سيف ذو حدّين
روزانا رماّل
بصرخة وصلت إلى السراي الحكومية ومسامع المسؤولين اللبنانيين وزعماء الطوائف، تحرك المواطنون في ساحتي رياض الصلح والشهداء مطالبين بالحقّ المشروع وبالحياة الكريمة. هي مطالب لن يتخلوا عنها بعد اليوم «لن نتخاذل أمام أبنائنا ولن نتخلى عن مسؤولياتنا تجاه حقهم في العيش في وطن منظم» هكذا كان الصوت مدوِّياً.
حماس الشباب في الساحات كان أحد أبرز عوامل الحشد التي نقلتها شاشات التلفزة المحلية والعالمية، فالصورة التي تعيشها شوارع وسط بيروت صورة لم تشهدها البلاد منذ إعلان الاستقلال، لما لها من خصوصية حقيقية. فالمواطنون لأول مرة على الأرض بلا زعامات ولا قيادات ولا رجال دين ولا قادة محاور، من دون قائد فالقائد الوحيد في نفوسهم هو وطنهم لبنان.
المشهد الملفت والمطمئن في الوقت نفسه، أكد أنّ هناك منسوباً جدياً من الوعي وانسلاخاً عن الأفكار الحزبية والتقسيمية، وأنّ النوايا تجاه الوحدة بين فئات عمرية متقاربة تعتبر أجيال البلاد القادمة هي السمة الغالبة على الشارع، فهم يرفضون الهجرة وتحركوا من أجل التغيير، الأمر الوحيد القادر على ضمان بقائهم في لبنان والتعلم والعمل والعيش الكريم فيه.
وبالرغم من التحول الهام في ذهنية المواطن اللبناني، إلا أنّ الأمور واقعاً لا تدلّ على أنّ الصورة التي ظهرت سيتم التعامل معها بطريقة تحافظ على الرسالة التي أراد المتظاهرون إيصالها، فالاستغلال السياسي على ما يبدو يتسلسل إلى زوايا الشوارع وأوساط المحتجين، لهذا فإنّ خطر الفوضى يلوح في الأفق وقد ظهر منها مساء أمس ما يكفي ليدلّ على أنّ الأمور يمكن أن تتدهور بسرعة.
بالمطلق يرفض القيمون على التحرك استغلاله لأغراض سياسية إلا أنه يبدو، ولسوء حظهم، أنّ هذا قد حصل فبعض المواقف الداعمة كادت تكون دليلاً على تصفية الحسابات بين أهل السياسة والزعامة، فتصدّر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط المشهد بدعم فُهم تصويباً مباشراً على وزير الداخلية نهاد المشنوق، وقد حرص جنبلاط على إيصال صوته على أكثر من منبر ووسيلة إعلامية حتى تضمنت معظم كلمته شعارات تنديد واستنكار للعنف الذي ظهر من قبل قوى الأمن الداخلي، مطالباً بالمحاسبة ليردّ المشنوق، بدوره، على جنبلاط عارفاً بخلفيات الأخير محاولاً تهدئة الأوضاع بالتنصل مما جرى بحجة وجوده خارج البلاد ليعود ويعلن أنّ المحاسبة آتية.
حرب جنبلاط المشنوق من جهة، ومساعي جنبلاط للكسب من أزمة النفايات بين شركات ومطامر ومواقف من جهة أخرى، وبين آراء تتحدث عن محاولات قطع الطريق على الحراك الذي كان ينوي تكتل التغيير والإصلاح القيام به وما يمكن أن يساهم به هكذا تظاهرات من إطالة عمر الأزمات إلى أن تلوح في الأفق تسويات المنطقة ومن بينها لبنان. كلها حسابات وتقديرات حاصرت التحرك عموماً.
التحرك بأوجه استغلاله المتعدّدة أشرف عليها الإعلام اللبناني وأدارها لصالح الزعماء واصطف مع هذا ضدّ ذاك ونقل الصورة مشكلاً العنصر الأهم في الحشد في الشارع لكنّ ما جرى كان مختلفاً.
المؤسف أنّ الإعلام الذي لم يكن يتابع الحراك في بداياته ولم يكن ينقل تفاصيله مباشرة لساعات طويلة، والذي كان لا يرى فيه تحركاً جدياً انتقل ليتابع أدقّ تفاصيله بعدما تحرك بعض الشباب نحو الأسلاك الشائكة واشتبكوا مع قوى الأمن في تظاهرة سابقة ليستقطبوا الإعلام كمقدمة تنذر بتصعيد مقبل.
الملفت كان العدد الكبير للمحتجين والذي قدر بعشرة آلاف شخص في وقت كان تواجد ألف شخص مهمة صعبة عند المنظمين لتتوالى الأسئلة: هل هناك من ضخّ دماء جديدة تابعة لأحزاب أرادت إنجاح الحراك لاستغلاله من وراء الكواليس؟ الأسئلة التي طغت على الشارع كانت أيضاً مخاوف من تواجد بعض الشبان في صفوف منظمي حملة «طلعت ريحتكن» ككوادر رئيسية وهم معروفو الانتماء وموظفون لحساب السفارة الأميركية، البعض منهم استخدمه مراراً لمواجهة سلاح حزب الله وهم أنفسهم من يسمون وظائفهم مؤسسات مجتمع مدني، وبالتالي كيف يمكن طمأنة المتابعين وعدم إفساد مساعي الاستقلالية عن أي جهة سياسية كما قدموا أنفسهم؟
المشهد تطور دراماتيكياً ليصبح شغباً غير محدود بين المحتجين ورجال الأمن لتعلو الاتهامات حول مدسوسين بدأت التراشقات الإعلامية ترسلها علناً لحساب زعامات أوعزت إليها خوض اللعبة بحرفية. إذاً، خرج الحراك عن سلميته وبدأت مخاوف الانزلاق جدياً نحو الأسوأ.
يعرف الجميع خطورة الشارع ولعبته الغير محسوبة النتائج، فهذا الشارع الذي يمكن حشده قد يخرج عن السيطرة مع وجود قادة، فكيف بالحال في غياب أي قيادة واضحة للتجمع، ما يجعل الاستغلال أكبر من دون تحمل مسؤوليات وبالتالي يدخل الحراك ضمن لعبة تنفيذ المشاريع السياسية ضمناً.
لعبة الشارع، على أهميتها في التغيير، هي سيف ذو حدين يعيش لبنان مخاطرها بوضوح ويترقب مولوداً جديداً سيظهر بلا شك عن الحراك، وإن كانت أولى صفاته قد لاحت في الأفق وهي اللاطائفية، لكنّ المشهد لم يكتمل بالتأكيد وهذا المولود أمام امتحانات كثيرة ليبقى الأهم مخاوف الانزلاق نحو لعبة الدماء التي إذا بدأت قد تقلب الحدث رأساً على عقب، والكلّ مدعو هنا للمحاسبة.