انتبهوا… قبل أن يسبق السيف العذل
د. سلوى خليل الأمين
غريب أن يتغنّى لبنان بالحرية والديمقراطية ومن ثم يتمّ قمع شباب الوطن وناسه الطيبين، الذين غمرتهم النفايات بروائحها الكريهة فتنادوا إلى توحيد الصفوف ونبذ الخلافات والنزول إلى الساحة لإيصال أصواتهم المعترضة على تصرّفات المسؤولين العرجاء التي زادت من تفاقمها قضية النفايات وما يتبعها من أمراض بدأت تتغلغل في أجساد الناس بشكل لا يحمد عقباه، والأغرب أن يتمّ إرسال جماعات الشغب التي تنتمي إلى بعض المتضرّرين من الحراك الشعبي العفوي الذي حوّل وسط بيروت بعد نهار هادئ، ضمّ شرائح المجتمع اللبناني من كلّ الفئات وشاهدتهم بأمّ عيني، مجموعات مجموعات من: أطباء، مثقفين، فنانين، مهندسين، محامين، وسيدات مجتمع وكلهم يرفعون ألسنتهم بالدعاء: «يا رب تنجح حركة هالشباب، ما عاد فينا نتحمّل، نحن مهجرون حتى داخل الوطن، بتنا الغرباء في وطننا، والغرباء أستحلوا الوطن بكلّ ما فيه، والزعامات السياسية لا همّ لها سوى التربّع على الكراسي وتفريغ الخزينة التي هي بيت مال الشعب ووضعها في خزائنهم الخاصة، عملوا محكمة لمجرد رئيس حكومة اغتيل، طيب اغتيل رئيس حكومة هو رشيد كرامي وهو في سدة المسؤولية والآخر خارجها، ولم تتمّ إقامة محكمة دولية من أجله، ندفع نحن تكاليفها من عرقنا ولقمة عيشنا… قرفنا… قرفنا».
هذا ما سمعته وأنا واقفة عند مبنى اللعازارية، خائفة من دسائس قد تحصل، خصوصاً وقد لمحت بعض الشباب المفتولي العضلات، والموشومة سواعدهم، ووجوههم مطلية بالبودرة البيضاء للتمويه، حين سألتهم زميلتي استاذة القانون في الجامعة: لماذا تغطون وجوهكم هكذا، أجابوها نحن شباب الشغب، حينها قفلنا عائدين إلى منازلنا، وسحبت بناتي من الساحة خوفاً عليهن… وقلت لصديقتي: بدأت فصول المؤامرة على الشباب وحركتهم وهذه بداية كمّ الأفواه وإفشال التحرك، فالحرية عندهم يا صديقتي مزيفة، وطرح شعاراتها هي للاستهلاك المحلي فقط، لقد عملوا سابقاً على إفشال حركة الشباب العلماني، وهذا ما يريدون أن يفعلوه الآن، هم الأبالسة الذين تربّعوا على أعناقنا، يتشاطرون بجز رقابنا وكمّ أفواهنا وسرقة لقمة عيشنا، وهم يهدرون كراماتنا ويهجّرون أبناءنا حيث بيوتنا فارغة من فلذات الأكباد شباناً وشابات، وأولادهم يغرقون في قطف المشاريع المهيأة لهم سلفاً فور التخرّج من الجامعات وبناتنا بلا وظائف لأننا لن ولن نرضى باستجداء الوظيفة من زعماء الطوائف.
إنّ المشاركة في هذه الحركة هي واجب وطني، وكلنا مسؤول عن تغيير هذا الكابوس الضاغط على عقولنا وأعناقنا وقلوبنا، مهما اختلفت الوسائل، حيث سلاح المعركة الفايسبوكية التى لاقت رواجاً كبيراً مهمة أيضاً، خصوصاً حين تتمتع بصراحة مطلقة وحقيقية، لأنه لم يعد جائزاً بعد اليوم التكتم على تجاوزات المسؤولين الفاسدين، ومن الواجب تسليط الضوء على كلّ تجاوزاتهم وألاعيبهم اللامسؤولة واللاوطنية، وهذا واجبنا كمثقفين وفنانين ومواطنين مؤمنين بقيامة لبنان من بين الأنقاض، حيث يبقى الأمل المرتجى هو إعادة الصورة الحقيقية للبنان كبلد للإشعاع والنور.
بالفعل طلعت ريحتهم، ريحة السمسرات والفساد والرشاوى التي تتم دون استحياء أو خوف من عقاب ما، وهذا يثبت ما نقوله من خلال ما عرفناه عن خلافاتهم على فضّ عروض النفايات التي يريدونها 6 و 6 مكرّر كما فعلوا بملف النفط، حين تركوا لـ«إسرائيل» حرية الحركة في مياهنا الإقليمية وسرقة ثروتنا النفطية والغازية.
لقد تعاملوا في اليوم الأول مع الشباب على أنهم عصابات ومرتزقة، أما كان من الأفضل التعاطي مع عصابات الإرهاب في عرسال و«داعش» و«النصرة» التي خطفت العسكريين اللبنانيين بنفس الطريقة، ومع رئيس بلدية عرسال الذي تمّت مكافأته بـ15 مليون دولار على فعلته السوداء، عوض إدخاله السجن؟!
ثم كيف يطالبون الناس بالصمت وهم يعيشون في نعيم المال الوفير، وبذخ القصور ووساعة الدور والفيلات المبنية من مال الشعب، والشباب بلا وظائف، يعني عاطلين عن العمل، مع ما تنتج هذه الحالة من الانشداد إلى العصابات الإرهابية التكفيرية، مع العلم أنّ البطالة تسبّب العنوسة للشباب والشابات، وهذه مشكلة لم ينتبه لها المسؤولون أيضاً، عبر وضعهم الخطط الإسكانية التي تؤمّن المساكن، التي يجب أن تبنى على مشاعات الدولة، التي تتمّ سرقتها أيضاً من قبل أعوانهم وحاشيتهم ومن يلوذ بهم من أصحاب رؤوس الأموال، وأن يمنح المسكن بقسط يناسب الراتب كهدية زواج تشجيعية، دون إجبار المقدّم على الزواج من تأمين الدفعة الأولى، التي قد لا يتمكن من تأمينها بسبب ضآلة الرواتب، كما تفعل الدول المتحضّرة ومن يجاورنا من الدول العربية.
إنّ لقمة العيش المفقودة التي تسبّب نواب الشعب وحكامهم ووزرائهم بفقدانها، هي المسبّب لكلّ ما جرى، علما أنّ تراكم النفايات هي من قصمت ظهر البعير، لهذا انفجر البركان، ولن يستطيع أحد إخماده بعد اليوم، لأنّ اللبنانيين جميعهم توافقوا على كرامة عيشهم وحقهم في الكهرباء 24 على 24، وبأقساط مدارس تنسجم مع مدخرات جيوبهم، ومع توقيع سلسلة الرتب والرواتب الموجودة في الأدراج بالسرعة القصوى، حين رواتب النواب والوزراء ومخصصاتهم إلى ازدياد، وحين الماء غزير في خراطيم سياراتهم العسكرية ونقطة الماء مفقودة في بيوت الفقراء، واليوم يجاهرون بقطع رواتب الموظفين، ونسأل بأيّ حق؟ ألم تنهبوا الخزينة وتضعوا أموال الشعب ومستحقاته في جيوبكم وجيوب أعوانكم وزوجاتكم وحاشيتكم وعائلاتكم وكلّ من ينتمي إليكم، إذا من المستحسن ضخ جزء من هذه الأموال المنهوبة إلى خزينة بيت المال، ودفع الرواتب بأسرع ما يمكن، لأنّ هذا الفعل إنْ تمّ كما يقول وزير المالية، سيحدث ثورة قد لا تبقي ولا تذر، حين تتحرك النخب بمختلف طبقاتها، ولات ساعة مندم.
لقد تشاطروا زمناً بالتظاهرات المليونية، ضحكوا على الناس كي يتمّ لهم التربع على الكراسي الرئاسية والوزارية والنيابية، ومن ثم عمدوا إلى تمرير سياساتهم العرجاء المبنية على بث الفتن الطائفية والمذهبية والمناطقية، ونسوا أنّ الشعب اللبناني شعب ودود حين يحيق الخطر بلقمة العيش والكرامة، حيث يتوحدون يداً بيد، وهذا ما حصل في تحركات الناس في اليومين الماضيين، فالكلّ جاهر بأنه لبناني، حيث لا إسلام ولا مسيحيية ولا 8 ولا 14 آذار بل الكلّ جاهر بأنه لبناني وبس.
لهذا خافوا على احتلال مبنى مجلس النواب ومبنى السراي الحكومي من قبل المعتصمين، ونسوا أنّ المبنيين هما ملك للشعب ومن يستعملهما ضيوف فيهما، ومن حق المواطنين استعادتهما حتى تتمّ تلبية المطالب أو يتمّ انتخاب وكلاء جدد، وليس من حقهم مجابهة المتظاهرين بخراطيم المياه والرصاص المطاط والرصاص الحيّ والقنابل الغازية المسيلة للدموع، ثم ربما نسوا جميعهم أنهم تشاطروا في الإسراع إلى تأييد الانتفاضات العربية، ومن ثم توجيه النصح إلى قائد سورية حين بدأت المؤامرة من درعا بوجوب الإصلاحات وكأنهم هم مثاليو العصور المتقدّمة في الإصلاح والتغيير، وها هي النتيجة ظاهرة، وما حدث البارحة في وسط بيروت خير دليل على جهلهم وقلة وعيهم السياسي وانعدام ثقافتهم، نسوا أنهم تنادوا لمساعدة الشعب السوري على تغيير قيادته وساهموا بسفن محمّلة بالسلاح من أجل خراب سورية، ونسوا ما فعلوه بحق الشعب اللبناني الذي هو اليوم في قلب المعركة ضدّهم مطالباً بالتغيير والإصلاح، فليتفضلوا ويبرهنوا للشعب عن حسن نواياهم بدعم مطالب هذا الشعب المغلوب على أمره.
أظن أنّ المطلوب في ظلّ هذا الحراك الذي بدأ بـ«طلعت ريحتكم» وانقلب إلى مطالب عامة وانتفاضة شعبية عارمة لن تموت بسرعة كما يشتهون، بسبب التذمّر والقرف الذي أصبح معلناً من كلّ فئات المجتمع اللبناني على اختلاف مشاربهم الطائفية والمناطقية والحزبية، هو:
ـ إعلان حالة طوارئ اقتصادية وسياسية مفتوحة، يتمّ من خلالها التوافق على انتخاب رئيس قوي للجمهورية لديه القدرة على جمع الطبقات السياسية، إذا صدقت النيات والتوجهات، عبر حلف وطني ثابت، يهدف إلى بناء الوطن بشراً وحجراً مع إعادة اللحمة الوطنية عبر التعهّد بإلغاء الطائفية السياسية، والتعهّد بتسريع إصدار قانون الانتخابات على أساس النسبية، والعمل على وضع خطط اقتصادية وسياسية وتربوية متطوّرة تحترم الكفاءات وتسقط الوساطات من أي جهة أتت، مع ما يستتبع ذلك من رفع يد السياسيين عن الإدارة الرسمية وفصل الوزارة عن النيابة.
ـ التوافق فوراً على أنّ الحالة الاقتصادية المستعصية على الحلّ، سببها الحرب في سورية وعليها، لأنّ سورية بوابتنا إلى الشرق العربي، لهذا يتوجب على كلّ من فريقي 8 و14 آذار، كلّ من جهته، نسيان خلافاتهم ومواقفهم المتناقضة، والطلب من مرجعياتهم الإقليمية والعربية والدولية، أنهم مستعدّون جميعهم للمساهمة في خروج سورية من محنتها كي يستريح لبنان، لأنّ بناء لبنان كوطن والحفاظ على الشعب اللبناني أهمّ بكثير من تكديس الثروات ومن مصالح الدول التي تتناتش السلطة على لبنان، لهذا على أركان السلطة الانتباه جيداً قبل أن يسبق السيف العذل.