تقرير
نشرت «بوليتيكو» الأميركية مقالاً عن أزمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والحرب التركية ضد «داعش»، جاء فيه:
في 23 تموز، تبارت كل وسائل الإعلام تقريباً في كتابة تلك عناوين منها: «تركيا تنضم لمكافحة داعش. وتفتح القاعدة الجوية لقوات التحالف. واشنطن وأنقرة تتفقان على المنطقة الآمنة في سورية». ووصفت وسائل الإعلام التركية قرار أنقرة شنّ ضربات جوية على قوات زعيم داعش «أبو بكر البغدادي» بأنها «تغيير قواعد اللعبة»، وهو ما يلجأ الصحافيون إلى قوله عندما يتعبون في قول أي أمر آخر، غير مُلمّين بالموقف ويتلهفون للعودة إلى تغطية «دونالد ترامب».
وتتمثل اللعبة الوحيدة التي يبدو الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان » مهتماً فعلاً بتغييرها هي اللعبة السياسية التي فقدها بشكل غير معهود منذ منتصف حزيران عندما خسر حزب «العدالة والتنمية» الغالبية البرلمانية التي سيطر عليها من تشرين الثاني 2002. أفضل تفسير لتحركات أردوغان ضدّ «داعش» أنها محاولة يائسة ومعقدة للغاية لاستعادة ما فقد. وإذا فشلت خطته، فإنه ربما لا سبيل هناك للعودة من على الجبهات التي تجرأ أردوغان وفتحها على نفسه.
ومن الصعب أن نصدق أن أردوغان نظر نظرة جديدة ومتأنية إلى ما يحدث في سورية والعراق، وخلص إلى نتيجة مفادها أن الانضمام إلى الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد «داعش» كان في المصلحة الوطنية لتركيا. إن النظرية السائدة بين المراقبين في تركيا تقول: وافقت أنقرة على القتال ضد «داعش»، ثم أن الولايات المتحدة ستسمح بمهاجمة الأكراد الذين هم أيضاً في حالة حرب مع داعش ، وبالتالي تحسين الآفاق السياسية لحزب «العدالة والتنمية» في الانتخابات البرلمانية، والتي ستكون بمثابة تحديد موعد للسقوط. ولكن المنطق والعقلانية لتحركات أردوغان من الصعب أن يتم مناقشتها.
وفي مقابل منح أردوغان الأميركيين وقوات التحالف الوصول إلى عدد من القواعد التركية، لم تحرك إدارة «أوباما» ساكناً في الوقت الذي تجددت فيه حرب الأتراك مع حزب العمال الكردستاني، وهو المنظمة الإرهابية التي تشن الحرب على تركيا منذ منتصف الثمانينات. كما وافقت الحكومة الأميركية علناً على مساعدة أنقرة لإنشاء «منطقة آمنة» للاجئين السوريين في شمال سورية، الأمر الذي يجعل من المستحيل على الأكراد السوريين إقامة كانتون مستقل يستمر إقليمياً في شمال سورية.
الصراع مع الأكراد بمثابة سياسة جيدة جداً لـ«أردوغان »، وهو يسعى إلى تعزيز قاعدة قومية له، تعتبر الأكراد ألد الأعداء. ويحسب أردوغان بوضوح فإن تسعير الحرب ضد حزب العمال الكردستاني وتحطيم آمال الأكراد السوريين في شأن مزيد من الحكم الذاتي سيعكس نتائج انتخابات حزيران الماضي، وتعود الغالبية البرلمانية مجدداً لحزب «العدالة والتنمية» عن طريق إضعاف الحزب القائم على أساس كردي بشكل قانوني، والذي يتهمه بكونه امتداداً لحزب العمال الكردستاني.
نظريات «داعش القواعد التركية المنطقة الآمنة قتال الأكراد» كلها تعزز مكانة أردوغان السياسية. وإلا لماذا يقوم الأتراك بتغيير موقفهم من الحرب ضد «داعش»؟ فعلى مدى السنة الماضية، كانت أنقرة تملك نظرة غير واضحة تجاه الاستراتيجية الأميركية، إذ اعتبرها الأتراك ضعيفة وغير كفوءة نظراً لأنها لم تعالج ما تعتبره أنقرة أن يكون سبباً جذرياً لتواجد «داعش» من الأساس، تعني بذلك الرئيس السوري بشار الأسد. كما كانوا أيضاً في قلق تام، فعلى عكس مدينة نيويورك، فإن اسطنبول تبدو قريبة نسبياً إلى «داعش»، وأنه إذا انضمت تركيا إلى الولايات المتحدة، فقد بات الدم أكثر قابلية للإراقة في ميدان تقسيم أكثر من «تايمز سكوير». الأهم من ذلك أنه قد يشعر الأتراك أن العنف وعدم الاستقرار اللذين يعمان سورية والعراق قد عززا من احتمالات أن الأكراد في هذه الدول الفاشلة قد يسعون إلى الاستقلال. وهذا بالطبع سينعكس على أفكار 14 مليون كردي في تركيا وأفعالهم، والذين قد يفكرون في فعل الشيء نفسه. وإلى حد أن «داعش» والأكراد كانوا يقاتلون بعضهم البعض في شمال سورية والعراق، فإن أنقرة كانت راضية عن مشاهدة تلك الأطراف وهي تفتك ببعضها.
فكرة أن أنقرة انضمت إلى جهود مكافحة «داعش» التي تقودها واشنطن من أجل محاربة الأكراد تحتوي على بعض الوزن الزائد من مصادر عسكرية أميركية مجهولة. أخبرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أنهم يعتقدون أن الأتراك يقبلون البيت الأبيض. ويتوقف التفسير كله على حقيقة أنه منذ أعلنت وسائل الإعلام عن «تغيير قواعد اللعبة»، قامت القوات الجوية التركية بغارة جوية واحدة على «داعش»، بينما هاجمت مواقع لحزب العمال الكردستاني في جنوب شرق تركيا بانتظام.
وتشكو الحكومة العراقية أيضاً من الغارات التركية ضد المقاتلين الأكراد في جبال قنديل. ومن ظاهر الأمر يبدو أن هناك بعض السياق المفقود. وطلب القادة العسكريون الأميركيون من الأتراك التوقف حتى تصل الطواقم الأميركية إلى إنجرليك، ووقتذاك يمكن لكل فرد أن يقوم بفرز ما الذي على الأرجح يمكن أن يكون تحت مسمى الأجواء المزدحمة. وهذا معقول بالتأكيد، ويفسر لماذا كان هناك عدد قليل جداً من الرؤوس الحربية التركية على جبهات قتال «داعش»، لكن هذا لا يغير ما يبدو أنه سيكون استراتيجية شاملة لتركيا في خدمة طموح أردوغان الذي لا سقف له.
وقد خلق أردوغان انطباعاً عن نفسه بأنه القط الداهية على مدى سنوات عدّة، ولكن هناك مخاطر تحيط به في كل مكان داخل بؤرة هذه الاستراتيجية. ويبدو ممكناً تماماً أنه على رغم حالة الاستعداد التركية للحرب، فإن نتائج الانتخابات البرلمانية الجديدة ستكون هي نفسها التي كانت في حزيران، عندما توافد الناخبون مصوتين للمنافس القومي لحزب «العدالة والتنمية» وتخلت الدائرة الكردية الدينية للحزب عنه. وستكون النتيجة بالضبط عكس ما يريد أردوغان بمعنى أنها التسوية بشكل دائم وتهميش الرئيس.
ومن الممكن أيضاً أن المناوشات الحالية مع حزب العمال الكردستاني تصبح معركة أطول وأكثر دموية. ويلقي الأتراك، بطبيعة الحال، اللوم على حزب العمال الكردستاني في بادئ الأمر، ولكن بما أن عدد الجثث التي تعود في أكياس تزداد، وهناك ارتفاع في معدل دفن الجنود الأتراك، فإن الشعب قد يتحول بشدة ضد أردوغان وحزب «العدالة والتنمية». وهناك دلائل متفرقة أن هذه الديناميكية جارية بالفعل في وقتٍ يتساءل الأتراك لماذا هم فجأة في حالة حرب مرة أخرى بعد هدوء دام أكثر من سنتين ونصف السنة.
وأخيراً، حتى لو كان الأتراك لا يطلقون النار على «داعش»، فإن حقيقة أن أنقرة فتحت قواعدها لطائرات التحالف يضع تركيا في مرمى «داعش». وردّاً على قرار تركيا السماح لطائرات التحالف باستخدام قاعدة إنجرليك وقواعد أخرى، أصدر «داعش» شريط فيديو يوم الثلاثاء متعهداً بقهر اسطنبول، وواصفاً الزعيم التركي بأنه «كافر وخائن». وبناءً عليه، فإنه بعد النجاح في تجنب المواجهة مع المجموعة الإرهابية لفترة طويلة على مدار السنة، فإن أيّ عملية قتل لجنود في أنقرة كيزيلاي أو بطول شارع الاستقلال في اسطنبول، من المرجح أن تُحمّل المسؤولية عن إراقة الدم إلى أردوغان.
تمثل سياسة اللحظة الراهنة أكبر تحد يواجهه أردوغان منذ بداية قيادته البلاد رسمياً في آذار 2003. فتقريباً كل ما يشغل بال واهتمام أردوغان هو على المحك وما يشغل باله يشمل الرئاسة التنفيذية التي سعى لأجلها، ومستقبل حزب «العدالة والتنمية»، وإرثه من عملية السلام. ومن غير الواضح كيف سيقوم أردوغان بتحويل الضغوط السياسية الشاملة لمصلحته. فأي تحرك لتسوية أحد هذه الضغوط يخلق مشكلة أخرى بالنسبة إليه. ومن الصعب عليه العودة إلى البئر وإلقاء اللوم على الولايات المتحدة، التي دعاها لتكون في القلب من المعمعة، أو أي من الذين استدعاهم في الماضي واستغلهم بمهارة لتفادي فشل الحكومة.
ولم يعد ينعم الرئيس في الوقت الحالي بأي أريحية أو هدوء كما كان في السابق، إذ إن هناك تهديدات متعددة تواجهها تركيا، تتمثل في الجماعات الإرهابية العنيفة والمكائد السياسية التي تحاك به وبحزبه. وهناك علامات على وجود ضعف سياسي يمكنه من تغيير دفة الأمور لمصلحته. وإذا نجح أردوغان في حل اللغز، فإنه سينعم برئاسته التنفيذية، كما سيواصل رؤيته التحول من البلاد، والعكس صحيح، فلو فشل في حله له، فإن تركيا ستعاني لفترة طويلة من عدم الاستقرار والعنف. وفي كلتا الحالتين، سيدفع الأتراك ثمناً باهظاً.