عقيدة ايزنكوت من الهجوم إلى الدفاع وتغيير طبيعة المخاطر ـ النظرية الأمنية «الإسرائيلية» الجديدة
في هذا العدد، يتطرق الكاتب للنقاش الدائر في المجالس العليا العسكرية في «إسرائيل» حول التبدّل الواقع على الرؤية «الإسرائيلية» التقليدية القائمة على قاعدة الهجوم، وذلك بسبب ما أفرزته معطيات حرب تمّوز العسكرية والأمنية، إضافةً إلى التحوّلات الدراماتيكية في محيط فلسطين المحتلة والتي صبّت في مصلحة الكيان الصهيوني. كل ذلك كان الدافع لتبني نظرية الدفاع بديلاً من الهجوم في ما يتعلق بالجبهة الداخلية وفاقاً لنظرية بن غوريون.
كمال مساعد
للمرة الثانية في تاريخه، يكشف الجيش «الإسرائيلي» رسمياً عن استراتيجيته في مواجهة التهديدات المحدقة بـ»إسرائيل». تعديل جوهري طرأ على «العقيدة» العسكرية يتعلق بالدفاع عن الجبهة الداخلية، ويقوم على مبدأ أساسي: «»إسرائيل» لم تعد تتحمّل خسارة أخرى بعد حرب تموز».
ويأتي قرار جيش العدو بالكشف عن استراتيجيته في مواجهة التهديدات المحدقة بـ»إسرائيل» بالتزامن مع الذكرى السنوية لحرب تموز عام 2006 ومع السجال الداخلي حول الموازنة الأمنية. لكن الأهم أن الوثيقة تأتي رداً على اتهامات للجيش بافتقاده إلى نظرية أمنية واضحة ومصادقاً عليها، في ظل متغيرات إقليمية تراجع فيها تهديد الجيوش العربية بعد الأحداث السورية، وارتفع مستوى التهديد لجهات توصف في الأدبيات «الإسرائيلية» بأنها منظمات إرهابية.
عقيدة رئيس الأركان إيزنكوت
«الاستراتيجية الجديدة للجيش»، تضمنت تبنّي مبادئ «الردع، الإنذار، الدفاع «عن الجبهة الداخلية» والحسم». وبحسب صحيفة «هآرتس»، شكلت الوثيقة «عقيدة ايزنكوت»، رئيس الأركان، وتناولت التهديدات التي تحيط بـ»إسرائيل»، والتعديلات التي يحتاج إليها الجيش في ضوء تحديات المستقبل والتغيير في مزايا الجهات المعادية لـ»إسرائيل»، وخصوصاً المقاومة التي تملك قدرات استراتيجية تهدد العمق الاستراتيجي لدولة العدو. كذلك تناولت تعزيز فعالية المناورة البرية وتحسينها، وتنويع القدرات العملانية في «المعركة بين الحروب»، وتعزيز البعد الإلكتروني وإجراء تحسين واضح للتفوق الاستخباري والجوي والبحري. وعرض رئيس الأركان في وثيقته التهديدات المختلفة لدولة «إسرائيل»، أسلوب عمل الجيش والطرق لتحقيق أهدافه.
تضمنت الوثيقة التي قدمها رئيس هيئة الأركان العامة للجيش، للمستوى السياسي، بلورة النظرية العامة لتفعيل القوة في الساحات العملية المختلفة. وسيكون مطلوباً من القيادات المختلفة العمل وفقاً لها أيضاً بلورة وثيقة للمستويات المنخفضة في الجيش. ويؤكد رئيس الأركان أن الاستراتيجية الجديدة تتضمن تنفيذ الخطة المتعددة السنوات «جدعون» التي صدرت عن اللجنة التي شكلها الجيش، إضافة إلى تقرير لجنة «لوكر» الذي صدر عن اللجنة التي شكلتها الحكومة، وهكذا سيكون مطلوباً من شعبة العمليات في هيئة الأركان وشعبة التخطيط العمل وفق رؤية رئيس الأركان غادي ايزنكوت.
كذلك تضمنت الوثيقة قوس التهديدات المحدقة بدولة «إسرائيل»، بدءاً من إيران وسورية والمقاومة في لبنان، إلى حماس و«المنظمات الإرهابية». وانسجاماً مع الخطاب الرسمي «الإسرائيلي»، حددت الوثيقة أن «إسرائيل» هي دولة تطمح إلى السلام وتسعى إلى تجنب المواجهات، لكن في حال فُرضت عليها المواجهة ستركز قدراتها وستنتصر فيها. وأكدت أيضاً أنه في المعارك مع تنظيمات «إرهابية»، سيكون مطلوباً من الجيش تحقيق النصر وإملاء شروط إنهاء المعركة.
في البعد المتصل بتفعيل القوة، ترتكز استراتيجية الجيش إلى المبادئ الآتية: «الردع، الانذار، الدفاع حماية الجبهة الداخلية والحسم».
وتتفرع عنها المبادئ الآتية: الاستناد إلى استراتيجية أمنية دفاعية، تبني نظرية عسكرية هجومية، وتعاون استراتيجي عبر تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة وتطوير علاقات استراتيجية مع غيرها من الدول الرئيسية، إضافة الى تثبيت وتعزيز مراكز التأييد في العالم، فضلاً عن تعزيز مكانة «إسرائيل» في الحلبة الإقليمية وتقوية اتفاقات السلام، واستنفاد القدرة الكامنة للتعاون مع جهات معتدلة في المنطقة، إلى جانب الحفاظ على التفوق النسبي المستند إلى نوعية بشرية، وإلى قدرات تكنولوجية متقدمة وإلى معلومات على أنواعها.
وتنظم هذه المبادئ مفهوم القيادة والسيطرة في القتال مع إرادة بتفعيل لقدرات الجيش في كل ساحات الحرب. وتوضح الوثيقة المبادئ الموجهة لبناء القوة كالآتي: الدفاع التقليدي عن الحدود، الدفاع في مقابل تهديد الصواريخ والقذائف، المناورة البرية، تفعيل قوات خاصة في العمق، بناء قدرات في مجال السايبر وتطوير قدرات في مقابل دول ليس لها حدود مشتركة مع «إسرائيل». أما على مستوى الأهداف القومية، فأوضحت الوثيقة أنه الى جانب ضمان وجود دولة «إسرائيل» وسلامة أراضيها، سيكون على الجيش المحافظة على قيمة «إسرائيل» كدولة يهودية ديمقراطية وكوطن قومي للشعب اليهودي. وسيكون على الجيش ضمان المناعة الاجتماعية والاقتصادية للدولة، وسيكون على «إسرائيل» تعزيز مكانتها الدولية والإقليمية مع السعي للسلام مع جيرانها؟
وبدا من الوثيقة أنها كانت متأثرة جداً بالقتال الذي واجهته «إسرائيل» خلال العقد الأخير. فتحت عنوان «النظرية الأمنية»، ذكرت أن «وجود فترات هدوء أمني طويلة ضروري لتطوير المجتمع والاقتصاد وتحسين فترات الاستعداد للطوارئ والحرب». وفي قضية الطوارئ والحرب، ذكرت الوثيقة أنه سيكون مطلوباً إزالة التهديد بشكل سريع، مع أقل ضرر ممكن لدولة «إسرائيل». وتضمنت رسالة إلى المستوى السياسي الذي سيكون مطلوباً منه تحديد الأهداف، والنهاية الاستراتيجية المطلوبة، ودور الجيش في تحقيق هذه الأهداف، وضوابط استخدام القوة العسكرية، والجهود الإضافية: السياسية والاقتصادية والإعلامية والاجتماعية». لأن هذه المحددات جاءت بعد حالة التخبّط التي واجهتها القيادة السياسية خلال الحرب على لبنان في تموز 2006، وفي ضوء ذلك، يصبح مطلوباً إجراء حوار متواصل بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية من أجل إنتاج تأثير متبادل.
العقيدة الأمنية الجديدة رؤية تشاك بريلخ
جاءت هذه التطورات لتفتح المجال أكثر للحديث عن ضرورة تغيير العقيدة الأمنية أو الحربية الصهيونية من «الهجوم إلى الدفاع» وهذا ما كشفه بدقة تشاك برايلخ، نائب رئيس مجلس الأمن القومي، عن ضرورة تغيير «العقيدة الأمنية في إسرائيل»، وهو كان آخر من دعا لهذا التغيير في صحيفة «هآرتس»، بتاريخ 27 تموز 2015، وأكد فيه أن التغييرات الاستراتيجية التي طرأت على المنطقة تفرض تغيير العقيدة الأمنية «الإسرائيلية»، من «الهجوم» حالياً، إلى الدفاع، مبرراً هذا بتغير «العدو» حيث تفككت الجيوش العربية أو تحالفت مع «إسرائيل» ولم تعد تشكل خطراً.
ويذكر تشاك برايلخ أن: «وضعنا الأمني لم يكن أفضل منه الآن أبداً»، مبرراً هذا بأن «العقيدة الأمنية «الإسرائيلية» التقليدية حققت نجاحاً هائلاً فهي لم تضمن فقط وجود «إسرائيل»، الأمر الذي لم يكن مفروغاً منه، بل جعلتها دولة آمنة ومستقرة ومزدهرة».
وأضاف: «تغيرت البيئة الاستراتيجية، دول عربية تتفكك، والخطر الأساسي الذي تشكله هذه الدول سببه اليوم ضعفها وليس قوتها، وهناك اتفاق سلام مع مصر مستقر منذ 40 سنة، ولا وجود لجبهة شرقية، والخطر الأساسي على الجيش «الإسرائيلي» الذي كان يمثله الجيش السوري تبدد، والعراق تفكك، أما الأردن الذي يربطنا به اتفاق سلام منذ عقدين وتعاون أمني، فإنه يشكل حاجزاً في وجه التهديدات من الشرق». وأشار إلى أن المواجهة مع الدول العربية التي كان أساسها النزاع العربي-»الإسرائيلي» انتهت، وبات النزاع اليوم محصوراً بالفلسطينيين ولاعبين غير دوليين.
وعلى الصعيد الاستراتيجي: «الحاجة إلى علاقات قوية مع دولة عظمى واحدة على الأقل وخوض الحرب بدعم منها من دون التنازل عن الاستقلالية ، وعلى الصعيد السياسي: اعتبار السعي للسلام مدماكاً أساسياً، وتجنيد أفضل الموارد الوطنية من أجل الأمن، وبناء الدولة وضمان غالبية يهودية».
وكشف تشاك برايلخ أيضًا أنه حتى دول الخليج تسعى لمصادقة الدولة الصهيونية حيث «أن سلسلة من دول عربية وإسلامية أصبح لديها علاقات خاصة مع «إسرائيل»، ويسرها أن ترسخها عندما يحدث تقدم في المشكلة الفلسطينية».
ويعتقد أيضاً أن طبيعة المخاطر العسكرية تغيرت فقد اختفى خطر غزو ومعارك بين الجيوش، وتضاءلت المخاطر غير التقليدية بعد التخلص من السلاح الكيماوي في سورية، والاتفاق الدولي مع إيران ، وبرغم جميع نواقصه سيؤجل الخطر النووي عشر سنوات على الأقل.
المجتمع «الإسرائيلي» تغير هو أيضاً وأصبح أكثر تنوعاً لكنه منقسم «فالإجماع الوطني ضعف، والعبء الوطني ليس موزعاً بصورة متساوية، وفقد الردع شيئاً من قوته»، خصوصاً أن المجتمع «الإسرائيلي» مجتمع غربي ليبرالي فقد شهد أيضاً تراجعاً في الحافز لدى شرائح معينة لتحمل العبء، وبصورة خاصة في ظل المعارك التي لا نهاية لها للقضاء على الإرهاب من دون أفق سياسي». ونتائج هذه التغيرات، هي التخوّف من الخسائر البشرية التي «فرضت قيوداً على الخيارات العسكرية في جولات القتال مع المقاومة وحركة وحماس».
من هنا وفي ضوء التغييرات التي طرأت على البيئة الاستراتيجية، وعلى المخاطر العسكرية والمجتمع «الإسرائيلي»، يعتقد نائب رئيس مجلس الأمن القومي إنه «يتعين إجراء تغيير أساسي في عقيدة الأمن القومي، لأنه على رغم تبدد المخاطر، فإن الموازنة الأمنية ازدادت ولم يحدث تغيير جوهري في العقيدة الاستراتيجية».
التغييرات المطلوبة في العقيدة العسكرية الصهيونية هي:
يتعين على «إسرائيل» التوصل إلى تسوية سياسية تمنع كارثة ديموغرافية تنهي الحلم الصهيوني، وهذا ليس كلاماً سياسياً، والفلسطينيون ليسوا شريكاً سهلاً، لكن هذا يشكل ضرورة استراتيجية فالتسوية أو شعور العالم بأن «إسرائيل» تسعى إلى تسوية، سيؤدي إلى تحول دراماتيكي في وضعنا السياسي-الأمني.
ضرورة التشديد على الدفاع في الموازنات والعقيدة القتالية فمثل جميع الجيوش الأخرى التي واجهت انتفاضات شعبية وحرب عصابات، فإن الجيش «الإسرائيلي» يواجه صعوبة في تحقيق الحسم، وحتى في تحقيق ردع طويل الأمد فالحروب تحسم من خلال الهجوم، ويجب أن يبقى هذا جوهر الاستراتيجية في الجيش «الإسرائيلي». لكننا لم ننجح في حسم الحرب ضد حزب الله في لبنان وحماس، في جميع الجولات منذ الثمانينات، ما أضر بالردع «الإسرائيلي»، وعندما تتكرر المعارك من دون تحقيق أهدافها، من الحكمة أن نتصرف بحذر أكبر في استخدام القوة، وألا نفعل ذلك إلا عندما نكون فعلاً مستعدين عسكرياً، وتكون لدينا شرعية دولية أو على الأقل أميركية، وعندما تكون الأهداف واضحة وهناك استعداد شعبي لتحمل الثمن.
على «إسرائيل» أن تطور قدرتها على ضبط النفس لأن الحجة القائلة بأنه يجب الرد على كل حادثة من أجل تعزيز الردع لم يُبرهن على صحتها، كما أن الردع تضرر من عدم تحقيق النجاح في المعارك الأخيرة.
في غياب رد هجومي فعال، يتعين على الجيش «الإسرائيلي» تبنّي العقيدة الدفاعية فالاستثمار في منظومات مثل «القبة الحديدية» يمكن أن يكون أكثر فائدة من الاستثمار في غواصات وطائرات قتالية لا تظهر فائدتها بوضوح في ضوء التغييرات في البيئة الاستراتيجية وطبيعة المخاطر. إن حساب تكلفة المنظومات الدفاعية يجب أن يُقارن بتكلفة الضرر اللاحق بالردع.
يتعين على «إسرائيل» أن تلائم سياستها مع سياسة الولايات المتحدة لأن من الصعب المبالغة في أهمية العلاقات مع الولايات المتحدة، ومن غير الواضح ما إذا كانت «إسرائيل» قادرة على الوجود من دونها، فقد حصلت «إسرائيل» حتى اليوم على أكثر من 120 مليار دولار من الولايات المتحدة، ومن دون هذه المساعدة كان الجيش «الإسرائيلي» سيصبح «أداة واهية»، ومن دون دعم أميركي ستبقى «إسرائيل» مكشوفة أمام الحرب السياسية ومساعي نزع الشرعية. ولهذا يجب انتهاج سياسة تمنحنا هامشاً معيناً من المناورة وتكون على خط واحد مع الولايات المتحدة، وحتى تسعى إلى اتفاق دفاعي رسمي معها.
إن العقيدة العسكرية «الإسرائيلية» هي مجموعة مبادئ وضع قواعدها الأولى بن غوريون، أوّل رئيس وزراء لـ»إسرائيل»، وتعرضت لبعض الإضافات في سنوات ما بعد حرب حزيران عام 1967. وثمة إجماع بين الأكاديميين والعسكريين «الإسرائيليين» على أن هذه العقيدة لم تشهد تغييرات جوهرية على مدى السنين.
العقيدة الأمنية الأولى بن غوريون وهي:
«إسرائيل» لا يمكنها تحمل خسارة حرب واحدة.
الموقف الدفاعي على الصعيد الاستراتيجي، والأسلوب الهجومي على الصعيد التكتيكي.
العمل على تجنب الحرب بالوسائل السياسية وتوفير قدرة الردع ذات الصدقية والحيلولة دون تصاعد الموقف.
حسم نتيجة أية مواجهة حربية بسرعة وبشكل حازم. وعلى المستوى العملياتي فإن «إسرائيل» توفر لنفسها:
قوة عسكرية دائمة ذات قدرة واسعة على الإنذار المبكر وقوى جويّة وبحريّة نظامية كبيرة.
أسلوب ناجح لتجنيد القوّات الاحتياطية بسرعة وتوفير وسائل المواصلات اللازمة.
توفير التنسيق الناجح بين أذرع الجيش لتأمين الهجوم.
نقل المعركة إلى أرض العدو بسرعة.
تحقيق غايات الحرب بأسرع وقت ممكن. وتستند هذه الاستراتيجية إلى مجموعة من القدرات ومنها:
استخبارات ناجعة وقدرة عالية وشبكة دفاعية ضد الصواريخ وقدرات العمل في جميع الظروف.
المحافظة على درجة تأهب عالية واستعداد دائم للحرب وامتلاك أساليب مواجهة حرب على أسس ميدان.
باحث في الشؤون الاستراتيجية