أيّ فضيحة كبرى لتغطية الفضيحة الأكبر؟ قضية الأسير وتحرك الوسط وصفقة النفايات

ناصر قنديل

– قد يبدو العنوان غريباً بعض الشيء لصعوبة الربط الظاهري بين الثلاثة، قضية الموقوف المتهم بقتل العسكريين والقيام بأعمال إرهابية أحمد الأسير، والتحرك الذي شهده وسط بيروت والذي بدأ بالاحتجاج على فشل الحكومة في حلّ أزمة النفايات وتحوّل إلى شعار إسقاط النظام، وبدأ سلمياً وانتهى في ظلّ تداخل مجموعة من الأسباب إلى مواجهات دموية وأعمال شغب وتخريب، وفي المقابل فضّ عروض المناقصة الخاصة بجمع النفايات وطمرها والنتائج التي حملتها لجهة توزع الفائزين في مناطق تشبه لونهم السياسي وبأسعار تقترب من سعر شركة سوكلين التي كانت تحتكر الملف، والتوضيح الذي قدّمته الجهات الحكومية لهاتين «المصادفتين» بما أسمته «اتفاق المتعهّدين».

– مبرّر العنوان، هو ما تحتويه ملفات أجهزة المخابرات التي تنشر بفعل مرور الزمن وما تتضمّنه مذكرات قادة هذه الأجهزة بعد مرور عقود على توليهم المسؤولية، وما تكشفه من عجائب عن أحداث مصنّعة ومفبركة وتنتج كأفلام هوليودية يستخدم الناس الطيّبون للقيام بدور البطولة فيها بقوة الاستناد إلى تحريك جماعات منظمة لحمل لواء قضية جاذبة، وشعبية، في لحظة احتقان وغضب، وتوظيف هذه الشحنة لتفجير أزمات ومواجهات، ومن ثمّ التحكم بمسار الأحداث وتصعيدها أو تهدئتها وفقاً لإيقاع خدمة الهدف الرئيسي ويكون حرف انتباه الرأي العام عن قضية وقعت وأثارت فضيحة أو قضية ستقع وتثير فضيحة، وتكون القضية مهمة لأصحاب المخابرات ومشغليها، وأحياناً كثيرة في غير بلدهم، فيتمّ إشعال فتيل قضية أشدّ أهمية بنظر الناس، ويستمرّ الحريق مشتعلاً يخبو ويشتعل، حتى يمرّ الوقت الكافي لحصول تداعيات تنسي الناس القضية التي تهمّ تلك المخابرات لحساب القضية التي انشغل بها الناس بوهم أنها قضيتهم.

– تحرك الوسط يغري بمثل هذا التفكير وهذا التفسير، فالمجموعة المنظمة ممسوكة من جهة دولية وتمويل إقليمي معروفين، ووسائل الإعلام التي وفرت التغطية المفتوحة على مدار الساعة بحماسة عالية ترتبط مالياً بذات مصدر التمويل الإقليمي وبرامج التدريب على الديمقراطية الأميركية، وفي المقابل رفع الشعارات المتتالية وصولاً إلى سقوف عالية كإسقاط النظام وهي تفوق قدرة التحرك بالتأكيد، وكذلك اللغة العدائية لاستفزاز عداوات وخلق خط اشتباك للتحرك متعدّد الاتجاهات لا يتناسب مع طبيعته المطلبية إذا بقي مطلبياً، ولا مع سقفه السياسي العالي الذي يحتاج أوسع مروحة من الحشود إذا صار سياسياً، وحال الارتجال في المواقف والخطوات، كلها تدلّ على أنّ التحرك صار بهدف واحد هو التحرك للتحرك والمواجهة للمواجهة، وبمثل درجة الفوضى في التحرك وشعاراته وخطواته بدا التحرك منظماً في قدرته على الزجّ بأسماء وازنة لفنانين ونجوم، وتبنّ لافت بحجمه ونوعه لمؤسسات إعلامية كبرى وانخراط متموّلين يتبرّعون وشركات إعلانات عالمية تتقدّم للدعم، بما يفوق قدرة المنظمين على بلوغه، ويصعب تصديق عفويته، والتساؤل عن جهة أقوى وأفعل قامت بتنسيق كلّ ذلك.

– قبل تحرك الوسط وبعده فضيحتان، واحدة عنوانها أحمد الأسير والثانية عنوانها تلزيم النفايات، ويمكن القول ببساطة إنّ ثمة رابطاً بين التحرك والفضيحتين، بمعزل عن حدود ما يعرفه عن ذلك الذين نظموا ودعوا، خصوصاً الذي لا يعرفه أبداً الذين شاركوا وتجاوبوا بصدق مع دعوة جاذبة للاحتجاج على وضع لا يُطاق والأمل بتغيير منشود وفجروا شحنة غضب تعتمل في قلوبهم وعبّروا عن صدق تطلعهم إلى وطن تحكمه المؤسسات ولا يُحتكم فيه إلا للقانون.

– الذين تحرجهم المعلومات الخطيرة التي توجد في حوزة الأسير حول من شاركه ومن حماه ومن خطط له ومن وفر له بيئة حاضنة ومن موّله ومن وفر له السلاح والتغطية القانونية لامتلاكه وتخزينه، يشكلون قوة كبرى وازنة في بعديها الداخلي والخارجي، ويتداخلون عبر بواباتهم الداخلية والخارجية مع كلّ الذين شاركوا في قيادة تحرك الوسط، ويصعب تصديق أنّ هذا محض مصادفة، فقد غاب الضوء فوراً عن السؤال الذي ضجّ به الإعلام لأيام عن مخزن أسرار الأسير، وكان الإعلام المشارك بـ»طلعت ريحتكم» غائب تقريباً عن مواكبة ملفه إلا بحدود الضرورة، وهو إعلام مقتدر لو أراد لجعل الملف قضية قضايا الناس صبحاً ومساء، بمثل ما طلعت معه الريحة حتى زكمت الأنوف، وببساطة انتهت قضية الأسير كقضية رأي عام وصار متاحاً التلاعب بالحجب والمنع والتدخل في مسار القضية، في العتمة التي تحتاجها اللفلفة التي يسعى إليها المتضرّرون من ملاحقة المستور من الأسرار الخطيرة والمهمة والتي تشكل فضيحة أصحابها، وهي ذات صلة بدماء سقطت ولا يمكن التسامح مع الأيدي المتورّطة بسفكها.

– الذين يريدون لفضيحة المناقصة الخاصة بتلزيم النفايات وجدوا في ضغط التحرك المرتبك ضالّتهم، وهم يعلمون أنّ الطريق الأقصر للحلّ هي بإعادة ما سلموه لشركات خاصة، إلى أهله الأصليين في البلديات واتحادات البلديات على مستوى الأقضية والمحافظات وتمكينها من إنجاز آلية للجمع والفرز والطمر وبأكلاف أقلّ حكماً مما سيمنح للشركات، فيطلقون دورة اقتصادية تنموية في داخل بنية المجتمع والدولة، فتفادوا هذا الطريق وذهبوا إلى المحاصصة، ومدخلها السهل دائماً بالخصخصة، وتغطيهم قنبلة دخانية كافية لحجب الأنظار اسمها حلّ سريع لملف النفايات تفادياً لحدوث الأسوأ في تحرك الوسط.

– تحرك يقع وسط فضيحتين وينجح في التغطية عليهما معاً يستحق الذين خططوا له الاعتراف ببراعتهم، عسى أن يكون الفصل الأشدّ مأسوية قد انتهى وألا تحمل الأيام المقبلة فصولاً أشدّ إثارة لتوظيف أشدّ تسييساً واتصالاً بمفاصل البلد الخطرة، وعسى أن تتسنّى لنا القراءة في مذكرات أحدهم يوماً ما كيف حدث ذلك؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى