المحكمة الجنائية الدولية والقوى الخارجة على القانون

عصام الحسيني

إنّ الجريمة هي ظاهرة إنسانية، عرفها التاريخ القديم والحديث، أكان ذلك على مستوى الفرد أم الجماعة.

في مرحلة الإنسان الفرد، كانت الأسباب الموجبة للجريمة، تقوم حول إشباع الحاجات الضرورية للإنسان، وندرة هذه الحاجات، وهي مسبّبات مادية فردية ملحة في الدرجة الأولى.

ومع إنسان الجماعة، تطوّر مفهوم مسبّبات الجريمة، إلى حاجات أخرى، متصلة بالناحية المادية والنفسية، بسبب تطور مرحلة الفردية إلى جماعية، وما يتركه ذلك التطور، من انعكاس على المفهوم الاجتماعي للفرد.

لكن مع إنسان المجتمع الوطني والدولي، تحوّلت الجريمة إلى موقع آخر، حيث وجدت ما يبرّرها، من شعارات وطنية، أو دينية، أو اثنية، أو غيرها.

إنّ الحروب التي خاضتها البشرية في تاريخها الطويل، تتلخص حول فكرة الإنسان الفرد الأولى، في سعيه لإشباع حاجاته، متطوّرة في المفاهيم الاجتماعية، من فردية، إلى جماعية، إلى عالمية، لكن بقيت في جوهرها واحدة، وهي من حقائق التاريخ.

وأمام هذا الواقع، وسعياً وراء السلام في المجتمعات البشرية، وبينها، كان لا بدّ من وضع قضاء جنائي، على المستوى الوطني والدولي، يكون مدخلاً إلى وجود مجتمعات آمنة، تنعم بحياة أفضل، عمادها العدالة.

لقد جرت العديد من المحاولات على هذا الصعيد، من خلق محاكم وطنية، تسعى إلى العدالة في المجتمع الوطني، تقوم على مبدأ المساواة بين المواطنين، وخلق عقوبة رادعة للجريمة، مبنية على التدرّج التصاعدي للأحكام، وصولاً إلى حكم الإعدام.

وعلى مستوى المجتمع الدولي، جرت العديد من المحاولات الدولية، لخلق نظام دولي عادل، يقوم على مبدأ المساواة بين الدول، واحترام استقلالها، وعدم التدخل في شؤنها الداخلية.

وكانت نشأة الأمم المتحدة، التي سعت إلى إقامة قضاء دولي جنائي دائم، تخضع له كلّ الدول الأعضاء في المجتمع الدولي، لتحقيق الشرعية الدولية.

والخطوة الفعلية كانت القرار الدولي رقم 95 تاريخ 1946 والذي أقرّت بموجبه، مبادئ القانون الدولي المنصوص عليها في أحكام النظامين الأساسين لكلّ من محكمة نورنبرغ ومحكمة طوكيو .

لكن هذه الخطوة واجهت في بدايتها العديد من العقبات، وخاصة من الدول الكبرى، رغبة منها في تفادي أيّ خطر أو تهديد قد يلحق بجنودها ومواطنيها، العاملين في المجال الوطني والقومي الرسمي.

واعتمدت اللجنة المشكلة لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية عام 1983، على المسؤولية الجنائية للدول عن الجرائم، لكنها عادت إلى تبني المسؤولية الجنائية في المجال الدولي على الأفراد دون الدول عام 1984.

وحدّدت المحكمة الجنائية الدولية مجال اختصاصها بالجرائم التالية:

الإبادة الجماعية، الجرائم ضدّ الإنسانية، جرائم الحرب، وجرائم العدوان.

وفي عام 2002 أبصرت المحكمة الجنائية الدولية النور، وهي تستند في أحكامها على المعاهدات والمواثيق الدولية المعمول بها، والقواعد العامة، والأحكام القضائية، وتعاليم جزاء القانون الدولي، والعرف الدولي كمصادر إضافية.

وتعدّ وثيقة محكمة نورنبرغ الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية، من أهمّ الأسس والمراجع القانونية لها.

والمحكمة هي هيئة مستقلة عن الأمم المتحدة من حيث الموظفين والتمويل، وقد وضع اتفاق بينهما، يحكم تقاضيها مع بعضها في الناحية القانونية.

بلغ عدد الدول الموقعة على قانون إنشائها 121 دولة وحققت في قضايا مختلفة منها:

قضية أوغندا الشمالية، قضية جمهورية الكونغو الديمقراطية، قضية جمهورية أفريقيا الوسطى، قضية دارفور، وقضية يوغسلافيا.

لقد أدخلت المحكمة الجنائية الدولية قوانين دولية جديدة، تتجاوز في تعريفها الشامل للجرائم، ما ورد في النصوص والبنود القانونية لتوصيف جرائم الحرب.

فالمادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة لم تقتصر على ما تتضمّنه الحروب الدولية من جرائم وتجاوزات قانونية، بل امتدت لتشمل بالإضافة إلى ذلك تجاوزات أخرى، تحدث في النزاعات الداخلية والحروب الأهلية.

ويعتبر هذا في قواعد القانون الدولي، تطويراً وتوسيعاً لمفهوم جرائم الحرب حسب النصوص السابقة، مما يعني تثبيت تطوّر حديث في القانون الدولي الإنساني.

كما يعرّف النظام الأساسي للمحكمة، أنّ العنف الجنسي جريمة حربية وخطيرة ضدّ الإنسانية، وهو يتخطى بذلك ما ورد في وثائق المحاكم الجنائية التي وضعت أول معايير لهذه الجرائم.

وبموجب المادة الأولى من النظام الأساسي للمحكمة، تكون المحكمة مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية، وبالتالي فإنها تستطيع ممارسة اختصاصاتها في الحالات التالية:

ـ عند انهيار النظام القضائي الوطني، أو عند رفض أو فشل النظام القضائي الوطني في القيام بالتزاماته القانونية، بالتحقيق ومحاكمة المشتبه بهم في الجرائم الموجودة في اختصاص المحكمة، أو بمعاقبة أولئك الذين ادينوا.

ونصت المادة 25 الفقرة 1 من نظام روما على أن يكون للمحكمة اختصاص على الأشخاص فحسب عملاً بهذا النظام الأساسي .

وهذا يعني أنّ الأشخاص المعنويين جميعهم، دولاً كانوا أم هيئات اعتبارية، سوف يكونون خارج سلطة المحكمة واختصاصها.

إذاً من حيث الشكل، فإنّ إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، يعد إنجازاً إنسانياً متطوّراً، يسعى إلى محاسبة مرتكبي الجرائم الموصوفة، وبالتالي إلى إرساء مبدأ الأمن والسلم الدوليين، وهو مقصد من مقاصد الأمم المتحدة، وأحد أركان تثبيت النظام القضائي الجنائي الدولي.

لكن شرعية هذه المحكمة، مع ما تحمله من قيم إنسانية حضارية في مفهوم العدالة الدولية، يصطدم في الواقع السياسي الدولي، القائم على الأحادية القطبية، وعلى مفهوم فقدان التوازن بين القوى الأساسية، مما يعرّض هذه المحكمة لأخطار متعدّدة، سنستعرض لأهمّها، وهي معارضة الولايات المتحدة الأميركية الشديدة لفكرة إنشائها.

وقعت الولايات المتحدة الأميركية على اتفاقية روما بتاريخ 31 12 2000، في عهد الرئيس بيل كلنتون، ثم قامت بسحب توقيعها بتاريخ 6 5 2002 في عهد الرئيس جورج بوش الابن.

وكانت حجتها تتمحور دائماً في كون النظام الأساسي للمحكمة لا بل المحكمة في حدّ ذاتها، تشكل مساساً مباشراً للأمن الوطني الأميركي، والمصالح الوطنية.

واستنادا إلى ذلك قرّرت، أنّ وجود هذه المحكمة له نتائج غير مقبولة على السيادة الوطنية الأميركية، وعلى الفكرة الأساسية لمفهوم الاستقلال الوطني.

لكن قبل ذلك، وأثناء مناقشة بنود أنشاء المحكمة الجنائية الدولية، مارست الولايات المتحدة الأميركية، العديد من التدخلات والضغوطات على اللجنة المنظمة للنظام الأساسي للمحكمة، من خلال:

ـ التغيّرات التعسّفية لبعض المواد.

ـ وضع تفسيرات لبعض المواد الأخرى، مثل التفسير الأميركي للمادة 98 من النظام الأساسي والخاص بالتعاون في ما يتعلق بالحصانة، حيث عملت على تفسيره بطريقة تخدم مصالحها وأغراضها.

ـ محاولتها الحصول على حصانة دائمة من مجلس الأمن، لحماية جنودها المتواجدين على أراضي دول أطراف في النظام الأساس للمحكمة الجنائية.

ـ محاولتها ربط العلاقة بين مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية، بموجب المادة 16 من النظام الأساسي، والتي شكلت جدلاً واسعاً لاعتراض الكثير من الدول عليها.

ـ ممارسة سلوك الهيمنة، بغية تقويض أركان المحكمة، وإجبار العديد من الدول، على توقيع اتفاقيات ثنائية معها.

لقد مارست الولايات المتحدة الأميركية، كلّ أشكال الإرهاب المعنوي، بحق اللجنة المنظمة للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بغية الوصول إلى نظام قضائي دولي، لا يعرّض جنودها وعملاءها لمخاطر قانونية.

وقد عبّر عن ذلك السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة جون نيغرو بونتي بتاريخ 10 7 2002 عندما قال إنّ الولايات المتحدة لا تريد تعرّض عامليها في الخارج إلى مخاطر قانونية .

كما أنّ الولايات المتحدة الأميركية، مارست الإرهاب المعنوي، بحق المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية عام 2014، عندما قرّرت فتح تحقيق أولى حول جرائم حرب مفترضة، ارتكبها العدو الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من خلال تنديد وزارة الخارجية الأميركية بالقرار والقول إنها مهزلة مأساوية ، محاولة منها لتقويض فكرة المحكمة من أساسها.

إنّ القوة الكبرى في العالم، صاحبة النظام الأحادي القطبي، الدولة الامبراطورية التي تحمل شعار الحرية، مارست كلّ أنواع الإرهاب المعنوي، بغية عدم الوصول إلى إقرار نظام قضائي جنائي دولي، يقوم على مبدأ العدالة والمساوة بين البشر والشعوب، خلافاً لما أقرّته المواثيق الدولية، وخاصة ميثاق الأمم المتحدة.

لقد مارست الولايات المتحدة الأميركية، الهيمنة على أعضاء المجتمع الدولي، بغية حماية جنودها الذين ارتكبوا جرائم حرب خلال الغزوات العسكرية التي شاركت بها عبر العالم، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى تاريخه، من قنبلتي هيروشيما وناكازاكي في اليابان، إلى قتل أسرى الحرب، إلى الحرب الكورية، إلى الحرب الفيتنامية، إلى دعم وحماية حرب العدو الصهيوني على فلسطين والعرب، إلى قصف يوغسلافيا، إلى حرب أفغانستان، إلى العدوان على العراق، إلى الحرب المبهمة على الإرهاب، إلى الحروب السرية التي تديرها أجهزتها الاستخبارية عبر العالم، والتي تستخدم جميع أنواع الإرهاب.

امبراطورية الحرية تحاصر القوانين، وتخنقها في مهدها، وتكتب قانونها الخاص، الذي يؤرّخ لقانون القوة، وليس لقوة القانون.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى