ثورة: يا بالع الموس
وليد زيتوني
بالتأكيد، إنّ حركة الاحتجاجات الشعبية الحاصلة في وسط بيروت هي نتاج حالة الاهتراء المتقادم لمؤسسات الدولة. هي حالة احتجاج على الفساد المستشري في الإدارات، هي رفض للمحاصصات الموزعة على أمراء الطوائف، وزعماء الحرب. هي مطالب الحدّ الأدنى لحقوق مواطن عادي في أيّ دولة على امتداد العالم، بما فيها المتخلفة منها. الكهرباء مغيبة، المياه مضيّعة، الصحة محتكرة، الأمن معدوم، الكرامة مهدورة. في المقابل الرشوة مستشرية، الوساطة طاغية، المحسوبية معمّمة، التبعية متأصّلة، العدالة مستنسبة، الحرية مقيّدة، والأمل مفقود بالحياة العزيزة الكريمة.
جمهورية من دون رئيس، مجلس نواب عطّله توازن القوى الإقليمية، حكومة غير قادرة على تصريف الأعمال. اقتصاد ميزته الأساس تراكم الدين العام. اجتماع مفطور على الانقسام. سياسة عمادها التزلف والرياء، ورجالها إما إقطاع ورِث وورَّث، أو حيتان رأسمال محلي مرتبط بالرأسمال الأجنبي. حدود فالتة على التهريب، مباحة أمام الأعداء صهاينة وتكفيريين. أوامر ونواهٍ وإملاءات خارجية بواسطة سفراء يتصرّفون وكأنهم زمن الانتداب. طوائف ومذاهب تحتكر التعليم والاستشفاء والإعلام وحتى المصارف. حتى النضال حوصر بحقوق الطوائف، والثورة انحسرت بحدود المذاهب.
كلّ مواطن متضرّر بصورة أو بأخرى. متضرّر بالسكن مستأجراً كان أو مؤجّراً، متضرّر بالوظيفة لأنّ الكفاءة ليست طريقاً طبيعياً لوصوله. متضرّر بالخدمات لأنه محكوم بالراعي المذهبي والمحلي. متضرّر من الهجرة لفقدانه الحدّ الأدنى من إمكان الاستمرار بكرامته الإنسانية داخل الوطن.
كلّ هذه الأسباب دفعت الناس إلى الشارع. لم تكن مهمة «كومونة» النفايات إلا الشرارة لحريق كبير قد يصعب إذا ما تفاقم ضبطه وإعادة إمساك الأمن. بخاصة أنّ المطالب المتعدّدة التي بدأت تطفو على السطح. والحق لا يمكن أن يعطى بل يؤخذ غلاباً.
غير أنّ الخارج، لن يسمح بقيام ثورة نظيفة تستند إلى خيارات وطنية حرة وذاتية بعيداً من مصالحه. وعلى رأس هذا الخارج، الولايات المتحدة الأميركية، التي تعتبر لبنان جزءاً من منظومتها الأمنية والسياسية. يحاول هذا الأميركي، عبر أزلامه ودلّاليه وعملائه في السلطة وخارج السلطة، حرف الثورة المطلبية في وسط بيروت عن مسارها الصحيح.
فزبانيته ليسوا في السفارة الأميركية في عوكر فقط، بل في كلّ مكان، في معظم المؤسسات والإدارات الرسمية والخاصة وتشكيلات المجتمع المدني التابعة له، والمدرّبة في معاهد صربيا وقطر وتركيا لاستغلال هذه الحالات، وتصدّر الشاشات والإعلام، وبث الخوف والفرقة بين أطياف المشاركين. بدءاً من الشك مندسين وصولاً إلى إلباس الحراك المطلبي لباساً حزبياً سياسياً. وكأنّ أبناء الأحزاب وأبناء أحزمة الفقر، وأبناء المناطق المحرومة من خدمات الدولة ليسوا من هذا الشعب.
ونحن نقول للشعب، كلّ الشعب: هذه حقوقكم فانتزعوها، ولا تدعوا لهذا الأميركي أن يخيّركم بين الحقوق و«الفوضى الخلاقة».
لقد خبرنا هذا الأميركي من خلال ما سُميّ زوراً «الربيع العربي»، وخبرنا خطوط دفاعه الأولى والثانية والثالثة داخل السلطة نفسها. خبرناه في مصر وتونس وليبيا واليمن. خبرنا ألاعيبه وأفلامه الهوليودية. خبرنا كيف يصنع عملاءه عبر منظمات حقوق الإنسان والمراصد الإعلامية ومكاتب الإحصاء، والمنظمات السرية، والشركات الأمنية، والشركات الاقتصادية، ومنظمات المساعدة الإنسانية، بالإضافة إلى مئات وسائل الإعلام التي تنفذ حربه المعنوية والنفسية.
لقد أصبح المواطن أمام هذا الواقع بين حقوقه والتدخلات الخارجية، أصبح كمن يبلع الموس متردّداً في إكمال ابتلاعه، ومتردّداً في نزعه، ففي الحالتين الموس قاتل.
غير أنّ إرادة الشعب أقوى من السلطة، فهو أقدر على تحديد مصالحه وحقوقه، ومدركاً لخبث الخارج.