إعادة الاشتغال على الهوية مدخل مناسب لتحصين الأمن الروحي المغربي

يعرض الكاتب في مقالته حالة الصراع القائمة بين المفاهيم الدينية والروحية في المغرب، والمفاهيم المتزمتة والمتطرفة التي راحت تغزو المغرب العربي منذ وقت طويل وفي مقدمها الوهّابية.

المؤلف يؤيّد دور الدولة في عملية المواجهة مع هذه المفاهيم الوافدة والخارجة على مألوف المنظومة الفكرية الدينية لأهل المغرب، مشدّداً على أنها الأقدر في هذه المواجهة خصوصاً أن شيوخ الوهابية على قدر متقدّم في التأثير ونشر فكرهم المتزمّت.

نعرض في «البناء» هذه الدراسة للوقوف على حقيقة الانتشار الوهّابي ومخاطره على منظومة المفاهيم الدينية والروحية ـ التاريخية التي استمرت عليها الشعوب في هذه المنطقة ولا سيما بعد التأكد اليقيني من أصل الترابط الرحمي بين الوهابية و الحركات الإرهابية كافةالتي تظهر بين الحين والآخر والمتلبّسة لبوس الدين الإسلامي.

عبد الفتاح نعوم

يقع موضوع الهوية على التخوم بين الكامن الموروث، وبين القائم المستحدث. ولذلك فنظام الرموز والسمات التي تدرك بها تلك الهوية تصبح حقاً مكتسباً إنسانياً ينبغي الدفاع عنه، وحفظه من كل المشاريع الرامية إلى هدم خاصيته تلك، بحيث تجعله حبيس زمن ومكان معينين وغير قابل للعيش في كل العصور. والهوية المغربية باعتبارها امتداداً طبيعياً للهوية الحضارية العربية الإسلامية والتي هي بدورها جزء من الهوية الإنسانية، تواجه مخاطر كثيرة، وكما تأتي تلك المخاطر من جهة من يتكلمون باسم الإسلام، فإن تظهير مشاريعهم وتقويتها جاءا بإيعاز ممن يدافعون عن الحضارة الإنسانية1، وذلك في تناقض عجيب جمع بين «غرب حداثي ديمقراطي» وبين «إسلام سياسي موغل في التخلف والانغلاق»، وكانت الضحية ولا تزال هي الإسلام الحضاري الثقافي ذو الهوية الجامعة.

تحاول هذه المقالة معالجة التهديدات التي تطاول الهوية المغربية بما هي جزء من الهوية الحضارية العربية الإسلامية، وذلك بوضع تلك التهديدات في سياقها التاريخي/الاستعماري من جهة، وبمحاولة إيجاد حلول عملية لحماية تلك الهوية. ولذلك فمناقشة الأدبيات الفكرية والعقدية لن تكون بمعزل عن التوظيفات السياسية، والفيصل هو الدفاع عن هوية عربية إسلامية حضارية جامعة، بحيث تشكل إطاراً للتعدد والانفتاح على كل منجزات الفكر البشري قبل الإسلام وبعده.

جيوبوليتيك خطاب الهوية… النشأة والتدفق

قبل نهاية الحرب الباردة بسنوات بدأ الخطاب عن الهوية يخرج من حيز طوبى الفلاسفة إلى مجال الفكر الاستراتيجي، وحفلت كتابات خبراء صناعة القرار الاستراتيجي وخبراء شؤون الأمن القومي بالحديث عن استنهاض الهويات الدينية والثقافية لمواجهة الخطر الشيوعي2. كانت الشيوعية السوفياتية حتى في أواخر حياتها ومن خلال تحالفاتها المتشعبة في مختلف مناطق أوراسيا، تشكل تهديداً مباشراً لمصالح المعسكر الغربي الرأسمالي، ولم يكن لديه خطاب مضاد قادر على محاصرة الشيوعية ومنع مشروعها الفكري من التمدد إلى المزيد من أبناء تلك المناطق، ومن ناحية ثانية لم يكن يمتلك ترسانة فكرية تدفع حامليها إلى تبني عقيدة عسكرية صلبة في مواجهة عقيدة عسكرية من نوع تلك التي توجه الشيوعيين. وقد كانت الهويات الدينية والثقافية مطية سهلة، وقد كان الاتفاق الأميركي ـ السعودي ـ الباكستاني ـ المصري الشهير من أجل الدفع بـ»المجاهدين» إلى أفغانستان قلب أوراسيا ، صداً للخطر الشيوعي3.

كانت تلك أول تجربة يستخدم فيها الدين لقتال الشيوعية بشكل منظم وواعٍ، ولم تسبقها سوى تجربة محتشمة خلال الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، بحيث كان جيش فرانكو يستقدم أبناء الريف شمال المغرب إلى الحرب ضد الشيوعيين المتحصنين في مدريد تحت لواء الجمهورية الشعبية، وذلك بدعوى أنهم كفار ينبغي أن يلتقي عليهم المسيحيون والمسلمون4.

ومع مجيء التسعينات من القرن الماضي سيبلغ الخطاب عن الهويات وصراعها مداه5، وعملياً سيكون «مشروع القرن الأميركي الجديد» الذي صاغه وطبقه المحافظون الجدد لدى وصولهم إلى الحكم في الولايات المتحدة، سيكون ذلك بمثابة أوج الصعود لهذا الخطاب وآخر مسمار يدق في نعشه في الوقت نفسه 6. ففشل المشروع وبقيت الجروح غائرة في جسد الثقافات والهويات الدينية، ومنذ أن اختط الفكر الاستراتيجي الأميركي المعاصر ذاك النهج لنفسه كان جسد الثقافة العربية الإسلامية الأكثر تضرراً، فقد ساهمت تلك المشاريع في إيقاظ أكثر التأويلات والانتقاءات تخلفاً وانغلاقاً في تاريخ الإسلام، والتي لم يتنبه إليها الكثيرون إبان تبلورها في عصورها السالفة7، ومُني السلم العالمي الذي لطالما طبل له كذباً حلف الناتو في مواجهة الشيوعية، بأفدح الخسائر، وأصبحت البلدان الإسلامية التي تقف على التخوم بين النمو الصعب والضعف والتراجع المحقّق، أكثر قابلية لأن يتهدد أمنها القومي، نظراً لقدرة تلك الأفكار على تبييء نفسها ضمن المجال المجتمعي والثقافي لتلك البلدان.

هوية المغرب الحضارية والمخاطر المحتملة

كانت المنطقة الواقعة ضمن ما يسمى «أوراسيا» إلى جانب قسم مهم من أفريقيا وشمالها تحديداً، تعيش شعوبها تحت هوية ثقافية وحضارية واحدة، وبالرغم من أن الإمبراطوريات كانت واقعاً أساسياً ضمن ذلك، إلا أنها لم تأخذ معها ذلك الطابع الهوياتي لتلك المنطقة حينما أفلت عروشها. فكانت الهوية العربية الإسلامية هوية جامعة لكل الأعراق والطوائف، وكانت الآذان صماء إزاء خطابات التفرقة على أساس عرقي أو طائفي/ديني8. وقد لاحت بشائر تلك الرغبات تحديداً مع الاستعمار وبرامجه التي كانت ترمي إلى إشعال فتيل الحروب الأهلية تحت عناوين من قبيل الصراع الأمازيغي ـ العربي في شمال أفريقيا، أو الصراع المسيحي الإسلامي في المشرق. ولم تأت تلك المخططات في المغرب وفي سوريا خلال بدايات القرن العشرين سوى بنتائج عكسية، فبرز مسيحيون مدافعون عن الانتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية العابرة للأعراق والطوائف، وتجسدت تلك الرموز في شخصيات من قبيل الأرسوزي وميشيل عفلق في سورية9، والمختار السوسي ومحمد بن عبد الكريم الخطابي في المغرب10.

لكن مع مجيء سبعينات القرن العشرين وثمانيناته، سيبرز إلى العلن عنوان سهّل الكثير من تلك الغايات التي تمس الوحدة الثقافية لهذه المنطقة، كان هذا العنوان ممثلاً في أخذ شعوب المنطقة المذكورة إلى اقتتال شيعي ـ سني. فأصبحت كل الخلافات المطمورة منذ قرون في كتب التاريخ والفقه والعقيدة، أصبحت حديث الساعة، وجرى استحداثها على نحو منقطع النظير، ولعبت فتاوى تكفير «بعض السنة لكل الشيعة وبعض الشيعة لكل السنة» دوراً محورياً في خضم ذلك، وهو دور استفادت منه تلك المشاريع الجيوبوليتيكة بأي حال سواء تجند من تجند لذلك عفواً أو قصداً11.

طوال القرون السابقة توطَّنت في المغرب الأقصى لأسباب أو لأخرى العقيدة الأشعرية، والتي كانت اجتهاداً في القرون الأولى لـ»الخَلَف»، بحيث حاولوا تجاوز المآزق التي آلت إليها عقيدة التفويض التي تبناها السلف12، وكانت تلك المحطة أول مرة تصبح فيها العقيدة وموضوعاتها مجالاً للتعدد كما هو الشأن في الفقه، حينئذ سيُصِّر فريق آخر على التعنت في تبني رؤية السلف للعقيدة، وغالى فيها البعض إلى حدّ تكفير وتضليل من يخالفها. واستمرت تلك الخلافات عموماً في تلك الموضوعات وغيرها مشمولة بالإطار الحضاري والثقافي الذي كرسه واقع الإمبراطوريات الإسلامية، وترك بصمته ليس في العقيدة والشريعة والنظم فحسب، وإنما في تخطيط المدن وفي الأدب والعلم والمخيال الجمعي العربي الإسلامي. ورغم أن المغرب عاش منذ أيام الأدارسة خارج النطاق السلطوي/الدولتي المشرقي، إلا أنه كان طرفاً أساسياً في الثوب الذي نسجت خيوطه تلك الحضارة بما لها وبما عليها.

وفي المحصلة لم تجد تلك الهوية الجامعة خطراً محدقاً بها، كذلك الذي واجهته وما زالت تواجهه إلى اليوم، وقد تمثل وبدأ مع ظهور محمد ابن عبد الوهاب في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. بحيث خرج هذا الرجل بدعوة دينية تنبني على انتقاءاته هو من المذهب الحنبلي عقيدة وفقها، وكانت انتقادات تنبني على المغالاة في التفويض حد التجسيم عقيدةً، والتشدد حد التضييق فقهاً. ولم يكن كل حنابلة عصره من نجد بالجزيرة العربية متفقين معه13 لا في دعواته تلك ولا في تحركاته بمعية ابن سعود، والتي بدأت بحركة واسعة لهدم الأضرحة في العراق ونجد وانتهت بتأسيس الدولة السعودية الأولى.

كان خطاب الحرب على البدع مُغرياً لكل أهل السنة، ووصل مداه إلى المغرب14. لكن الجروح الغائرة في جسد العقيدة بقيت بعيدة وإلى اليوم من حيز الاستيعاب الممكن لدى الجمهور الواسع، فلا يكاد يميز المسلم العادي بشكل عام بين تلك التيارات إلا بقواعد السلوك البادية عيانا، والتي تُحول فئات معينة إلى جماعات «تضامن ميكانيكي»15. ولعله من علاقات الشبه تلك التي تجعل التضامن الميكانيكي ذاك ممكناً، هي مسألة أسلوب الخطابة والقدرة على ضخ المعلومات في ذهن المستمع والتابع، والقدرة الهائلة على دفعه نحو الالتزام بمسالك معينة وعلى نحو معين.

إن الجماعات الإسلامية كلها تتقن بدرجات متفاوتة تلك الأمور، لكن الامتياز الذي تتمتع به الوهابية16 هو امتلاكها قدرة براقة هائلة، بحيث أنها تمتحها من عنصر جذب المتلقي لخطابها بما هو خطاب يوهمه بأنه الأقرب إلى «الإسلام الحقيقي» الوارد في النصوص، على اعتبار أنها مجرد دعوة إلى العودة إلى الأصول النقية للدين التي كان عليها السلف، والتي بها فقط يمكن إخراج المسلم المعاصر من مآزقه النفسية والاقتصادية وغيرها. فالإغراء الذي يقدمه هكذا خطاب يميز الحركة الوهابية، إلى جانب قدرات «الخطابة» وتقنياتها والتي تجعل الأتباع لا يميزون بين فقيه وداعية.

خطاب الوهابية رافض لكل ما راكمه الفكر السياسي البشري، ورافض لكل التيارات الفكرية التي عرفها تاريخ الإسلام، وهو خطاب يقول بأن «الكفر ملة واحدة» بدءاً بكل تيارات وطوائف الشيعة ومروراً بالطوائف الأخرى وانتهاء بالعلمانية ومتفرعاتها، والقائل بفساد عقائد أهل السنة الأخرى كالعقيدة الأشعرية التي عليها المغاربة، وعليها أيضاً أغلب المسلمين. فقد أتاح هذا الخطاب إمكان تثوير النزعات العدائية الكامنة بين صفوف تلك التكوينات الأخرى المذكورة، وتصاعد خطاب التعصب الطائفي والعرقي، وإنه لمن النادر أن تجد «شيخاً وهابياً» يصرف خطاباً معتدلاً قابلاً بوجود الآخر المختلف معه، بل يزعم على الأرجح أنه الأصح والأكثر صوابية وما على المختلف إلا «التوبة»17.

في السياسة.. ما الذي يتعين عمله

إن الوهابية بسماتها المشار إليها إجمالاً وجدت على مدار القرن الماضي احتضاناً مميزاً في المملكة العربية السعودية، وذلك راجع إلى شراكة آل سعود وآل ابن عبد الوهاب في إقامة المملكة العربية السعودية. لكن منذ أن دشنت السعودية علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية، مذاك أصبحت علاقة مكون السلطة بمكون رجال الدين الوهابيين في المملكة علاقة معقدة ومتوترة أحياناً، وانقسم جسد الوهابية إلى قسمين ظل أحدهما وفياً للحكم في السعودية ورافضاً الخروج عليه، واتجه الآخر إلى الخروج على كل من «وإلى الكفار واليهود والنصارى»18. وهكذا أصبحت السلطات في السعودية تعمل بانتقائية مع تلك التيارات، بقدر ما تدعمها خارج المملكة بالقدر نفسه لا تأبه لآرائها بخصوص بعض القرارت كما حدث حينما أسس الملك عبد الله جامعة مختلطة.

أما في المغرب فلم يقف الرأي العام على طبيعة ذلك التيار ولم تصل الدولة إلى خلاصة تقضي بضرورة تحجيمه إلا مع أحداث 16 ماي. بحيث أصبح واضحاً أن شيوخ ومنظري ذلك التيار مهما صرخوا بالدعوة إلى موالاة أولي الأمر، والدعوة إلى درء الفتن ومهما تمسحوا بخطاب التسامح، مهما فعلوا فإنه لا يستقيم في أذهان أتباعهم وخصومهم أن من يعتقد بكفرية كل الملل الأخرى وبفساد عقائد من هم أقرب إليه من أهل السنة وبدعية طرقهم الصوفية ومسلكياتهم وطقوسهم والتي يستوعبها الإسلام الحضاري ويرفضها العقل الوهابي. لا يستقيم أن يتمكن أولئك الشيوخ من السيطرة على هواجس الإجرام والذُهان المستشري بين أتباعهم إذا وجدوا تلك الخلفية التي يعطيهم إياها التفسير الوهابي للإسلام دافعا إلى قتل الآخر المخالف، لا سيما إذا وجد أولئك الأتباع في أشكال أخرى للحركة أهمية قصوى للتعبير عن أفكارهم الرافضة لكل ما لا يتفق معها، والتجربة تقول بأن ذلك ممكن فأغلب من يتجهون إلى التطرف والإرهاب يكونون ذوي سابق تكوين فكري وهابي19.

وما دامت قواعد اللعبة قد رست على أن العلاقات بين المغرب والسعودية لا تتأثر بالشد والجذب الذي يحدث بين الدولة المغربية وبين التمدد الذي تصر عليه الوهابية وشيوخها، ما دام الأمر كذلك فانه على المغرب أن يبني إستراتيجية استباقية تحمي الهوية المغربية الدينية والثقافية التي هي بنظر هؤلاء عقيدة فاسدة وبدع تصوفية منكرة، أما التمسح بمهادنة ولي الأمر بمبرر «التمسك بفقه التغلب»20، فهو أمر يمكن أن تعصف به أية اختراقات فكرية أخرى تضيف إلى الآراء المتطرفة للوهابية تطرفات سلوكية ونوايا عدائية اتجاه المغرب هوية وشعباً وسلطة ومصالحاً عليا للوطن.

بطبيعة الحال شروط تحقق تهديد من هذا النوع كثيرة ويصعب اجتماعها أمام تيقظ السلطات المغربية. وفي حقيقة الأمر لدى المغرب ترسانة فقهاء وقيمين دينيين وأئمة مساجد واعية بالفروقات المشار إليها عقيدة وفقها، وواعية بالخطر الذي تشكله كل جماعات الإسلام السياسي المستورد على الهوية المغربية21. لكن ما ينتقص هؤلاء الفقهاء بدءاً بالأطر العليا في مؤسسات التعليم العالي العتيق ومدار التكوين الابتدائي والثانوي، ومشرفي المجالس العلمية، ما ينقصهم هو استراتيجية خطاب قادر على الوصول إلى الجمهور الواسع بشكل منظم ومدروس22.

حينما يصبح الشأن الديني موضوعاً موكولاً تدبيره للدولة، فإن ذلك يعني أن الدولة تتصدى لخطاب باستخدام خطاب آخر. وفي الحالة المغربية فإن الدولة كتعبير عن «الاستقرار» تجد نفسها ومنذ مدة مدعوة إلى مواجهة خطاب ديني يستهدف حالة الاستقرار تلك، أو يستهدف ما هو أبعد من حالة الاستقرار، يتعلق الأمر بالهوية الدينية والثقافية. لكن العائق كما تقدم هو ذلك المتمثل في ضعف القدرات التعبوية لدى من يمثلون تلك الهوية التعددية والهادئة والحضارية وذات الصلة بالحفاظ على حالة الاستقرار في الدولة والمجتمع. صحيح أنه هناك من التيارات الإسلامية من يرى في تبني مرجعية دينية معينة دافعاً نحو النضال السياسي، لكن المشكلة تكمن في أن حضور الدين كمرجعية في معادلة الصراع السياسي يفتح الباب على مصراعيه أمام صراع على من يمثل صحيح الدين، وصراع على الهوية الدينية الجامعة التي من المفترض أن تبقى بعيدة من المناكفات.

قد يكون «تأميم الدين»23 ضرورة، وقد تستخدم سلطات الدولة الدين لأغراض معينة في السياسة، لكن الأكيد أنه حينما تحتكر الدولة حق التعبير عن الهوية الدينية فالأضرار تكون أخف على تلك الهوية. وهذا هو الأفضل مقارنة بباقي التيارات الدينية التي تصارع الدولة على التكلم باسم الدين، والتي لا مانع لديها في التضحية بالخطاب الهوياتي الجامع. فالهوية الثقافية الجامعة والشائعة والكامنة في السلوك والمُثل الشعبيين تكون أمام مهب رياح الاستخدام السياسوي، لكنها تربح الحفاظ عليها من نيران التشظي والانشطار فقط إذا تدخلت الدولة ضامَّة خطابها إلى ما تكدّس في ذلك التمثل الشعبي.

منذ سنوات قامت الدولة المغربية بالعديد من الإصلاحات في الحقل الديني، والتي مست الأطر الدينيين بمختلف مستوياتهم ومهامهم. وتكرست تلك الإصلاحات أكثر حينما أحست الدولة بتمدد الخطر الغازي للهوية الدينية، والذي بلغ أقصى حدوده مع أحداث 16 ماي. وأخيراً شرعت الدولة في تتويج تلك الإصلاحات بتحسين الأوضاع المعيشية للمنتمين إلى تدبير الحقل الديني. كل هذه الإصلاحات تعطي دفعة وحجماً كبيراً من الثقة من لدن هؤلاء للدولة، ولكن يبقى سؤال الجدوى والمقدرة على التصدي للخطابات الأخرى مطروحاً.

لدى شيوخ وأتباع التيارات الإسلامية عموماً وتيار السلفية الوهابية خصوصاً قدرة على جذب المستمعين إليهم، وقدرة على دغدغة مشاعرهم وأحلامهم، وذلك بسبب تبنيهم لمشروع سياسي عكس المؤسسات العلمية التي تدرس العلوم الشرعية فهي توجه خريجيها إلى أنهم دارسو شريعة وعقيدة وليسوا مبشرين بمشروع سياسي. ولولا الحزم الذي أبدته الدولة في السنوات السابقة24 تجاه التيارات المذكورة لتمكنت تلك التيارات من اختراق المؤسسات الدينية المغربية، ولعل تجربة الأزهر بمصر تؤشر على ذلك، فقد أصبحت تلك المؤسسة مرتعاً خصباً تتعيش عليه مختلف تيارات الإسلام السياسي25.

يحتاج هؤلاء الخريجون والمنتمون إلى المؤسسة الدينية المغربية فضلاً عن تحسين أوضاعهم المعيشية، يحتاجون إلى حفز وتكوين مواز يعزز القدرات الخطابية، ويقوى أسلوب المُحاجَّة لديهم. فإنه يندر إلى درجة الانعدام وجود إمام مسجد أو مرشد ديني في المغرب قادر على تقديم صورة مغرية كتلك التي يقدمها داعية محرض من دعاة الإسلام السياسي والوهابي تحديداً، وهو مشكل يرتبط كما تقدم بطبيعة التكوين الذي يتلقاه كل صنف. ولذلك ينبغي على الدولة أن تتبنى استراتيجية تكوين شامل لأطرها الدينيين بحيث يصبح لديهم القدرة على تبيين المزالق العقدية والفقهية التي تقع فيها تلك التيارات26، وتكون لديهم القدرة على قطع الطريق تالياً على من يضرب الهوية الجامعة للمغاربة بما هي جزء من النسيج الهوياتي الحضاري العربي الإسلامي. وينبغي تطوير أدوات النشر وتوسيع مداها لتشمل الإعلام بكل حوامله المعاصرة، وتأمين اختراقات أطر «أشاعرة مالكيين» للمؤسسات التعليمية الدينية وغير الدينية التابعة للجماعات الإسلامية، كما ينبغي مراقبة نشاطات رجال التعليم المنتمين إلى تلك التيارات وخصوصاً أولئك الذين يدرسون مواد التربية الإسلامية منهم.

ففضلاً عن التركيز على شحذ الأذهان بحقيقة تلك المزالق، ينبغي ابتكار أساليب تمتح من علم النفس ومن فنون العرض والخطابة بالشكل الذي يُمكِّن الأطر الدينيين المغاربة من إشباع حاجات المواطنين الروحية، فلا يعود لهم من حاجة إلى الاستماع إلى «أحداث النهاية» أو قراءة «لا تحزن»، أو الاستماع إلى خطب العريفي ومحمد حسان وأبو إسحاق الحويني. وهؤلاء جميعاً دعاة محرضون يرتدون ثوب فقهاء علماء في الشريعة الإسلامية، يقدمون وجهة نظر وحيدة على أنها الصواب المطلق، ومن يخالفها إما كافر أو ضال.

باحث في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط

هوامش

1 يقصد الحلف الذي بين المجاهدين الأفغان والولايات المتحدة على عهد الرئيس جيمي كارتر.

2 كان من بينهم زبيغينو بريجنسكي، يراجع كتابه:

– Zbigniew Brzezinski, BETWEEN TWO AGE: America s Role in the Technetronic Era, THE VIKING PRESS / NEW YORK, 1970.

3 هناك مقاطع فيديو شهيرة لبريجنسكي وهو يوجه «المجاهدين» إلى صد الوجود السوفياتي واسترجاع الأرض من العدو الملحد!، يراجع:

4 تصريحات لبعض قدماء المحاربين المغاربة من المشاركين في الحرب الأهلية الاسبانية، بحيث كانت تتم تعبئتهم على هذا الأساس، يراجع:

ويراجع أيضاً: ماريا روسا دي مادارياغا، مغاربة في خدمة فرانكو، ترجمة كنزة الغالي، منشورات الزمن، الرباط، الطبعة الأولى، 2006.

5 يعتبر كتاب صامويل هنتنغتون المثال الأبرز على هذه الفكرة، ويتلخص في أن الصراع بين الهويات الدينية والثقافية والحضارية سيحل محل الصراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وذلك عبر صراع الديمقراطية الغربية الحرة مع الإسلام والكونفوشيوسية. ويطرح هنتنغتون ذلك من منظار التفوق والمركزية الغربيين، يراجع:

Huntington, Samuel P, The clash of civilizations?, Foreign Affairs Summer 1993 72, 3 ABI/INFORM Global, pg 22-49.

6 قاده بوش الابن وفريقه الرئاسي، ويتلخص في إعادة تأسيس الهيمنة الأميركية على أساس ديني، وهو ما كان واضحاً في تعبيرات بوش إبان حربي أفغانستان والعراق، يراجع نص مشروع القرن الأميركي الجديد المعروف اختصاراً بـ pnac:

REBUILDING AMERICA S DEFENSES Strategy, Forces and Resources For a New Century, A Report of The Project for the New American Century, September 2000.

7 تعرض أحمد ابن حنبل إلى محنته الشهيرة حينما اختلف مع المعتزلة حول مسألة خلق القرآن، لكن الحنابلة من بعده ممن غلوا في مواقفه من العقيدة تعرضوا هم بدورهم لمحن متعددة، وقد كتب عنها أتباعهم وخصومهم، زيادة على أن محمد ابن عبد الوهاب لم يكن يرضى عنه كل فقهاء عصره وعلى رأسهم أبوه وأخوه، للاستزادة حول بعض تلك النماذج، يراجع:

حسن بن فرحان المالكي، قراءة في كتب العقائد: المذهب الحنبلي نموذجاً، مركز الدراسات التاريخية، عمّان/الأردن، الطبعة الثالثة، 2009، ص 89 وما بعدها.

عبد الرحمان الشرقاوي، ابن تيمية الفقيه المعذب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1990.

القاضي أبو يعلى محمد ابن الحسين، طبقات الحنابلة، المكتبة العربية، دمشق، الطبعة الأولى، 1350 هجرية. وفيه تراجم لكل فقهاء الحنابلة من عصر احمد ابن حنبل إلى أوائل القرن السادس الهجري، ومؤلف الكتاب هو من الحنابلة المتشددين في العقيدة كما فهمها السلف ومن بينهم وأهمهم أحمد ابن حنبل .

8 بصرف النظر عن كل الحفر التي ملأت التراث العربي الإسلامي فقد كان الإسلام ثوباً جامعاً لكل الأعراق والطوائف والأديان، بل إن مسيحيي الشرق فضلوا الانتماء إلى الإسلام كحضارة وليس كدين على الانتماء إلى الإمبراطورية الرومانية المسيحية. يراجع: ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ترجمة كريم عزقول، دار النهار للنشر، بيروت، د، ط ، د،ت ، ص409.

9 على سبيل المثال كان ميشيل عفلق يتشدد في الدفاع عن الانتماء إلى العروبة والإسلام على رغم أنه كان مسيحياً، وذلك في وجه ادعاءات فرنسا بأن وجدها في سورية أيام الانتداب كان لحماية المسيحيين من المسلمين. يراجع: باتريك سيل، الأسد: الصراع على الشرق الأوسط، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط10، 2007، ص 58.

10 كانا أمازيغيين لكنهما كانا مدافعين عن الانتماء الثقافي العربي الإسلامي. إلى درجة أن الخطابي أسس في مصر مكتباً أسماه «مكتب المغرب العربي».

11 يشار هنا إلى أن عديد الفضائيات والمطابع والجرائد المخصصة لهذا الغرض كانت ولا تزال تستحدث وتستمر في العمل الطائفي البغيض تحت مراقبة وسلطة الحكومات، وهي مسموح لها بالعمل بخلاف المنابر التي تحاول إشاعة الفكر النقدي المضاد لهذه الحكومات، وبعضها حكومات خارج العصر.

12 كان الخلاف قائماً بين الخلف والسلف حول أي مسلك ينبغي اتباعه لاقتراب من مواضيع الذات والصفات الواردة في القرآن، فتبنى السلف عقيدة التفويض، وتبنى الخلف عقيدة التأويل. وتجسد الخلاف في ما بعد في تشويهات طاولت عقيدة السلف وتشبت أصحابها بتعبيرهم الأكثر صدقاً عن عقيدة السلف. ومن أمثلة هؤلاء: ابن الزاغوني، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، يراجع على سبيل المثال لفهم تلك العقيدة: احمد ابن عبد الحليم ابن تيمية، العقيدة الواسطية، تحقيق علوي بن عبد القادر السقاف، مؤسسة الدرر السنية للنشر، السعودية، الطبعة الأولى 1433 هجرية.

13 كان من أبرزهم أخوه سليمان ابن عبد الوهاب والذي ألف في الرد على أسلوبه ذاك وانتقاءاته تلك كتباً من أهمها: فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب.

14 كان المولى سليمان سلطان المغرب الأقصى في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر، كان قد اشتهر بخطبة في الموضوع: خطبة المولى سلميان، الانتصار للسنة ومحاربة بدع الطوائف الضالة، تقديم محمد تقي الدين الهلالي، دار الجيل للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2011.

15 مفهوم يطلقه إميل دوركهايم على المجتمعات التقليدية التي تسود بين أفرادها علاقات غير مبنية على تقسيم عقلاني للعمل الاجتماعي، وقد فصل فيه من خلال كتابه الشهير: تقسيم العمل الاجتماعي.

mile Durkheim, De la division du travail social 1893 , introd de Serge Paugam 7e d, Paris, Presses universitaires de France, 2007.

16 لا يطلق أتباع محمد ابن عبد الوهاب هذه التسمية على أنفسهم، بل يمتعضون منها. وفي المقابل يطلقون على دعوتهم تسمية «السلفية»، ولذلك يطفق خصومهم مطلقين عليهم تسمية «الوهابية» للذم، ويطلق عليهم المعتدلون تسمية « السلفية الوهابية» تمييزاً لسلفيتهم تلك عن ما يعرف بالسلفيات الوطنية، كسلفية محمد عبده وسلفية علال الفاسي.

17 برز لدى الشيعة في الآونة الأخيرة كرد فعل على ذلك بعض الدعاة المتطرفين مثل ياسر الحبيب، وهذا قام بتكفير جل الشيعة وكل السنة.

18 ولعل «توماس هيغهامر» يفصل في تلك المآلات، توماس هيغهامر، الجهاد في السعودية، ترجمة أمين الأيوبي، الشركة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2013.

19 ليس بالضرورة أن يكون تكويناً تنظيمياً، فالخطب والفضائيات والتواصل الاجتماعي يكفل شيوع تلك الأفكار.

20 امتداد لآراء ابن قدامة في كتاب المغني، يقول مثلاً: «… وجملة الأمر أن من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته لما ذكرنا من الحديث والإجماع وفي معناه من ثبتت إمامته بعهد النبي صلى الله عليه و سلم أو بعهد إمام قبله إليه فان أبا بكر ثبتت إمامته بإجماع الصحابة على بيعته وعمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه وأجمع الصحابة على قبوله ولو خرج رجل على الإمام فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له وأذعنوا بطاعته وتابعوه صار إماماً يحرم قتاله والخروج عليه فان عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعاً وكرهاً فصار إماماً يحرم الخروج عليه وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم وذهاب أموالهم…» يراجع: عبد الله بن أحمد بن قدامة، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، مسألة: إذا اتفق المسلمون على إمام فمن خرج عليه من المسلمين يطلب موضعه، 10/49 ، كتاب قتال أهل البغي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هجرية.

21 بناء على محاورات أجراها الباحث مع عينات من أئمة المساجد ومن خريجي مؤسسات التعليم العتيق بالمغرب.

22 كل ما يتعلق بإصلاح الحقل الديني في المغرب في فترة ما بعد أحداث 16 ماي انقسم إلى محورين، الأمني والاجتماعي، وغاب المحور المضموني ذي الصلة بالتكوين النفسي والخطابي.

23 تدول هذا المصطلح كثيراً في فترة حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وخصوصاً حينما أقدم على إعادة مأسسة جامع الأزهر وجعله مركز الحقل الديني في مصر.

24 لا يقصد به التعامل الأمني مع ما يعرف بالسلفية الجهادية في المغرب عقب أحداث 16 ماي، وإنما يقصد الحيطة والحذر اللذان تنتهجهما الدولة في تدبير المساجد والعلاقة مع الأئمة والمرشدين وضرورة استقلالهم التام فكرياً وتنظيمياً عن أي تيار من تيارات الإسلام السياسي.

25 من أمثلتهم في مصر: محمود شعبان، وهو أستاذ مساعد في الأزهر يعلن بصراحة في خطبه أن العقيدة الأشعرية والماتريدية وما ماثلهما مما يدرس في الأزهر هي عقائد باطلة، ويعلن انه تعلم العقيدة «الصحيحة» أي العقيدة الواسطية، تعلمها خارج الأزهر. وغيره كثير.

26 يجب أن تكون تلك الخطة مدروسة كي لا تأتي بنتائج عكسية، فلكل فعل رد فعل مساو له في كل شيء، وبالتالي قد يكون ترك الحديث في أمور العقيدة رداً على مزاعم تلك التيارات أفضل من الخوض فيها إذا كان سيترتب على ذلك نفير إلى من يمتلك أكثر من عنصر جذب كما أسلفنا، ولذلك يلاحظ أن الدولة المغربية تركن إلى ترك ذلك النقاش، خصوصاً وأن الطرف الآخر لا يثيره أيضاً، فلا يتجرأ أي وهابي على محادثة الناس بخصوص قضايا التأويل والتفويض في العقيدة، ولا يجرؤ أي إخواني على طرح «الحاكمية» كما يطرحها سيد قطب والمودودي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى