هنا ولدنا وهنا سنحيا
د. يحيى أحمد
كل مرحلة من مراحل التاريخ التي حرقها الزمن العابر بها، بقيت مزدهرة في عقولنا وعقول الأجيال العابرة ، وحتى الأجيال الماضية عبر الزمن القادم إليها.
في شرقنا العزيز هذا، يلعب الماضي والحاضر مثلما يلعب المستقبل لعبته قبل وقوعه في حاضر هذه الأمة وبالطبع في مستقبلها الآتي ، فالماضي مرّ بكامل هيبته، وتجلياته، ومآسيه، تاركاً آثاراً ناعمة حيناً وخشنة أحياناً أخرى. كما ترك بصماته في ذاكرتنا عبر قراءات العديد من المفكرين الذين سبقوا المفكرين المعاصرين، وسوف يأكل من «نخاع» المفكرين الآتين مستقبلاً.
الثابت الوحيد أن هذه الأمة عبر التاريخ وشعوب هذه الأمة أثبتوا أنهم لا يعرفون العيش بلا كرامة، حتى لو عُرِفَتْ بعض العصور من تاريخنا ثمة مناقشة حولها ، وأقصد هنا «عصر الظلمات العربي» زمن الاحتلال العثماني، لكن حتى ذلك الحين لم نكن وصلنا إلى مفهوم «الإسلام السياسي الإرهابي» بالمفهوم المعاصر، أي بمفهوم الإسلام الأصولي، وهو «استخدام الدين لمآرب سياسية وغير سياسية، ولو عن طريق الإرهاب». لتشويه صورة الإسلام الحنيف الذي يشكل جزءاً مهمّاً من الخلفية الثقافية لمجتمعاتنا العربية.
سابقاً كان جميع من في الدولة يعيش حالة انتفاضة وثورة على من يتجرّأ ويمس بالكرامة، وكانت هذه الحالة تجمع أفئدة الرجال عبر الأصقاع، وخير مثال حادثة « وامعتصماه». واليوم ليس بعيداً عن الأمس، إذ تُصّرُ هذه الأمة وناسها على التمسك بهذا الصرح الذي لن يزول، رغم القهر المعتّق، والقمع المعلّب ببعض عصي السلطات، والجوع المتدفق من قصور الملوك والأمراء والرؤساء، ورغم محاولات التجهيل وزرع الفتنة بين أبناء التاريخ الواحد والمشترك، رغم ذلك كلّه تبقى فئات من شعوب هذه الأمة تتصرف بغريزة جميلة، فهي لا تزال ثائرة لكرامتها ولوطينتها واستعادة مجدها الغابر.
انتفاضة عبرت في بلاد العرب الأفريقية، لكنها ما زالت في حاجة إلى التصويب، وسحب يد أمراء فقاعة النفط بالوكالة عنها كي تتحوّل إلى ثورات حقيقية شعارها الأول «التحرر الوطني أولاً» قبل رفع الشعارات البراقة من الديمقراطية والحرية والسيادة وغير ذلك من الشعارات التي تمَّ تجويفها، والتي ستبقى جوفاء من دون تحقيق التحرر الوطني أولاً، وهذا التحرر الوطني كي لا يكون عبارة فضفاضة أخرى يجب تعريفه وتحديده، التحرر الوطني هو الاستقلال عن الاستعمار بالمطلق وعدم فك الارتباط عن واجب تحرير كامل التراب الفلسطيني، فالأمران متلازمان بالضرورة وبحكم صيرورة التاريخ، فالأمة واحدة ولم تكن فلسطين يوماً إلاّ في قلب المنطقة وقلب الصراع، فلسطين حطين وعين جالوت وأريحا، وفلسطين الأقصى وكنيسة القيامة التي أقصيت من القواميس، فلسطين هي كل بقعة فيها. شهدت هذه معركة نصر، وتلك معركة عزة، وثمة مجزرة لن ينساها التاريخ. فلسطين الذبيحة اليوم والخالدة أبداً في قلوبنا. فلسطين هذه لم تكن بعيدة عن مصر النيل، أو سورية الشام، أو عراق الرافدين.
هي قلب الحدث وجوهرة الضمير المضيئة، من أراد الابتعاد عنها داس على كرامته، ومن اقترب منها اشتعل بنار العزة الثائرة، وبعنفوان الكرامة الزاهرة، فيزهر تاريخه بشقائق النعمان.
هنا يثبت الشعب السوري حقاً، ميله إلى التشبث بكرامته وربطها بالقضية الأم فلسطين، في حين سارع مجلسها «الوطني» المصطنع والملفق إلى بيع القضية أولاً للوصول إلى السلطة ثانياً وهو مغمّس بالخيانة والعمالة وانعدام الكرامة، وهذا ما رفضه الشعب السوري بامتياز.
اليوم أثبت السوريون أنهم يستطيعون بوحدتهم وولائهم لوطنهم وبتمسكهم بكرامتهم وبإرادتهم، محتفظين برؤوسهم شامخة، أثبتوا أنهم قادرين على قهر جبروت أقوى دول العالم ومن معها من القوى الظلامية الأخرى.
هنا انتصر الظاهر بيبرس في عين جالوت ضد أقوى قوتين معاصرتين له هما التتار والصليبيين، وهنا مرَّ صلاح الدين ليسطّر ملحمة خالدة لن تنسى أبداً، وهنا في ميسلون قال يوسف العظمة كلمته، وهاهنا اليوم يقول الشعب السوري كلمته بلا خوف أو وجل.
في ميسلون خسر الشعب السوري حريته لبرهة من الزمن، لكنه لم يخسر كرامته. واليوم يربح الشعب السوري الإثنين معاً، تنتصر إرادة الحرية والكرامة على المتآمرين من الشرق والغرب ومن معهم ممن تعرّى من جلده من أجراء وعبيد فقاعة النفط. اليوم يقول السوريون: «نحن مسلّحون بأقوى سلاح، عشقنا لكرامتنا، لذلك سوف ننتصر عليكم يا من بعتم كل شيء، حتى أرواحكم، للشيطان الأكبر أميركا».
اليوم يقول الشعب السوري بجميع أطيافه، وبجميع من معه من الشرفاء المناضلين، القوميين، والجميع يقول: «سوف نغيّر وجه التاريخ».