ويسألون: «لماذا فلسطين»؟
معن بشور
يسألنا عدد من الأخوة والأصدقاء عن سبب تركيزنا في معظم مبادراتنا وأنشطتنا وأحاديثنا على قضية فلسطين بمختلف عناوينها، فيما لبنان غارق في الأزمات على أنواعها، وآخرها أزمة النفايات، وفيما الوطن العربي يحترق بالانقسام والاحتراب والفتنة والعدوان في أبرز أقطاره.
وغالباً ما تكون أولى الإجابات على هذه الأسئلة القلقة، هو أننا نركز على فلسطين، القضية والشعب والمقاومة، لأننا نعتقد أن أصل أزماتنا كلها، على مستوى الأمة كما الأقطار، هو في المشروع الصهيوني والاستعماري الذي سعى في أوائل القرن الماضي إلى تجزئة الأمة إلى كيانات، ويسعى منذ أوائل هذا القرن إلى تفتيت هذه الكيانات وتحويلها إلى ساحات احتراب أهلي متواصل بين مكوناتها.
وحين رفع الكثيرون شعار «فلسطين هي البوصلة» لا سيّما مع اندلاع الفتن في المنطقة تحت ذرائع مختلفة، كان المطلوب ترجمة هذا الشعار إلى مبادرات وفعاليات ومواقف يومية تعيد تصويب اهتماماتنا إلى حيث الاهتمام الأصل بعد أن اقتنعنا بالملموس أنّ الكثير مما نراه حولنا من أهوال وانقسامات وحروب إنما يهدف إلى أن تصبح قضيتنا المركزية في فلسطين قضية فرعية، وأن تتحول قضيتنا المحورية إلى قضية جانبية، بل أن تغيب تماماً عن اهتماماتنا. أن يصبح لنا عدو رئيسي غير العدو الصهيوني.
وأول الردود على مخطط التفتيت والتدمير ودعوات الانصراف عن قضيتنا المركزية هي في أن تعود هذه القضية لتتصدر من جديد اهتماماتنا، وأن تعود من جديد مقياساً لسلامة أي مبادرة نطلقها أو فعل نقوم به أو موقف نتخذه. بل أن تصبح حافزاً لكي نتعالى جميعاً عن جراحنا على أهميتها، ودافعاً للتلاقي من أجل القضايا الأخرى، التي تشغل مجتمعاتنا ودولنا. فحينها يصبح في أيدينا كل المبررات، الوطنية والقومية، الشرعية والدينية، القانونية والدستورية، للتصدي لمشاريع العبث بوحدة مجتمعاتنا، ومخططات تدمير دولنا وتمزيق كياناتنا، بل بشكل خاص التصدي لمحاولات الانقضاض على جيوشنا فنتذكر انه لم تكن صدفة أن يكون أول قرار للاحتلال الأميركي في العراق هو حلّ جيشه الباسل، وتدمير بناه التحتية ومرافقه الأساسية ومعالمه التاريخية، وإطلاق دستور ينكر على العراق عروبته، ويقيم فيه نظام المحاصصة الطائفية، ويشرعن الاجتثاث لينال من حركة عريقة طالما جسدت وحدة العراق وعروبته وتحرره على رغم كل ما انتاب مسيرتها من أخطاء وخطايا…
ألم يكن الذي نفذه المحتل الأميركي، وبقرار صهيوني، أساساً، في العراق هو ما يسعى المشروع الأميركي الصهيوني، وبأدوات متعددة، إلى تنفيذه اليوم في أقطار مركزية كسورية ومصر واليمن وليبيا، ودائماً في فلسطين.
بل ألم يكن ما شهده لبنان من حرب فيه، وحرب عليه، وما يشهده اليوم من تداعيات لتلك الحرب، هو أحد تداعيات المشروع الصهيوني الذي فجر حرب 1975 باسم مواجهة المقاومة الفلسطينية ليتكشف هدفه الحقيقي بعد عام 1982 وهو تمزيق لبنان وتفتيته وإنهاء وجوده كوطن له رسالته، أو كرسالة تتجسد في وطن…
بل ألم يكن ما شهدته سورية، منذ الاستقلال، من مخططات ومؤامرات وأحلاف وصولاً إلى ما تشهده منذ سنوات من حرب كونية تستهدف وجودها ووحدتها ودولتها وجيشها هو ثأر من شعب ما لان يوماً، أو هان، في تمسكه بقضية فلسطين، أو بالمقاومة من أجلها.
ثم ألم يكن ما شهده العراق من حروب واحتلال وتداعياتها يتضح يوماً بعد يوم إنها كانت قراراً صهيونياً نفذته واشنطن وحلفاؤها، انتقاماً من جيش كان في طليعة من يلبي نداء الدفاع عن فلسطين في كل الحروب، ومن شعب ما بخل يوماً في مدّ المقاومة الفلسطينية بكل أشكال الدعم، وفي أقسى الظروف، بل انتقاماً ممن كان له شرف المبادرة في تحصين بلده بالعلم والعلماء وشرف المحاولة في بناء مفاعل نووي، وصولاً لشرف السبق في إطلاق صواريخ، وصلت للمرة الأولى، إلى قلب عاصمته تل أبيب.
ثم ألم يكن ما شهدته الجزائر في «العشرية الدامية» من احتراب أدى إلى سقوط مئات الآلاف من الشهداء، إلا ثمناً لوقفة الجزائر الحاسمة منذ استقلالها دفاعاً عن فلسطين، فاستضافت أول مكتب لحركة «فتح» في أواسط الستينات، وتولى رئيسها الراحل هواري بومدين عبء تمويل صفقات السلاح لمصر من الاتحاد السوفياتي بعد نكسة 1967، وقامت دولتها بدعم حركات التحرر العربية والأفريقية في مناهضتها للاستعمار.
هل يمكن أيضاً أن نقرأ ما نراه في مصر من محاولات لزعزعة استقرارها، واستهداف قواتها المسلحة، وضرب اقتصادها، مشروعاً بعيداً عن العداء الصهيوني والاستعماري لمصر وتاريخها المليء بلوحات في مقاومة الغزاة الطامعين بأرضنا العربية، بل بدور مصر في الدفاع لعقود عن الأمن القومي العربي، وبإصرار قواتها المسلحة، على رغم اتفاقيات كمب ديفيد، أن تُبقي في عقيدتها العسكرية الكيان الصهيوني عدواً رئيسياً لمصر، كما بعزم شعبها، بكل قواه وتياراته، على مقاومة التطبيع الشعبي على رغم محاولات التطبيع الرسمي.
حتى ما يجري في اليمن أليس في بعض جوانبه بعض الانتقام الاستعماري والصهيوني من بلد طالما لبى نداء فلسطين من تظاهرات مليونية إلى إرسال مئات المتطوعين الذين جاؤوا إلى لبنان خلال الغزو الصهيوني عام 1982، ليدافعوا عن عاصمته وعن المقاومة الفلسطينية، فتوحد أبناء اليمن بشطريه على أرض لبنان قبل أن يتوحدوا في بلادهم.
وليبيا بوابة مصر الغربية، التي قدّم شعبها الكثير من أجل فلسطين على مدى العقود، أليس استهدافها اليوم بفتنة «الناتو» وشركائه هو جزء من «تدفيع الثمن» لمواقف شعبها القومية خصوصاً بعد أن أصبح شعار «تدفيع الثمن» أكثر من اسم لعصابات المستوطنين المتوحشين المتخصصين بقتل الفلسطينيين، بل بات عنواناً لإستراتيجية يعتمدها المشروع الصهيوني الأميركي في كل أقطار وطننا العربي من دون استثناء، مستغلاً بنجاح تلك المعادلة الخطيرة التي تحكم أمتنا، وهي معادلة الغلو على المستوى الشعبي، والتغوّل على المستوى الرسمي وكلاهما يغذي الآخر.
وما نقوله اليوم ليس مجرد استنتاجات عقائدية، بل وقائع ثبتتها وثائق صهيونية رأينا بعضها في خمسينات القرن الماضي حول لبنان مرسلة شاريت = بن غوريون ، ورأينا بعضها الآخر في تسعينات القرن نفسه حول السودان وما بينهما.
لذلك، فان الخطوة الأولى في رحلة الخروج من العصر الإسرائيلي المتمادي منذ عقود في بلادنا، سواء في مشرق الوطن الكبير أو مغربه هو في إعادة تسليط الأضواء على جرائم الكيان الصهيوني واحتضان نضال الشعب الفلسطيني، المقاوم والمنتفض منذ أكثر من قرن، بل ودعم كل مقاومة لهذا الكيان في أي موقع كان، سواء كانت هذه المقاومة بالسلاح أو الكلمة أو الموقف أو بالثقافة وهي الجذر الأصيل لكل مقاومة، بل بإدراك التكامل بين هذه المقاومات العربية والإسلامية، من فلسطين إلى العراق إلى لبنان ورفض أي ازدواجية في التعامل معها، حيث ندعم الواحدة منها ونهاجم الأخرى، بهذه الذريعة أو تلك.
إذن، بإعادة التركيز على العدو الرئيسي للأمة، نسقط المحاولات الجارية من أجل استبداله بعدو آخر، أو من أجل نسيانه تماماً في غمرة انشغالنا في صراعات الداخل إلى حدّ أن بعض المتورطين في هذا الصراع لا يجد ضيراً في الاستقواء بهذا العدو على بلده ودولته وجيشه، وهو ما شهدناه في لبنان منذ اندلاع الحرب فيه قبل أربعين عاماً، ليكتشف «المستقوون» إن العدو يستخدم «المستقوين» به لمصلحة أغراضه ومخططاته، ثم يتخلى عنهم حين يتحولون إلى أعباء عليه ومثال جيش لحد واضح .
وبهذا المعنى أيضاً فقضية فلسطين، بما هي قضية مواجهة للمشروع الصهيوني الاستعماري بكل تفاصيله وعناوينه، هي قضية داخلية في كل قطر، كما هي قضية أساسية خاصة لكل جماعة أو فئة أو حزب أو مكوّن من مكونات الأقطار. بل إن التركيز عليها لا يعني، أبداً إغفال القضايا الأخرى ذات الأهمية البالغة والتي أدى إهمال إيجاد حلول لها إلى ما نراه من تصدعات وصراعات.
ثم إذا كان المشروع الصهيوني الاستعماري بعنوانه الراهن «الشرق الأوسط الكبير أو الجديد» هو مشروع تفتيت المنطقة بأسرها، فهل يكون الرد عليه بغير الالتفاف حول القضايا التي تجمعنا، وتخرجنا من حال الانقسام التي نعيشها لانهماكنا في الصغائر، وعلى رأس هذه القضايا قضية فلسطين وما فيها من مقدسات ودلالات، وهل يمكن المواجهة التاريخية بغير الثقافة التي توحدنا كمجتمعات وأقطار، ثم كأمة ما قام الكيان الصهيوني أساساً إلا ليشكل حاجزاً بشرياً استيطانياً لتجزئتها بالأمس، ولتفتيتها اليوم.
وبهذا المعنى أيضاً، ففلسطين باتت قضية الأمة كلها، قضية وحدتها التي لا تقوم النهضة من دونها لذلك كان شعارنا منذ عقود «فلسطين طريق الوحدة، والوحدة طريق فلسطين».
فلندافع عن أمن كل أقطارنا وعن أمننا القومي، وعن استقرار كل بلادنا ووحدتها الوطنية، من خلال التركيز على فلسطين، قضية وشعباً، مقاومة وانتفاضة، أسرى وشهداء، ونبني حولها وحدة أمتنا كما نبني جبهة عالمية ضد العنصرية الصهيونية والهيمنة الاستعمارية تكون مدخلاً للنضال من أجل عالم أكثر عدلاً وتحرراً وأكثر توازناً وتعدداً، وأكثر إنسانية ومساواة.