دراسة في بنية التحوّلات في رواية «ليالي ألف ليلة» لنجيب محفوظ
كتب د. مصطفى بيومي عبدالسلام: تتسم تجربة نجيب محفوظ الروائية بالتعدد والتنوع لناحيتي الكمّ والكيف. هذا التنوع يجعل من عالم نجيب محفوظ الروائي عالماً بالغ الغنى والثراء في الجمالية والدلالية على السواء فهذا العالم يجمع مثلما يقول د. جابر عصفور: «بين القص التاريخي والقص الواقعي، ويضم الرمز الجزئي الذي يتخلل النغمة السائدة لعمل واقعي مع الرمز الكلي الذي تتعدد دلالاته… يضاف إلى ذلك ما يقال إن هذا العالم يضم بين جنباته المدارس والاتجاهات المختلفة من واقعية نقدية إلى واقعية وجودية، ناهيك عن الطبيعية والسريالية والعبث… وكأن عالم نجيب محفوظ متحف لكل ما عرفته القصة من مذاهب واتجاهات».
لكن ما يلفت الانتباه في تجربة نجيب محفوظ الروائية هو احتفاؤها بأشكال السرد العربي القديم، وتمرّدها على الميراث التاريخي لنشأة الرواية العربية المعاصرة، تلك النشأة التي ارتبطت بنموذج القص الأوربي، في «ملحمة الحرافيش» 1977 ، «وليالي ألف ليلة» 1982 و»رحلة ابن فطومة» 1983 .
إن رواية «ليالي ألف ليلة»، التي تشغل اهتمام هذه الدراسة هي من الروايات التي تقيم علاقات نصية مع حكايات ألف ليلة وليلة القديمة. وقد يبدو صحيحاً ما طرحه روجر ألن من أن «حكايات ألف ليلة وليلة أصبحت ملاذاً شعبياً للكتاب المحدثين في جميع الأنواع الأدبية، فقد تم تكييف موتيفاتها وصورها وقصص كاملة منها في عملية مستمرة تبين الموقع المركزي لتلك الحكايات، وحكايات غيرها، في الوعي الجمعي للعالم العربي».
رغم ذلك، هذه الدراسة لا تشغلها دراسة علاقات التعلق النصي بحكايات ألف ليلة وليلة القديمة، أو استلهام حكاياتها أو مواضيعها في رواية «الليالي»، إذ قدم النقاد دراسات تعني بذلك، وإنما ينصب هاجسها الأساسي على دراسة بنية الرواية، بمفهوم يعود إلى تقاليد اللغوي فردينان دي سوسور بعبارة أخرى: تحاول الدراسة أن تكشف عن النظام أو البنية الكامنة خلف التجلي السردي، ولكي نتمكن من ذلك فإننا في حاجة إلى خلفية نظرية موجزة عن البنيوية.
نشأت البنيوية، في الأصل، من خلال التعارض مع الظاهراتية التي برزت من خلال أعمال الفيلسوف إدموند هوسرل في أوائل القــرن العشرين. بحثت الظاهراتية «تجنب الوقوع في الفصل بين الذات والموضوع، الوعي والعالم، بالتركيز على الحقيقة الظاهراتية للموضوعات التي تبدو للوعي. فيمكن أن نعطل أو نوقف الأسئلة عن الحقيقة النهائية أو قدرة المعرفة بالعالم، ونصف العالم كما يكون معطى للوعي». إن المقاربات الظاهراتية للمعرفة كانت تسعى، على ما يطرح ستييل، إلى «أن تجد أصل المعنى في الذات»، أو على ما يطرح هاراري أن تلك المقاربات «تدعي أنها تمنح الوصول المباشر للمعنى من خلال التحليل الوصفي لما نختبره أو ندركه أو نتلقاه». إن المعنى يكمن في تجربة الذات أو تلقيها للعالم أو وعيها به. أما البنيوية فقد «تخلت عن الذات وفعل التأويل … والمعنى يكمن في اللغة ذاتها». أزاحت البنيوية الذات عن مركزها، لكن هذه الإزاحة لم تكن سوى نوع جديد من التمركز، أي مركزية اللغة أو مركزية البنية «فبدلاً من وصف التجربة، فإن الهدف كان تعيين البنيات الكامنة/ الثاوية التي تجعلها ممكنة، وبدلاً من الوصف الظاهراتي للوعي، التمست البنيوية تحليل البنيات التي تشتغل بطريقة لاواعية مثل بنيات اللغة والنفس والمجتمع . وبسبب الكيفية التي يكون المعنى منتجاً من خلالها، فإن البنيوية تعاملت مع القارئ عادة بوصفه مجموع الشيفرات الكامنة/ الثاوية التي تجعل المعنى ممكناً».
إن التعارض بين البنيوية والظاهراتية يمكن أن يرى بوضوح من خلال فكرة الإزاحة والإحلال، إزاحة الذات عن مركزها، أو تدمير مركزية الذات وإحلال مركزية اللغة أو البنية أو الصوت، أو كما يطرح إيخلتون، إن البنيوية لديها مشكلة مع الذات الفردية كما يقال، فإن ذلك يعني أن: «الذات تم القضاء عليها بطريقة فاعلة، مختزلة إلى الوظيفة لبنية موضوعية … إن الذات الجديدة هي النسق ذاته في الحقيقة».
لكن لا بد من الانتباه إلى أن الظاهراتية والبنيوية رغم تعارضهما، ثمة أمر مشترك بينهما هو وضع «الموضوع» بين أقواس، فيتم بلا شك تجاهل الشروط المادية والتاريخية لإنتاجه أو إعادة إنتاجه، ويتم اختزاله أي الموضوع إلى تجسيد خالص للوعي كما في حالة الظاهراتية، أو إلى نسق مغلق من القواعد كما في حالة البنيوية. تهرب البنيوية من التاريخ إلى اللغة أو إلى النسق المغلق. ويبدو أن الحداثة الغربية جلبت هذا التصور إلى الوجود، فالبنيوية، على ما يشرح إيغلتون «بدأت تحدث عندما أصبحت اللغة انشغالاً متسلطاً على عقل المثقفين، وحدث هذا بدوره بسبب الإحساس أو الشعور بأن اللغة في أوروبا الغربية في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين كانت تعاني آلام أزمة عميقة. فكيف كان على المرء أن يكتب في مجتمع صناعي أصبح الخطاب فيه مختزلاً أو منقوصاً إلى مجرد أداة للعلم والتجارة والإعلان والبيروقراطية؟ وأي جمهور كان على المرء أن يكتب له مهما يكن الأمر بوصفه جمهوراً مشبعاً بالقراءة العامة المقدمة إليه من ثقافة جماهيرية نهمة للربح ومسكنة؟ وهل كان ممكناً لعمل أدبي ما أن يكون في آن واحد صناعة فنية وسلعة في السوق المفتوحة؟ وهل كان ممكناً أن نشارك بأيّ كيفية في الإيمان العقلاني أو الإمبريقي الواثق للطبقة المتوسطة في منتصف القرن التاسع عشر بأن اللغة ثبتت نفسها في العالم فعلياً؟ وكيف كانت الكتابة ممكنة من دون وجود إطار من الاعتقاد الجماعي المشترك لجمهور المرء، وكيف كان ممكناً أن يعاد ابتكار إطار مشترك مثل هذا في ظل الاضطراب الإيديولوجي للقرن العشرين». هذه الأسئلة التي يطرحها إيغلتون تشكل في ما أظن الشروط التاريخية والمادية للكتابة الحديثة، وهي التي يعود إليها وضع مشكلة اللغة على النحو الذي يعبر من غير شك عن أزمة اجتماعية، تلك الأزمة دفعت الكتابة إلى الانكفاء على ذاتها «في فعل نرجسي عميق، لكنها منزعجة ومغلفة بجرم اجتماعي يتمثل في عدم جدواها الخاص والتواطؤ بطريقة يتعذر اجتنابها مع هؤلاء الذين اختزلوها وأنقصوها إلى سلعة غير مرغوبة، ومع ذلك فإنها تجتهد لكي تحرر نفسها من تلوث المعنى الاجتماعي».
إن البنيوية يمكن رؤيتها ضمن إطار مشكلة الإحساس باللغة التي أشرت إليها سلفاً، وهي تخص معارف متباينة في العلـوم الإنسانية، ومـا يجمعهـا تحت ذلك المسمى على وجـه العمـوم هو استخدام لغويات فردينان دي سوسور، أو تطبيق النظرية اللغوية عند سوسور على موضوعات ومعارف ونشاطات أخرى غير اللغة. إن البنيوية في عبارة مختصرة وأثيرة طرحها فريدريك جيمسون هي «إعادة التفكير في كل شيء مرة ثانية بأطروحات علم اللغة».
في محاضراته عن علم اللغة العام التي ألقاها ما بين سنة 1906 وسنة 1911، ونشرت بعد وفاته عام 1916، يميز سوسور تمييزاً أساسياً بين «اللغة» و»الكلام»، ويعــده تمييزاً بين «ما يكون اجتماعياً وما يكون فردياً، وبين ما يكون جوهرياً وما يكون تابعاً على وجه التقريب».
إن ما يكون اجتماعياً وجوهرياً هو اللغة أو النظام وما يكون فردياً وتابعاً هو الكلام، ولذلك فإنّ موضوع اللغويات هو اللغة التي تجعل الكلام ممكناً، فاللغة «هي الجانب الاجتماعي من الكلام، وتقع خارج نطاق الفرد الذي لا يستطيع مطلقاً أن يخلقها أو يغيرها. إنها توجد فحسب بحكم كونها نوعاً من التعاقد بين الأفراد في مجتمع ما».
يتضمن التمييز بين اللغة والكلام تمييزاً أبعد هو التمييز بين «الدراسة المحايثة السينكرونية للغة ما التي تركز على لغة ما بوصفها نظاماً في زمن معين: حاضر أو ماضي والدراسة التاريخية الديكرونية ، التي تفحص التغيرات التاريخية للعناصر الخاصة في اللغة فلكي تفهم لغة ما بوصفها نظاماً فاعلاً يمكن أن تفحصه بطريقة محايثة، محاولاً أن توضح القواعد والمواضعات في النظام الذي يجعل الأشكال والمعاني ممكنة في اللغة».
إن أي لغة، في ما يطرح سوسور، هي نظام أو نسق للعلامات. هذا النسق أو النظام يجب أن يدرس تزامنياً أي بطريقة محايثة عند نقطة زمنية معينة وليس تعاقبياً أي بطريقة تاريخية تطورية . والعلامة اللغوية تتكون، أو يجب النظر إليها على أنها مكونة، من «دال» صورة صوتية أو معادلها الكتابي أو شكل ما ، و»مدلول» مفهوم أو معنى أو صورة ذهنية ومن ثم فالعلامة اللغوية كيان نفسي ذو وجهين الدال والمدلول متحدين بطريقة وثيقة، ويستدعي وجود أحدهما وجود الآخر بالضرورة. والعلاقة بينهما هي علاقة اعتباطية مؤسسة على العرف والمواضعة وليست على التشابه الطبيعي.
إذا كانت أي لغة، بحسب تصوّر سوسور، هي نظام أو نسق من الاختلافات فإن ما يجعل كل عنصر في هذه اللغة ما يكونه أو ما يمنحه كيانه هو الاختلافات والتباينات بينه وبين عناصر أخرى داخل نظام تلك اللغة. إن أيّ علامة لغوية تكمن خصوصيتها الدقيقة في أن تكون ما لا تكونه علامات أخرى داخل النظام، أو كما يقول سوسور: «في اللغة لا يوجد سوى الاختلافات فحسب».
هذه هي المبادئ العامة لنظرية سوسور اللغوية التي طبقت في مجالات معرفية مختلفة، فمن خلال تطبيق هذه النظرية «يمكن أن ترى أسطورة ما، أو مباراة مصارعة، أو نسق قرابة قَبَليِة، أو قائمة طعام في مطعم، أو لوحة زيتية، بوصفها نسقاً من العلامات، وسوف يحاول التحليل البنيوي أن يعزل مجموع القوانين الكامنة التي يتم بمقتضاها ائتلاف هذه العلامات في معانٍ. وسوف يتجاهل إلى حد كبير ما «تقوله» العلامات فعلياً، ويركز بدلاً من ذلك على علاقاتها الداخلية مع بعضها البعض».
إن النشاطات الإنسانية والمعرفية يتم تأملها مثلما يتم تأمل اللغة بوصفها نسقاً للعلامة، فإذا كانت مهمة اللغوي أن «يصف نظام القواعد، والتقاليد أو المواضعات، والممارسات التي تمكن الجنس البشري أن ينتج ويفهم الجمل، فإن مهمة البنيوي أو السميوطيقي هي أن يعيد تشييد أنظمة العلامة الأخرى التي تشتغل الثقافة بمقتضاها. إن مجالاً متسعاً من النشاطات الإنسانية ومنتجاتها يتم النظر إليها بطرق متشابهة، بوصفها منتجات لأنظمة الدلالة، ومن ثم بوصفها نصوصاً … إن أي شيء في المنظور البنيوي السميوطيقي يمكن أن يكون نصاً».
أشرت سلفاً إلى أن البنيوية هي محاولة لتطبيق نظرية «سوسور» اللغوية على مجالات معرفية مختلفة. وتطورت البنيوية أولاً في مجال الأنثروبولوجيا، ثم في الدراسات الثقافية والأدبية، والتحليل النفسي، والتاريخ الفكري، وأخيراً النظرية الماركسية.
إن البنيوية تخصّ مجموعة من المفكرين ظهروا في الخمسينات والستينات من القرن العشرين. ورغم اختلاف المجال المعرفي لكل منهم، فإنهم عملوا جميعاً تحت مسمى «البنيوية»، وكان يشغلهم أيضاً اكتشاف الأنساق الكامنة خلف أيّ ممارسة فعلية. ولكي يتم اكتشاف الأنساق أو اكتشاف الشيفرات والقواعد والأنظمة التي تكمن خلف الممارسة الثقافية والاجتماعية بطريقة علمية، لا بد من عزلها عن الممارسات الفعلية، لأن هذه الممارسات تلوث علمية الاكتشاف.
لكن عندما يعزل البنيويون النسق فإنهم «يلغون أيضاً التاريخ، لأن البنيات المكتشفة إما تكون كلية وشمولية البنيات الكلية للعقل الإنساني ومن ثم لا زمنية، أو تكون قطعاً اعتباطية منفصلة من عملية متغيرة ومتطورة».
إذا أضفنا إلى ذلك إشارة «كولر» السالفة بأن أي شيء يمكن أن يكون نصاً في التقاليد البنيوية، فإن مقاربة البنيويين لهذا النص «تكون ساكنة ولا تاريخية بالضرورة: أي أنهم لا يهتمون بلحظة إنتاج النص سياقه التاريخي، واتصاله الشكلي بالكتابة السابقة عليه ، ولا بلحظة تلقيه أو «إعادة إنتاجه» أي التأويلات المفترض أنها تابعة لإنتاجه ».
في مجال النقد الأدبي والدراسات الأدبية قدمت البنيوية نفسها بوصفها علماً، أو أن التحليل البنيوي للأدب، كما يطرح تودوروف «لا شيء أكثر من محاولة تحويل الدراسات الأدبية إلى معرفة علمية منظمة … أي مجموعة مفاهيم ومناهج منسجمة أو مترابطة تهدف إلى معرفة القوانين الكامنة».
لكي يقدم الناقد دراسة بنيوية للأدب أو علمية تطمح إلى اكتشاف القوانين الكامنة، فإنه عليه أن يفعل مثلما يفعل اللغوي، لناحية إنه «لم يعد مسؤولاً عن إعادة تشييد رسالة العمل، بل عن نظامه فحسب، مثل اللغوي تماماً الذي ليس مسؤولاً عن تفسير معنى الجملة بل عن تأسيس البنية الشكلية التي تسمح لهذا المعنى بأن يكون منقولاً».
يتبع