سوق المهن والحرف التقليدية… إبداع الأنامل السورية

لورا محمود

دمشق أرض الحضارات وأكثرها عراقة وتميزاً، كانت ولا تزال تقدم إبداعاتها وأجمل صناعاتها ذات الجودة والأصالة لتؤكد وتثبت للعالم رقي هويتها. فبين أحضان «التكية» السليمانية يوجد سوق المهن اليدوية في دمشق المتكئ على جدار المتحف الحربي. هناك تبدأ الحكايات التي تروي نفسها، فرائحة التاريخ تعبق بالمكان وأيضاً بالقطع التراثية التي صنعتها يد حرفية دمشقية ماهرة.

يُعتبر سوق المهن اليدوية في دمشق واحداً من الأسواق المهمّة التي تضمّ معظم الحرف التقليدية التراثية، ويضم السوق أكثر من تسع عشرة حرفة يدوية قديمة، وهو مقصد مهم للسياح منذ آلاف السنين.

ويُعدّ الحرفي السوري من أمهر الحرفيين في العالم، فهو يتميز بالمهارة والدقة والأناقة في التنفيذ، وقد نشر الكثير من الحرف حول العالم لم تكن معروفة، وقد أسهمت هذه الصناعات المتميزة في تأكيد الهوية الحضارية لبلاد الشام وأهلها، وعبّرت عن رُقي شعبها منذ القدم.

يقع سوق الحرف اليدوية الدمشقية في قلب العاصمة، له بوابة واسعة يعلوها قوس حجري، يدخل منها الزائر ليجد مجموعة من المحال الصغيرة والمتناسقة على صفين متقابلين متوازيين، بينهما شارع ضيق بعرض ستة أمتار وطول 200 متر تقريباً، يتجه من الغرب إلى الشرق.

وتسمى المنطقة التي تحتضن هذا السوق بـ«القنوات» وهي تقع بموازاة مجرى نهر بردى، بجوار التكية السليمانية، وللسوق مدخلان من التكية نفسها ومن سوق المكتبات المعروف في «حي الحجاز الحلبوني».

يضمّ السوق ما يزيد عن خمسين محلاً، يعمل أصحابها في مختلف المهن والحرف اليدوية القديمة ومنها:

العجمي: أي صناعة اللوحات الخشبية الملونة، والتي تزين البيوت الدمشقية القديمة ذات القيمة الفنية والجمالية الرائعة، وهي تتزين بزخارف وديكورات شرقية تعتمد على الخشب كمادة أساسية، بحيث يقوم الحرفيون بلصق مادة تركيبية على الخشب تعطيه بروزاً معيناً، لتأتي مرحلة التلوين وغالباً ما تكون الألوان حسب الرغبة.

البروكار الدمشقي: يُصنع البروكار على نول يدوي يتجاوز عمره 190 سنة، وربما كان آخر نول ينسج بتركيبته البسيطة أجمل الأقمشة.

وهناك أيضاً مهن أخرى كالخط العربي وصياغة الفضيات والحلي اليدوية والقيشاني والفسيفساء والصياغة الذهبية والحفر على الخشب والموزاييك والصدف وحياكة السجاد والبسط والمطرزات الشرقية والجفصين والفن التشكيلي والزجاج المعشق، ويوجد في السوق معمل للزجاج والجلديات والقش والعود الشرقي والفخار والسيراميك.

ترميم السوق

في أواخر العام 2014 وبالتعاون بين برنامج «السورية للحرف» و«الأمانة السورية للتنمية» و«المديرية العامة للآثار والمتاحف»، وطلاب من كلية الآثار والمتاحف، وانطلاقاً من الحرص المشترك على التراث السوري، أجريت أعمال تنظيف وترميم لواجهتين حجريتين أثريتين، في سوق المهن اليدوية، لكنّ السوق يحتاج إلى جهود جادة وكبيرة لإنقاذه مع تزايد التشققات والتصدعات في بعض الجدران والسقوق، رغم وجود الدعائم الحديدية، بحيث يلحظ الزائر التباعد والتصدع الحاصل في الجدران والتشققات في سقوف بعض القبب الخارجية المحيطة بباحة المسجد، إضافة إلى تحول باحة المسجد التي كانت مستوية إلى باحة متعرجة نتيجة البروز والخسف والتجويفات الأرضية على كامل مساحتها تقريباً بدءاً من المدخل، الأمر الذي يشكل هاجساً يومياً يؤرق الحرفيين وأصحاب محال الحرف التقليدية في سوق المهن اليدوية.

بعض الحرفيين هاجر بسبب الأزمة

يحاول سوق المهن اليدوية في التكية السليمانية مقاومة آثار الأزمة في سورية والتي تركت بصمتها الثقيلة ليس على السوق فقط، بل على قطاع الحرف اليدوية بأكمله، حيث يتجاوز الضرر الذي أصاب قطاع الحرف اليدوية في سورية نسبة 80 في المئة جرّاء الحرب المتواصلة التي تسببت بهجرة شيوخ الكار، وأصابت الحرفيين المتبقين بالويلات، نتيجة خسارة ورشهم وغلاء مستلزمات الإنتاج وعدم وجود أسواق لتصريف منتجاتهم، وأيضاً الإغراءات الكبيرة التي تقدمها الدول الخليجية والأوروبية للحرفيين، بالإضافة إلى المنافسة القوية من قبل المنتجات المصنعة آلياً والتي أزاحتها بسهولة وحلت محلها في معظم أسواقنا المحلية، ما جعل المهن اليدوية والحرف الفنية مهدّدة بالاندثار.

الاهتمام الأهلي والحكومي

بتاريخ 2 ـ 4 ـ 2013، أصدرت وزارة السياحة السورية القرار رقم 664 الذي تضمن تشكيل المجلس العالي للحرف التقليدية والذي يضمّ ممثلين عن كافة الجهات الحكومية والخاصة والأهلية، ويهدف هذا المجلس إلى متابعة جميع الإجراءات الكفيلة للنهوض بالصناعات التقليدية اليدوية والارتقاء بها ورفع قدرتها التنافسية في الأسواق المحلية والعالمية، ودعم الحرفيين في ظلّ الظروف الاستثنائية التي يمرّ بها قطاع المهن التراثية التي تتطلب تضافراً كبيراً للجهود المبذولة بين كافة الجهات المعنية.

أما عن المبادرات الأهلية، فيعدُّ مشروع السوريّة للحرف «أبهة»، وهو أحد برامج الأمانة السورية للتنمية وهي منظمة غير حكومية من المشاريع المهمّة الهادفة إلى دعم الحرف التقليدية، ومنعها من الاندثار. ويسعى هذا المشروع إلى إيجاد الحرفيين وتقديم الدعم لهم وتوفير المستلزمات كافة، للحرفي لتدريب الراغبين في تعلم مهنته، كما يعمل على تنظيم دورات تدريبية للنساء وتأمين فرص عمل لعدد من الأسر المتضرّرة، فمشروع «أبهة» هدفه جمع التراث السوري بطريقة عصرية، ونشر ثقافته داخلياً وخارجياً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى