية في توقيت وأسلوب لم يكن بمقدورها الإسهام في اختيارهما؟
كلا الاحتمالين قائمان، فسكان المقاطعات الشرقية والجنوبية يمتلكون القدرة على الصمود واستنزاف الجيش الأوكراني لحين قبول سلطات كييف والحكومات الغربية الجلوس إلى طاولة التفاوض وقبول الحل الذي اقترحته موسكو، والذي يدعو إلى إجراء حوار بين سلطات كييف وممثلي المقاطعات الشرقية والجنوبية، حيث يتيح لها الوضع الراهن هامشاً للمناورة والضغط على الحكومات الغربية ودفع تهمة الوقوف وراء ما يجري في شرق وجنوب أوكرانيا.
ولكن قد تكون موسكو عبر مواقفها وتعاملها الحالي مع ما يجري في جنوب وشرق أوكرانيا أرادت بعث رسالة لقادة هذه المقاطعات تحضهم على التعاون والتنسيق معها، وعدم إقحامها في مواقف لم تشارك هي في تقدير مدى صحتها، وما إذا كان التوقيت ملائماً لاتخاذ مثل هذه المواقف أم لا؟
في مطلق الأحوال لا يزال موقع روسيا قوياً في أوكرانيا، واحتمال التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية تأخذ في الاعتبار المقاربة الروسية، احتمالاً مرجحاً في ضوء حاجة أوكرانيا لروسيا اقتصادياً، وفي ضوء رغبة الكثير من الدول الغربية عدم المضي في التصعيد مع روسيا.