من دونتسك إلى وست بوينت: إخفاق بعد إخفاق

زياد حافظ

ليس من السهل أن تكون مسؤولاً عن السياسة الخارجية الأميركية عندما تسجّل يوماً بعد يوم إخفاقات يصعب تحويلها إلى إنجازات كما يحاول بائساً الرئيس الأميركي. ففي خطابه إلى متخرّجي الكلية الحربية الأميركية وست بوينت في ولاية نيويورك حاول الرئيس الأميركي تهدئة خواطر الانتقادات الداخلية حول الإخفاقات في السياسة الخارجية، خصوصاً بعد إعلانه عن سحب ما تبقّى من القوات الأميركية في أفغانستان. وجّه كل من الشيوخ مكّين، وغراهام، وكيلي انتقادات لاذعة متّهمين الرئيس الأميركي بارتكاب خطأ استراتيجي آخر بعد الانسحاب غير المدروس من العراق!

كان خطاب الرئيس الأميركي مخيّباً للآمال عند كل من كان يراهن على قراءة متأنية وتحليل موضوعي ورؤية طموحة للسياسة الخارجية لما تبقّى من ولايته. اعتبر العديد من المحلّلين كجاكوب هيلبرون، رئيس تحرير مجلّة مرموقة «المصلحة القومية» ناشيونال انترست ، أن خطاب الرئيس الأميركي في جامعة وست بوينت الحربية مجرد إنشاء من دون رؤية واضحة لما يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة في العالم. فحدّد ما لا يريده ولكنه لم يحدّد ماذا يريد على حد قول هيلبرون!

صحيح أن الولايات المتحدة ما زالت تحظى بأقوى قوة عسكرية ولكنها لا يمكن صرف تلك القوة على الصعيد السياسي كما حاول بائساً الرئيس الأميركي إقناع الأميركيين في خطابه للضباط الجدد. وفي حوار مدوّن على اليوتيوب بين هيلبرون وبين رئيس المركز الذي يصدر المجلة، ديمتري سايمس، أوضح الأخير أن الرئيس الأميركي لم يأت بجديد ليبدّد الانطباع بمظاهر الضعف في السياسة الخارجية الأميركية.

انتقد سايمس بشدّة مزاعم الصحافي الأميركي توماس فريدمان لمقال نشره في صحيفة النيويورك تايمز يتبجّح بتراجع الرئيس الروسي بوتين في موضوع الانتخابات في أوكرانيا، معتبراً أن الانتخابات الرئاسية في ذلك البلد هي تراجع للرئيس بوتين. كما اعتبر سايمس كلام الرئيس أوباما أن العقوبات على روسيا في موضوع أوكرانيا عزلت روسيا، اعتبر أن ذلك الكلام غير صحيح. ويؤكد أن الجائزة الكبرى لروسيا حصل عليها الرئيس بوتين ألا وهي ضمّ شبه جزيرة القرم الذي فاجأ كافة الدوائر الاستخباراتية الأميركية والغربية! وهذا إخفاق جديد بعد الإخفاقات الاستخباراتية الأميركية في الوطن العربي والعالم الإسلامي في عدم توقع الأحداث الزلزالية السياسية. ويشاطرهما الرأي صاحب مدوّنة «قمر الاباما» الذي لا يوفر الانتقادات اللاذعة للسياسة الخارجية الأميركية ويهزأ من تحليلات فريدمان السخيفة الذي يعتبره الموقع من أضعف المحلّلين للسياسة الأميركية. ففريدمان في معظم الأحوال مخطئ في تنبؤاته ويعجّب لماذا تستمر الصحيفة والقرّاء اعتباره قارئاً للسياسة الخارجية يمكن الاعتماد عليه!

أما مايكل أوهنالون، وهو كبير الخبراء في معهد بروكنز، قال على موقع «فورين أفيرز» التابع لمجلس العلاقات الدولية أن خطاب أوباما كرّس الخطأ الاستراتيجي في معالجته للملف السوري حيث قلّة الحزم في دعم المعارضة لإسقاط النظام والرئيس الأسد أربك العديد من الحلفاء في المنطقة. بالمقابل أيد أوهانلون أوباما في مقاربته للملف الإيراني حيث التفاوض وفرض العقوبات أوصلت القيادة الإيرانية للرضوخ!

كما أيدّه دافيد أرون ميلر في معهد ولسون قائلاً إن المشكلة في خطاب أوباما ليست في المضمون ولا بالإلقاء ولا حتى بالشخص بل بالأميركيين أنفسهم وبخاصة مجتمع «الخبراء» وطبقة المحلّلين والمنظّرين الذين لا يزنون كلامهم ويبحثون فقط عن بريق التعليق والإثارة من دون الانتباه إلى الحقائق. يعتبر ميلر أن طموحات وتوقعات هؤلاء لم تأخذ في الاعتبار أولويات الرئيس الأميركي وأسقطوا توقّعاتهم وأمانيهم على البيت الأبيض. فالرئيس الأميركي في رأي ميلر محق في أولوياته والآخرون مخطئون!

آثرنا عرض بعض الآراء لعدد من المحلّلين والمراقبين المرموقين في مراكز الأبحاث الأميركية لاستخلاص عدة عبر تؤكد الحقائق التالية: أولاً- إن مسألة «التراجع الأميركي» أصبحت في صلب الخطاب السياسي الأميركي بغض النظر عن حالة إنكار ذلك التراجع كما يحاول الرئيس الأميركي أو التأكيد عليه كما يردّد معارضو الرئيس. وهذا التراجع ناتج من إخفاقات في السياسة الخارجية ولأداء الرئيس الأميركي وليس للظروف الموضوعية. هذا هو على سبيل المثال موقف روبرت كاغان أحد منظرّي المحافظين الجدد وزوج فيكتوريا نيولاند مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون أوروبا وأوراسيا. لكن بالمقابل كانت وما زالت الحقائق الموضوعية تفرض حقيقة التراجع كما تفيد الوقائع والنتائج على الأرض في كل من الشرق الأوسط وأوكرانيا والآن في آسيا والمحيط الهادئ.

ثانياً- الحقيقة الثانية، وهي إحدى أسباب التراجع، أن الإمكانيات المادية المتوافرة للإدارة الأميركية، سواء كانت عسكرية واقتصادية أو سياسية هي دون متطلّبات طموحات المنظّرين وحتى الإدارة نفسها. فقدان التوازن يعود إلى التراجع الاقتصادي الناتج من سياسات وقرارات أوصلت الولايات المتحدة إلى حالة الانكشاف المالي والتجاري. وهذه السياسات ناتجة بدورها عن طبيعة النظام السياسي القائم في الولايات المتحدة الذي وصل إلى طريق مسدود بسبب الاستقطاب والتشنج بين الحزبين المتحكمين بالسياسة الأميركية داخلياً وخارجياً.

ثالثاً- الحقيقة الثالثة هي أن تراجع الولايات المتحدة يتلازم مع صعود مراكز قوة جديدة في العالم لم تستطع الولايات المتحدة منعها أو حتى كبحها. فسياسة الحروب الاستباقية التي أطلقها الرئيس السابق جورج بوش الابن عام 2002 منيت بفشل ذريع من حيث النتائج السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة. كما أنها لم تمنع صعود دول البريكس وحتى إيران النووية بسبب تورّط الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق وصمود المقاومتين فيهما.

رابعاً- الحقيقة الرابعة هي أن سوء التقدير في معظم أجهزة الإدارة أدّى إلى إخفاقات في السياسات. فسوء التقدير في الوزارة الخارجية كما سوء التقدير في أجهزة الاستخبارات في تقدير الرد الروسي على التحرّش الأميركي في كل من جورجيا وسورية وأوكرانيا يدّل على رداءة الإدارة الأميركية في مقاربة الأمور الدولية. وهذا السوء في التقدير ساهم إلى حدّ كبير في خسارة الهيبة الأميركية التي كانت تتحلّى بها حتى مطلع الألفية إلى أن حلّت سياسة المغامرات في كل من أفغانستان والعراق.

من هنا نفهم حكمة الرئيس الأميركي في عدم التورّط في مغامرة عسكرية جديدة سواء في سورية أو أوكرانيا وهذا ما يؤرق أو العديد من مراكز القوة داخل الحكومة الأميركية وعند بعض الحلفاء الإقليميين. في هذا السياق نذكّر أن بعض التقديرات حول النوايا الروسية كانت خاطئة جداً. اعتقد البعض، ومنهم الرئيس الأميركي، أن روسيا كانت تنوي غزو أوكرانيا وبالتالي كان الموقف الأميركي «حازماً» في منع روسيا من تحقيق ذلك الهدف. هذا مثل عن سياسة الإنكار والتكاذب على النفس. فروسيا لم تكن في وارد الغزو وإلا لقامت بذلك من دون أن يتمكّن الحلف الأطلسي من منعها. أما مسرحية العقوبات على روسيا والحث الأميركي على البديل عن الغاز الروسي ومنعه من تغذية أوروبا فكان الرد الاستراتيجي في توقيع أكبر صفقة غاز في العالم بين روسيا والصين. كما أن توثيق العلاقات بين الصين وروسيا جاء نتيجة الكلام التهديدي الأميركي وحلفاء الولايات المتحدة للصين. فمقولة «التحوّل إلى المحيط الهادئ» سرّع بالتحالف الصيني الروسي بعد التلكؤ في توقيع الاتفاق لمدة أكثر من عقد من الزمن! والدخول المرتقب لكل من إيران وسورية إلى ذلك الحلف يجعل من الصين موجودة على شواطئ البحر المتوسط. هذا هو نتيجة عبقرية المخطّطين في الإدارة الأميركية!

خامساً- إن سوء التقدير في الإدارة دليل على ترهّل الإدارة الأميركية. ليس ذلك الترهّل من صنع الرئيس أوباما أو حتى بوش بل نتيجة خطّ بياني يفرزه النظام السياسي القائم الذي لا يمكن إلاّ أن يأتي بأشخاص عديمي الكفاءة أو العلم أو الأخلاق أو جميعها. نلاحظ خطّ التردّي المستمر منذ نهاية ولاية ايزنهاور حيث الرؤساء الذين تولوا المنصب مفعمون بإحدى العلل الثلاث أو جميعها. فالنظام السياسي المبني على قوة المال في التمثيل السياسي يأتي بأشخاص مدينين بوجودهم في المراكز لأصحاب المال. نذكّر أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة كلّفت أكثر من ستة مليارات دولار فكيف يمكن لأي رئيس أو أي مسؤول أن يكون مستقلاّ في قراراته وحريصاً على المصلحة القومية بدلاً من المصالح الخاصة التي ساهمت في تمويل الحملة الانتخابية؟ وأصحاب المال حريصون على فرض قيادات طيّعة بسبب العلل الثلاث! طبعاً، إن حكم المال ليس الوحيد في تحمّل تلك المسؤولية بل هناك أسباب عدة أخرى كعدم تمثيل الأحزاب للتحوّلات الديمغرافية والسكّانية ودور الأقليات إلخ. ولكن هذا خارج إطار هذا البحث.

في النهاية نعتقد أننا سنرى المزيد من الإخفاقات الأميركية في العالم وذلك لأسباب موضوعية وذاتية في آن واحد. ستبقى الولايات المتحدة دولة قوية بين الأقوياء ولكن ليست لفترة طويلة إن لم تقدم على مراجعة جذرية لكل من نظامها السياسي والاقتصادي. فهل تستطيع النخب الأميركية من تأدية تلك المهمة؟ هذا ما نشكّ فيه والمستقبل سيكون الحكم.

أمين عام المنتدى القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى