«الثورة المجيدة تكتب تاريخ لبنان الجديد»؟ 1 أسئلة لمفكري اليسار والخط القومي والوطني
ناصر قنديل
– عندما نشاهد آلاف اللبنانيين يحتشدون في الساحات تحت شعارات من نوع «لا للنظام الطائفي» ويكون الحشد متعدداً طائفياً، فهذه علامة خير طال انتظارها ولا يحق لأحد إنكار حق الاحتفال والفرح بقدومها، خصوصاً عندما يكون ذلك تعبيراً عن الغضب المقدّس للشعب من سلوك الذين يتولون مسؤولية الحكم وإدارة شؤون البلاد التي بلغت مرحلة من الانهيار، لا يمكن تحمّلها ولا تقبّلها ولا الصمت عليها، فالانهيار شامل ومتماد، في المجال الدستوري يعبّر عنه الفراغ والشلل والتمديد، وفي السياسة تعبّر عنه اللغة الهابطة والإفلاس والعقم وابتعاد الضوء عن آخر النفق وعدم وجود بارقة أمل يمكن للمواطن أن يتعلق بها، واقتصادياً ركود وجمود وبطالة وإفلاسات وغلاء، واجتماعياً لا ضمانات ولا طبابة ولا سكن، وخدماتياً لا كهرباء ولا ماء ولا هاتف، ويكتمل النقل بالزعرور بانفجار أزمة النفايات المريع والفضائحي الذي توّج بمناقصة التقاسم المخجل، وإدارياً فساد عميم وترهّل مقيم وعجز قديم، فكلّ شيء يقول إنّ الثورة أقلّ مما يحتاجه لبنان واللبنانيون.
– هذا المشهد يستدعي القول إنّ لبنان ذاهب إلى مكان خطير، وإنّ الذي يجري في الساحات من حشود تعبير عن ضيق صدر الناس وبلوغها حافة الغضب والسخط، والحاجة الملحة إلى مبادرات إنقاذية لا تستكين لكون الإحساس بالانهيار لا يثير ما يستدعي التحرك، فقد خرجت الناس تعبيراً عن هذا الغضب، وصار التحرك نحو الحاجة إلى معالجات مسؤولة ومبادرات معقولة أكثر من الضرورة الملحة.
– إلى هنا يكون كلّ شيء صحيحاً، ويكون ما يمكن أن يقال في مكانه، ويمكن تقبّل ما نسمعه من آمال وأحلام بالتغيير وفهمه كأمل بالخروج من اللعبة التي تعيد إنتاج ذاتها للنظام ذاته، ويمكن أن نضمّ صوتنا للذين قالوا إنّ هناك موازين قوى جديدة تتشكل حول أداء مؤسسات الدولة خصوصاً في شؤون الخدمات العامة، بعدما اضطرت الحكومة إلى إلغاء مناقصة النفايات التي كانت قد أعلنت بلسان وزير البيئة بصفتها ستسلك طريق التنفيذ، كما نضمّ صوتنا إلى الذين يقولون إنّ هذا كله يتيح التأسيس عليه للضغط عبر الشارع والإعلام والرأي العام لمصلحة أهداف أكبر وأبعد، انطلاقاً من حل ّلأزمة النفايات يتأسّس على ردّ الاعتبار للقانون الذي يحدّد مسؤوليات البلديات واتحادات البلديات عن هذا الملفّ وردّ أموال الصندوق البلدي المستقل المنهوبة خلافاً للقانون إلى أصحابه لتولي هذه المهمة، وتأسيساً على هذا الذهاب إلى ما هو أبعد من نوع الضغط لفرض تشريع لقانون انتخابي عصري محسوم أنه يجب أن يبنى على النظام النسبي وخارج القيد الطائفي، وصولاً ربما إلى تشكيل هيئة أهلية حكومية مشتركة لمكافحة الفساد والتحقق من النزاهة والالتزام بالتمانع بين المصالح الخاصة وممارسة المسؤولية الرسمية في مؤسسات الدولة الدستورية والإدارية والإشراف على تطبيق قانون من أين لك هذا، لكن أن يقول بعض المفكرين والكتاب والسياسيين الذين نحترمهم ونقدّر كثيراً مواقفهم وطريقة مقاربتهم للملفات والأزمات، أنّ «الثورة المجيدة تكتب تاريخ لبنان الجديد» فتلك فاجعة فكرية وسياسية ووطنية في آن واحد.
– ليس مهماً أن نذكر الأسماء التي يطاولها هذا النقاش فهم في أغلبهم أصدقاء وباتت مواقفهم معلنة عبر مقالاتهم وعلى شاشات المحطات والقنوات الفضائية، لهم باع في مواقف وطنية وتقدمية، خصوصاً في الموقف من المقاومة وسورية ومواجهة ما تتعرّضان له من حروب ظالمة، وما قاله هؤلاء يستحق نقاشاً معمّقاً ومفصلاً، فالوقوع في تقديس العفوية مرض عضال في ممارسة السياسة يتسبّب بالكوارث الوطنية، والنقاش يبدأ من أسئلة من نوع، هل يمكن أن نصدق أننا أمام مشروع بديل سياسي يملك رؤية موحدة لحلول وروزنامة لتطبيقها، بخطوطها العريضة على الأقلّ، التي يمكن أيّ منتدى سياسي أن يضعها، بينما نسمع القيّمين على التحرك يطالبون باستقالة حكومة يعلم المبتدئ في قراءة الدستور أنها لن تستبدل بسواها حتى لو استقالت وستبقى تتولى إدارة شؤون البلاد لأن لا وجود لرئيس جمهورية يجري المشاورات لتسمية رئيس حكومة يتولى تشكيل حكومة جديدة، وأن يقوم القيّمون على التحرك في المقابل بالدعوة إلى انتخابات نيابية فوراً، من دون أن يكون أحد منهم قادراً على الإجابة عن سؤال وفقاً لأيّ قانون وتحت إشراف من؟ وأبسط البسطاء يعلم أنه في ظلّ التركيب السياسي الراهن للبلد فإنّ أفضل القوانين وهيئات الإشراف لا يكفيان لتغيير التمثيل النيابي الراهن بصورته الإجمالية ولو تمّ تجميله ببعض المكوّنات التغييرية التي لن تشبه بشيء ما حمله مجلس العام 1972 عندما قام أهل بيروت المسلمون بتمويل حملة انتخابات النائب نجاح واكيم وضمان إيصاله إلى المجلس النيابي بأصواتهم، وعلى رغم ذلك تكفل النظام السياسي بإبقاء صوته وأصوات أخرى مشابهة كالنائب السابق زاهر الخطيب مجرّد صرخات في البرية، وهل يملك القيّمون أجوبة على أسئلة من نوع أيّ نظام اقتصادي يريدون للبنان؟ كي نسمّي ما يجري ثورة ستغيّر وجه لبنان وتكتب تاريخه الجديد، وجلّ ما يملكونه ملاحظات ومآخذ وشكاوى محقة من سوء الواقع وفضائحيته، والتي لا تكفي لصناعة البديل، هذا ولم نتحدّث عن ماهية الموقف الذي تحمله الثورة من القضية الرئيسية التي يواجهها لبنان وهي قضية الاحتلال «الإسرائيلي» ومخاطر العدوان المستمرّ، وفي مقابلها المقاومة وسلاحها من جهة، ومن جهة مقابلة الحرب مع الإرهاب والتحدّيات التي يطرحها وتداخل هذه الحرب مع ما يجري في سورية، والموقف من مشاركة حزب الله فيها، وهل يمكن لصيغة حكم في لبنان ألا تمتلك جواباً على هذين السؤالين الكبيرين؟
– الأسئلة التي نريد سماع أجوبة أصدقائنا من الذين يقعون في تقديس العفوية، من دون أن ندخل معهم في نقاش حول مَن وكيف يدير الحراك، هي من نوع، بماذا تختلف «ثورة لبنان المجيدة» عن ثورتي مصر وتونس؟ حيث اهتراء النظام والفساد وفقدان الشعور بالكرامة الوطنية كانت من أسباب انفجار الغضب الشعبي، وحيث لم يحل وقوف مفكرين ومثقفين جادّين ووطنيين إلى جانب الحراك والسير في روزنامته من دون أن يشكل مدخلاً لأخذ البلدين نحو الفوضى؟ وبماذا يختلف الوضع عما شهدته سورية، حيث قال الرئيس بشار الأسد وهو يتحدث عن المؤامرة إنّ الأمر يشبه تغلغل الفيروسات في الجسد ولو كان الجسد أشدّ مناعة لما تمكّنت منه الفيروسات، بما يعني بوضوح أنّ الفساد وعدم وجود بيئة تمثيل صحيح في المجالس النيابية وعدم اهتمام الحكومات المتعاقبة بهموم واهتمامات الناس، والضغط على الحريات هي العوامل التي منحت لمن أراد استهداف سورية أن يستند إليها ويستثمر عليها، ومن يستطيع الجزم بأنّ كلّ الحراك في سورية مع بداياته كان مدبّراً ولم يكن في الكثير منه تعبيراً عن هذا السخط وهذا الغضب، لكن من يستطيع أن يقول اليوم إنه لم يأخذ سورية إلى الخراب، وبماذا يختلف موقف الأصدقاء الذين نختلف معهم على هذا التقديس، عن مواقف شخصيات سورية معارضة مثل برهان غليون وجورج صبرا وحسن عبد العظيم وسواهم، إذا ناقشنا جوهر المواقف والتبريرات بعيداً عن التحليل البوليسي للارتباطات والعلاقات، فالكاتب عزمي بشارة لا يمكن مناقشته بموقفه مما يجري في سورية إلا وفقاً للنص الذي يكتبه ويقوله وليس وفقاً لتقييمات من نوع دور المال القطري، وهو مال ليس بعيداً على كلّ حال عن مؤسسات إعلامية لعبت وتلعب دوراً محورياً في هذا الحراك، ومقولة عزمي بشارة هي «ليس مهماً موقف سورية من المقاومة أمام السعي إلى دولة الحرية والديمقراطية والشفافية»، وهذا منطق نشمّ رائحته مما يجري في الساحات وما يدور فيها وحولها؟
– في حلقة الغد ما هو السيناريو الذي يمكن لحراك الساحات أن يأخذ لبنان إليه، طالما لا انتخابات ولا تغيير حكومياً سوى تسريع مسار رئاسي من خارج الهيكل السياسي، وهو على الأرجح للشخصية العسكرية الأبرز قائد الجيش الذي يحوز كلّ احترام اللبنانيين وتقديرهم، ولكنه ليس مطروحاً كهدف للحراك، علماً انه قد يكون النتيجة الأقرب مدى، وما هو موقف المفكرين في اليسار والخط القومي والوطني من هذه الفرضية التي تبدو مساراً شبه حتمي للحراك إذا سارت الأمور نحو روزنامات التصعيد بالسقوف العالية وما تنتجه من فوضى، وما هو الموقف من بنية الخط السياسي لقادة الحراك ونظرية «كلكن يعني كلكن» ومشروع شيطنة المقاومة وقائدها الذي بات ملموساً وظاهراً، وهل يجوز مع كلّ ذلك ممارسة التسابق على الممالأة والمداهنة والتملق للحراك، أم يقتضي الواجب على المفكرين وضع النقاط على الحروف لجهة حصر الحراك بصيغ مطلبية تعبّر بصدق عن أسباب الناس الغاضبة للنزول إلى الشارع وعدم منحها التفويض لأحد كي يأخذها إلى خيار رئاسي معيّن كحصيلة، والتصدّي لمحاولات خداع الناس بترك الحراك يضيع في متاهات اللعبة السياسية بدلاً من الضغط لتوظيفه لإنتاج حلول واقعية للأزمات يمكن البناء عليها.