الالتزام من أجل الذات القومية وفي حدود مصالحها 2
الدكتور نذير العظمة في كتابه «أدب المقاومة بين الأسطورة والتاريخ» يقدّم للقارئ دراسة تغوص في أعماق العلاقة بين الشعر والثورة، وحدود تأثير الواحد منهما على كينونة الآخر، مقدّماً من أجل توضيح ذلك أمثلة عديدة عن ثورات كبيرة وقعت كالثورتين الفرنسية والبلشفية الروسية.
لقد حاول الدكتور العظمة أن يعالج بنفسٍ فلسفي عملية الانبثاق الثوري والانبثاق الشعري وطبيعة العلاقة بين الاثنين وكذلك دور الإيديولوجية في هذا الشعر.
يتكلم المؤلف في مقدمة الكتاب ـ الدراسة عن الموروث التاريخي لدى معظم مفكرينا وكتّابنا والمتعلق بالتبعية للحضارة الغربية والانبهار بها، والتي شكّلت لوقتٍ طويل عاملاً مانعاً من توليد الإبداع عندنا.
يتوزّع الكتاب على خمسة أبواب تعالج في الباب الأول شعر النضال الجزائري والتجربة الثورية، وفي الباب الثاني اتجاهات الشهر المقاوم والكفاح الفلسطيني. أما في الباب الثالث يتطرّق إلى المرأة المقاومة، وفي الرابع يشير إلى الرؤيا العربية، أما في الباب الخامس فيتكلم على الشعر المقاوم بين الوظيفة التاريخية والفنية.
و«البناء» إذ تنشر الدراسة على حلقات فلأنها تعتقد بأنه من الضرورة بمكان إبراز طبيعة العلاقة بين المقاومة والشعر، وطبيعة العوامل المؤثرة سلباً أم إيجاباً، الأمر الذي أبرزه الدكتور العظمة في دراسته.
في هذا العدد يعرض الكاتب إلى الأسبقية بين الشعر والثورة حيث يشير إلى أن الفترة الملتهبة من الثورة لا تكون عادةً فترة إبداع شعري بقدر ما هي تأسيس لطاقة تنفجر في عقل الشاعر ولا وعيه إبداعاً، فتأتي تجربة الخلق الشعري تعبيراً عن التجربة الثورية. والكاتب يشدد على أن العامل الأيديولوجي ذو تأثير في عملية الخلق الفني الشعري إذا ما تظافر هذا العامل مع عوامل أخرى كما حصل مع أراغون إبّان فترة الاحتلال النازي لفرنسا.
إن النقطة الأساسية التي ركّز فيها الكاتب هي موضوع الالتزام الأدبي وقد أشار إلى تجربة سارتر التي كانت طارئة على منظومة أفكاره بفعل التداعيات القومية الحاصلة ما بين عامي 1936 و1939، فكان التزامه إذذاك حاجة قومية قاهرة أي أنه موقف فكري مستعار، فالشكل عنده ينبثق من الجوهر فيما عندنا الجوهر يبحث عن شكلٍ جاهز يخلص الدكتور العظمة إلى القول بأنه لا بأس من الانفتاح على الإنسان وحضارته شريطة أن يكون وفق حدّين، أولاً أن ينطلق من حاجاتنا الفكرية والنفسية وثانياً أن يكون انفتاحاً روحياً يأخذ من التجارب الإنسانية من دون أن يولّد تناقضاً مع الذات، بمعنى أنه ليس على الطريقة السارترية أو الماركسية.
لعلّ بعض ما قيل في النضال الجزائري من شعر شعبي كملحمة «كمال البوقسي» الشعبية هذا الشاعر الأمي الذي اشترك في الثورة اشتراكاً فعلياً واستشهد في إحدى معاركها- أقرب بكثير إلى المستويين الفني والإنساني مما قيل من قصائد شعرية، لأن كمال البوقسي عانى التجربة واكتوى بنارها بكل ما في نفسه من بساطة وإخلاص.
ولكننا نحجر الثورة إذا نحن عزلناها عما قبلها من وجوه الحياة وعما بعدها حاصرين معناها في ظروف القتال المسلح والساحات الملتهبة، لأن مفهوم الثورة لا يقف عند هذه الحدود المفتعلة. إنها حقبة تاريخية تعبر عن غليان الروح في شعب ما وتوثّبه من أجل مطلب أعلى، يتناول أمة بأسرها أو منطقة بكاملها قد تكون بإرادة طوراً، وحامية حيناً أو فاترة أحياناً إلا أنها تظلّ في مدّ وجزر حتى تستنفد طاقتها الأخيرة أو تحقق مطالبها العميقة. فالثورة الفرنسية التي اشتعلت في أواخر القرن الثامن عشر ظلت موجاتها تتناوب أوروبا مدة نصف قرن حتى انتصرت روحها ومبادئها، وترسّخت مثلها وأفكارها. وقد برزت في هذه الحقبة رجالات متنوعة الإمكانات والغنى في الفكر والسياسة والفن والحرب لا يسمح لنا مجال دراستنا بالتصدي لها.
تنتاب بلادنا اليوم روح ثورية أشبه بروح تلك الثورة. وليست ثورة الجزائر وغيرها من الانتفاضات النضالية والنكبات القومية والانقسامات الداخلية غير مظاهر لتلك الروح التي ترتعد لها أطراف المنطقة من أقصاها إلى أقصاها. يحق لنا إذن أن نصبو إلى الشاعر الثوري الحق المعبر لنا عن أشواقنا الثورية وعن روح هذه الحقبة التاريخية الغنية، والعائش التجربة الثورية بكل أبعادها المحرقة لا أن يحملها بالنقل والعدوى التي لا يتوفر لها الكيان الإنساني. إن الثورة الجزائرية مظهر حاد ولاهب للروح الثورية في العالم العربي بأسره، ومع ذلك قلّما سمعنا حتى الآن غير الأصوات الشعرية المصاحبة لها، لا النابعة منها المكثفة لها ثورية شعرية عميقة وشاملة، باستثناء طليعة ضئيلة من الشعراء.
هنا تواجهنا الحقيقة التالية وهي أن الثورة الفرنسية كلها لم تخلق شاعراً واحداً، وكذلك الثورة العالمية والأميركية.
ليس من المقرر أن يرافق الانبثاق الثوري انبثاق شعري. فقد يسبق الواحد الآخر أو يليه، فلماذا إذاً تكون الثورة الجزائرية بدعاً في الثورات؟ ولماذا نطلب من الشعراء العرب فوق الذي لم يستطعه غيرهم من الشعراء في العالم؟ ولنجيب على كل هذا لا بد لنا في هذا القسم من الدراسة أن نضيف إلى ما حددناه آنفاً من مفهومنا للثورة وعلاقتها بالخلق الفني، والوظيفة السيكولوجية منهما.
إذا اكتفينا من الثورة بجانبها الملتهب، فالحق أن هذا الجانب لا يمكن أن يخلق شاعراً ثورياً على الفور، لأنه نادراً ما تتوفر أسباب الخلق الفني في الثورة التي تستنفر الطاقة النفسية وتصبّها في تيار الفعل، بينما يستخدم الفن هذه الطاقة عينها ليصبّها في تيار الخلق الفني. ففي الاشتباكات الدامية والمعارك الحامية يختزن الشاعر ما يختزنه من صوَر وأصوات ومشاعر وانفعالات ورؤى في صدره ووعيه وذاكرته أو عقله الباطن ولا وعيه، لتنفجر كلها وقوداً ومادة للخلق في ظروفه المواتية. إذ ليست عملية الخلق الفني عندئذ غير تعبير التجربة الثورية عن ذاتها عملية ولادة الشكل من المضمون. وبقدر ما تكون الطاقة المخزونة في نفس الشاعر قوية وعميقة وحقيقية بقدر ما يكون تفجيرها متوتراً وقوياً وحقيقياً، ويكون بالتالي مردودها الذي تخلفه في نفس القارئ بالقوة نفسها والإخلاص نفسه. يتبيّن لنا من هنا تشابه الدور الذي يلعبه، الأمر الذي يذكرنا بنظرية التطهير الأرسطوطالية في وظيفة الفن عامة والشعر المأساتي خاصة إذ ينطلق في «كتاب الشعر» من تحليله لمآسي الشاعر اليوناني سوفوكليس إلى هذه النظرية. فالفن في رأيه يطهّر النفس باستفراغه للطاقات المخزونة فيها، ولولاه لعادت هذه الطاقات المعطلة فيها بالوبال عليها، وبتفجيرها تتجنّب النفس وبال العطالة.
الثورة في رأينا كالفن تقوم بعملية التطهير على الصعيد النفسي والثوري والجماعي بأن تستفرغ مخزون الطاقات النفسية المكبوتة التي لا تستطيع التعبير عن ذاتها بشكل طبيعي، فتبقى مقهورة في النفس لتخلف فيها التورم والاهتراء والتبلّد والعطالة، وبتفجير الثورة لها وصبّها في تيار الفعل تعود الجماعة إلى توازنها النفسي في مجرى طبيعي لا يعوقه كبت أو قهر.
فمن الطبيعي إذن أن لا تخلق الثورة في مرحلتها الحامية شاعرها لأن الفعل الثوري يحوّل اتجاه القوى النفسية في اتجاه العمل، بينما يختزنها الخلق الفني في اتجاه الابداع.
وليس من الضروري أن تكون كل الانفعالات التي يفعلها الشاعر خلاقة مخصابة، بل كثيراً ما يستولي عليه انفعالات هادرة عميقة، لا يرافقها خلق أو خصب وغالباً ما يمهّد للأولى بعملية الاختزان التي ألمعنا إليها بينما تحدث الثانية مجرّدة عنها. ولا بد من الانتظار طويلاً بعد الثورة لنحظى بنتاج فنّي منتظر.
هذا لا يعني أننا نحصر عملية الخلق الفني الذي تلعبه القوى اللاواعية في مرحلة الاختزان وننكر العامل الفكري والإرادي الذي يلي مباشرة مرحلة التفجير لتقوم الصناعة الفنية بدورها ووظيفتها استجابة لهذا العامل. فلكل من القوى الواعية واللاواعية نصيبها من عملية الخلق، ولكل من العفوية والإرادة دوره لكن القوى اللاواعية والعفوية تسبقان الوعي والإرادة في الدور لا في الفعل وكل منهما متصل أوثق الاتصال بالآخر حيث لا يمكن فصلهما إلا تسهيلاً للدراسة.
وهنا لا بد لنا من إيضاح أمرين: الأول هو ما ذهبنا إليه في انفصال الانبثاق الشعري عن الانبثاق الثوري ظاهرة عامة لا تخلو من شواذ. والثاني هو إذا رافق الثورة عامل إيديولوجي يسهل لعملية الخلق الفني مجاريها، وذلك بتوجيه القوى النفسية في اتجاهها واتجاه الانفعالات الفنية الخصبة. إن أراغون، شاعر المقاومة الإفرنسية في فترة الاحتلال النازي، يعطينا مثلاً واضحاً عن أهمية العامل الإيديولوجي إذا تضافر مع العوامل الأخرى، الأمر الذي يستدعينا لتوضيحه وتوضيح علاقته بعملية الخلق والإبداع استكمالاً لجانب مهم من جوانب هذه الدراسة.
بعض النقادة المتأثرين بالاتجاه الماركسي يميزون بين ثورة وثورة على الصعيد الفني، ويضعون فواصل فنّية ما بين ثورة وأخرى، فيرون أن الفرق شاسع بين الثورة العمالية التي نشبت في موسكو عام 1917، وبين غيرها من الثورات من حيث التأثير الفني. هذه الثورة التي أعطتنا غارسيا لوركا وناظم حكمت وبابلو نيرودا وغيرهم، لأنها انطلقت من إيديولوجية معيّنة ونظرة واضحة للحياة والكون والفن بررتها الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية السائدة. فإن تناولنا الثورة الجزائرية على ضوء هذا المنطق فماذا نجد؟
لقد انطلقت هذه الأخيرة من وجودين حياتيين متصارعين، الوجود الفرنسي والوجود الجزائري اللذين لا بقاء لواحدهما في الجزائر إلا بالانتصار على الآخر أو السيطرة عليه. من هنا كان للثورة الأولى شعراؤها وإيديولوجيتها، بينما انعدمت هذه الإمكانية في الثورة الثانية. فبروز العنصر الواعي الإرادي والفكري في نظرة واضحة في الأول وانطلاق الصراع من منطق الحياة والموت للوجودين المتصارعين في الثانية، هو الفارق الجوهري الذي أنعم على الأولى بشعرائها وحجبهم عن الثانية.
ليس العامل الإيديولوجي وحده هو الذي خلق بابلو وناظم ولوركا. ومن الظلم الكبير أن يلاحظ هؤلاء العوامل الأخرى التي لا تقلّ خطراً عنه والتي قد تفوقه في القمية ومن الظلم الكبير أيضاً والتحريف التاريخي القول إن هؤلاء كانوا من نتاج الثورة البلشفية لأنها كغيرها من الثورات لم تنجب شعراً. ويمكننا أن نؤيد ما ذهبنا إليه بما يلي:
إن الذين يحتجون بالشعراء سالفي الذكر يقفون في صفنا إذ ليس هؤلاء أبناء الثورة بقدر ما هم أصحاب إيديولوجية معروفة.
لم تكن الثورة البلشفية الكاشف عن عبقرياتهم ومواهبهم الشعرية، لأنهم لم يصدروا عنها في معاناتهم الشعرية، فجذورهم الحقيقية تمتد في تراث بلادهم وإنسانها والمراحل التاريخية التي اكتنفتهم.
لم يكونوا روسيين أضف إليه أن ولادتهم الشعرية لم تكن إبان القتال والمراحل الضارية.
جاؤوا بعد الثورة، أي لحقوا بها. لقد غنوا نضالية الإنسان في بلادهم فمجدوا بهذه نضالية كل إنسان، ولعل إنسانيتهم هي أساس عالميتهم وعالمية شعرهم.
فالشاعر الحق والشاعر الكبير حتى ولو كان ملتزماً إيديولوجياً، أي كان صاحب نظرة إلى الحياة والكون والفن لا التزاماً مفروضاً عليه من خارج نفسه وقناعته- يستطيع أن يوفّق بين وعيه ولا وعيه، وبين عفويته وإرادته فتستحيل الانفعالات المهدورة في اتجاه الفعل إلى انفعالات مبدعة خصبه في اتجاه الخلق. ولإيماننا بالدور الذي يلعبه الفكر والوعي متى اقترنا بالعفوية والتجربة وخمّرا عبر النفس، نحلم بالشاعر الثوري.
لم نقصد بقولنا إن الثورات لم تنجب شعراء أن يكونوا دستوراً ينتظم كل الثورات الإنسانية بقدر ما قصدنا إلى تنبيه الأنظار إلى أمرين: الأول هو أن هذا الأمر ظاهرة بارزة في استقرائنا لتاريخ الثورات الفعلي والأدبي.
والثاني هو أن الشعر يتطلب كثافة في الانفعالات والقوى النفسية، تستهلكها الثورة في مجراها الحاد والآني، بينما لا بد في عملية الخلق الفني من مرحلة الاختزان والتخمر، لتأتي بعدها مرحلة التفجير الإيحائي الذي تولّده شرارة الانفعال الخصب والذي يتّصف به الخلاقون من الشعراء.
هل لنا إذن أن ننتظر الشاعر الثوري ونشوق إليه؟
ستة أعوام والدم يستسقي الدم. إن استبسال جميلة بوحيرد وتضحيات الجزائريين المتتابعة وبطولاتهم الفذة، أقوى ألفي مرة من أي قصيدة دُبّجت في الثورة الجزائرية. ومتى ارتفع شعراؤنا إلى مستوى هذه البطولات على الصعيد الإنساني والفني نستبشر خيراً بميلاد شاعر ثوري وببزوغ شعر يليق بالثورة.
فإن كان أغلب شعرائنا لم ينطلقوا في الذي قالوه في الجزائر من التجربة فمن أي شيء انطلقوا إذن؟ وكيف يمكننا أن نعلل هذه الغزارة النسبية التي ظهرت في شعر النضال الجزائري في السنوات الأخيرة؟ للجواب على ذلك لا بد من نظرة عاجلة وعميقة تستجلي لنا الخطوط الكبرى للحالة النفسية والفكرية والأدبية التي اكتنفت هذا النتاج الشعري المعين. وللتمكن من فهم هذه الحالات فهماً شاملاً وصحيحاً لا بد لنا أيضاً من تبين الروافد الفكرية العالمية عامة ووجهها الأدبي بشكل خاص، التي يصعب على الباحث تجاهلها أو عزلها عن اتجاهاتنا الفكرية المعاصرة، وإلا كان فهمنا مشوهاً وقاصراً بعزلنا الفكر عن الفكر، وإنساننا عن الإنسان في العالم في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة من تاريخ فكرنا المعاصر. وأي منا يستطيع أن ينكر قيمة الروافد الفكرية التي انصبت علينا من كل حدب وصوب من ماركسية ووجودية وقومية وغيرها؟
بعد النكبة الفلسطينية عام 1947 أخذنا نتلمّس حاجات جديدة تبزغ في عالم فكرنا وأدبنا الحديثين كما تلمّسنا تطورات جديدة عند مفكري وأدباء الضاد وأخذنا نقرأ كتباً ومقالات وتعليقات، ونشهد مؤتمرات وصحفاً ومجلات بل أحزاباً تولي اهتماماً كبيراً للدور الذي يجب أن يلعبه الأديب عامة والشاعر خاصة في القضايا القومية، نذكر منها مؤتمرات أدباء العرب والمناظرة التي جرت بين الدكتور طه حسين والأستاذ رئيف خوري كما نشير إلى المقالات التي كانت تنشرها مجلة الآداب في هذا الصدد. فصيحات الالتزام كانت ترنّ من كل جانب، وتعود فكرة الالتزام في الأدب عندنا إلى مصادر أربعة:
أزمتنا ومشكلاتنا النفسية والاجتماعية التي تلحّ علينا لنتخذ موقفنا ونعيّن مكانتنا.
ما ترجم من الفكر والأدب الوجوديين، بشطريهما الإفرنسي خاصة: سارتر وكامو.
ما ترجم من النظرات الماركسية والشيوعية في الفكر والأدب.
مواقف الأحزاب العقائدية القومية من القضايا العامة.
لم يكن الالتزام بادئ ذي بدء مما تنادي به الفكرة الوجودية السارترية، ولكن جملة من الظروف التاريخية دفعت سارتر إلى موقف الالتزام، فبين عام 1936 وابتداء الحرب الكونية الثانية عام 1939، أخذ المتابعون للفكر الوجودي السارتري يتلمحون تطورات جديدة خلقتها الأحداث اللاهبة التي عصفت بفرنسا، أبرزها الاحتلال النازي الذي خلّف حالة فكرية نفسية تذكرنا إلى حد بعيد بالحالة الفكرية النفسية التي خلفتها في حياتنا النكبة الفلسطينية والحرب الفرنسية الجائرة في الجزائر، المر الذي حدا بنا كما حدا بجان بول سارتر وبعض المفكرين الفرنسيين إلى الدعوة إلى الالتزام في الفكر والأدب. أما الالتزام السارتري فتعود جذوره إلى نظرة واضحة للحياة والكون والفن بينما التزامه حاجة قومية قاهرة، وموقف فكري مستعار. فالشكل هناك ينبثق من الجوهر، أما عندنا فالجوهر مداهم يبحث عن شكل جاهز، وهذه هي مأساة الانفصال في حياتنا الفكرية المعاصرة بين الروح والشكل. نفتّش عند الحاجة في التجارب الإنسانية الطليعية أو المتقدمة فإذا كانت مأساتنا مأساة الفكر والروح، فهي بنفس النسبة مأساة الشكل الذي يلبسه هذا الفكر وهذا الروح. إذ ليس من بأس أن تنفتح حياتنا على الإنسان وحضارته وتجاربه أياً كان هذا الإنسان وهذه الحضارة، شريطة أن يكون انفتاحها منوطاً بأمرين: الأول، أن ينطلق من حاجاتنا الفكرية والنفسية العميقة. والثاني، أن يكون انفتاحاً روحياً يمتص التجارب الإنسانية ويهاجمها من الداخل فيأتي شكلها منها وفيها لا غريباً عنها أو مستعاراً لها، وإلا فما معنى أن تنفتح حياتنا على التراث الإنساني انفتاحاً ظاهرياً، يسكت توقّدنا الروحي بأشكال جاهزة حائرة.
فالوجودية حين التزمت، لم يكن التزامها جاهزاً بل لعل نشأتها الأولى كانت بعيدة كل البعد عن مثل هذه المواقف. كان التزامها تلبية لحاجة فكرية نفسية وقومية. فالموقف هنا يتبع الجوهر وينبثق منه، بينما تنعكس المعادلة عندنا حينما ندعوا إلى مواقف نحاول أن نسند بها جوهرنا المداهم.
صحيح أن سلوك الإنسان الفرد في السارترية يخصه وحده وينبع من ذاته ووجوده، غير أن الإنسان الكائن يتحقق في الآخر، ولما كان تحققه في الآخر نوعاً من الوجود الاجتماعي أساسه الفرد، فإن ذلك كله يتطلب نوعاً من الالتزام تفرضه على الكائن طبيعة وجوده وذاته وصيرورته، لا القوى الخارجة عنه. ولعل هذا كله ينبثق من طبيعة موقف الوجودي من الحرية. إنها تعني الاختيار والاختيار يعني المسؤولية فلا بد إذن من نوع من الالتزام الداخلي الكياني لا الشكلي أو الخارجي. هذه الروح ذاتها تنعكس في الأدب الوجودي الذي يتسلل إلى نفسك من دون التزام فأين التزامنا من كل هذا؟
الماركسيون أيضاً يلتزمون. ولكن منطلق الماركسية الالتزام هو غيره في السارترية. يقول ماركس وإنغلز في البيان الشيوعي الأول ما معناه: أن الأدب الحق هو الأدب الذي يعبر عن الطبقة العاملة في صراعها التاريخي ضد الطبقات المستغلة ويصم ما عداه بالفردية والبرجوازية. ولكن كيف يمكننا أن نوفق بين التزام الماركسيين وضحالة الأدب الذي خلق في ظلال نظريتهم وضآلة شأنه؟ إن الالتزام في الماركسية مفروض من الخارج على الكائن، هذه الآلة الصغيرة في مكنة الدولة الكبيرة، أو قل في مصلحة الطبقة البلوريتارية التي تمثلها. غير أننا نرى أن الالتزام ينبع من صميم الكائن وحرّيته في الفكر الوجودي هذا الكائن هو أساس الوجود وغايته لا مجرد آلة فيه.
فالالتزام في الماركسية إذن ظاهري شكلي لأنه مفروض، يتجوهر في الوجودية السارترية لأنه ينبع من داخل. فالالتقاء بين الوجودية والماركسية كان موقتاً وظاهرياً مع أن الماركسيين في فرنسا قد صفقوا له طويلاً. ولم نكن لنقف هذه الوقفة عند الالتزامين عينهما لولا صلتهما بالالتزام عندنا ورفدهما إياه، بالإضافة إلى أزماتنا ومشكلاتنا الحادة التي كانت ولا تزال تلحّ علينا وتدفعنا دفعاً لنتخذ وجهتنا ونعيّن مكاننا. فإذا كانت استجابتنا لأزمتنا استجابة ناضجة نبعث منها مواقفنا ووجهاتنا وبالتالي مكانتنا، وإن لم تكن كذلك دفعتنا إما إلى ارتجال المواقف أو استعارتها من دون أن نتمثلها، فلا تمر إلى وجودنا منا، من خلالنا نحن، من خلال فكرنا وذواتنا، فلا نلبث أن نتحسس بعد فترة من الزمن مأساة الانفصال بين تجاربنا الروحية والأشكال الجاهزة.
هذا كله يضع يدنا على الجوانب الفكرية والنفسية والوطنية التي أحاطت بشعر النضال الجزائري، كان مردوداً للدعوة إلى الالتزام التزاماً شكلياً لا يلي الحاجة النفسية والفكرية والفنية لجوهر وجودنا المداهم في أزمتنا الحديثة غير تلبية ظاهرية، تواكب المشكلة مواكبة شعرية برّانية، ليس في استطاعتنا تحمّل الوهج في الأغوار. ويمكننا أن نجمّل الدوافع التي تكمن خلف أغلب ما كتب في الثورة الجزائرية من شعر بين 1955-1960 بما يلي:
الإحساس بضرورة موقف نضالي في الشعر والصدور عن تجربة شعورية.
وطأة الدعوة إلى الالتزام التي امتدت بعد النكبة الفلسطينية واحتدمت احتداماً ظاهراً بعد إعلان الثورة الجزائرية، والالتزام هنا مع رافديه الوجودي والسارتري.
دوافع إنسانية ووطنية.
دوافع فنية.
وقليلون جداً الذين استطاعوا أن يوفقوا بين إخلاصهم لفنّهم وإخلاصهم للقضية القومية. وبخاصة إذا أوضحنا أن غالبيتهم من الذين لم تكتمل ثقافتهم وشخصياتهم الفنية ولا يزالون بعد في طور البناء والاكتمال.
إن الأحداث التي مرّت على بلادنا بعد الحرب الكونية الثانية، لا تزال مادة شعرية غنية، والعبقريات الشعرية متوفرة لدينا، و الشعر صعب وطويل سلمه والدعوة إلى الالتزام أعطتنا محصولاً رديئاً من الناحية الفنية وإن خدم الثورة خدمة آنية ومحلّية وموقتة من الناحية الوطنية، فالشاعر إن لم يتوحد بالثورة ويتوفر له فكر وخلق ثوريان لا يمكن أن يكون شاعراً ثورياً.
إن التجربة الثورية أمر ضروري لكل شاعر يريد أن يغني ثورة ويكوّن رؤياها. وليس كثيراً على الشعب الذي خلق الثورة الجزائرية أن يمنحنا الشاعر الثوري.
غداً حلقة ثالثة