ساحة البرج… حكاية من الزمن الجميل
الياس عشّي
المسافة الزمنية بين وسط بيروت وساحة البرج المعروفة أيضاً بساحة الشهداء هي صفرٌ، ولكنّ المسافة بين الشعارات التي كانت ترفع في تلك الساحة قبل الحرب الأهلية اللبنانية، والتي ترفع الآن في وسط بيروت، تبلغ بضع سنوات ضوئية!
لنعد إلى الماضي، ليس إلى الماضي البعيد، بل إلى الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي.
فما من تظاهرة انطلقت في عهد الانتداب الفرنسي على لبنان مطالبة بالاستقلال، وما من اعتصام جرى احتجاجاً على بيع فلسطين لحكماء صهيون، إلّا وكان مسرحهما ساحة القبة.
وما من صوت ارتفع في وجه الطغاة والمستغلين والعملاء وتجار المذاهب والسماسرة والفاسدين والمفسدين، إلّا وكان مصدره تلك البقعة من أرض بيروت الطيبة المدعوة بساحة البرج حيناً، وحيناً آخر بساحة الشهداء.
وما من حزب قومي أو وطني دخل أقبية السجون إلّا وارتفعت يافطاته في فضاء ساحة البرج التي حفظت عن ظهر قلب عبارات الشموخ والتحدي والمواجهة مع أعداء الاستقلال وأعداء الحرية.
بين محالها المتواضعة، ومطاعمها الشعبية، وفنادقها الصغيرة، ومقاهيها البسيطة، ومنازلها الدافئة، كم من الاجتماعات قد عُقدت، وكم من الخطط قد وُضعت! فسقطت حكومات، وولدت أخرى. ثمّ كم من مرشح للنيابة، أو كم من نائب يسعى لدورة نيابية أخرى، عربش على نصب الشهداء، أو جلس في مقهى، وقال ما قال، وسمع ما سمع، وسقط من سقط، ونجح من نجح!… وظلت الساحة نظيفة لم تلوّثها الشتائم، ولا رائحة النفط، ولم يختنق واحد من روادها برائحة النفايات.
وعلى رغم كلّ أبواق السيارات، ومعها صافرات الترومواي، كانت ساحة البرج أفضل مكان يتحلق فيه الأدباء والشعراء والصحافيون والقرّاء، يمارسون هوايتهم في الحوار… وقبول الآخر.
إلى أن صدرت الأوامر، فدُكّت ساحة البرج عن بكرة أبيها في حرب أهلية ضروس اختلف فيها المتحاربون على كلّ شيء، واتفقوا جميعهم على تدمير الساحة «لغاية في نفس يعقوب».
وانكشف المستور، و«طحش» المقاولون، وخُتم على أفواه أصحاب المطاعم والمقاهي والبيوت بالشمع الأحمر، ثمّ خرج المارد من قُمقمه، وبصرخة مدوّية خرج فعل الأمر: كُنْ. فكان السوليدير.
ومنذ ذلك الحين وساحة البرج تائهة بين ما يسمّى بساحة رياض الصلح وما يسمّى بوسط بيروت. إنه زمن التيه، وزمن موت الأشياء الجميلة، وموت الذاكرة الجماعية بعد أن صادر الخوف والفقر كلّ أحلامنا بدءاً من فلافل فريحة وانتهاءً بمقهى وفندق الجمهورية.
وإنه، وا أسفاه، زمن الصراع على النّفايات، بعد أن أغلق الملف الفلسطيني عند الكثير من اللبنانيين.