«على تماس» يعيد تشكيل الخريطة الإعلامية بالوثائق والأرقام

عبير حمدان

يلعب الإعلام دوراً لا يُستهان به في تشكيل المشهد المفترض للشرق الأوسط الجديد. لذا، من الصعب عزله عن ساحات المعارك المتنقلة من مدينة عربية إلى أخرى بمسمّيات مختلفة. ويمكن لتقرير متلفز تجييش شعب اعتاد أن يؤدّي دور المتلقي من دون نقاش، ومن دون أدنى محاولة للبحث عن الحقيقة المستترة بين التفاصيل.

لعلّ القراءة بين السطور حاجة ملحّة في زمن صارت فيه وسائل التواصل الاجتماعي بديلاً عن المطبوعات الورقية، والبحث عن المادة التوثيقية هدفاً لتصحيح المسار المشهدي الذي من المفترض أن يواكب الحدث بواقعيته بمعزل عن أيّ تعليب أو نمطية إبهار. من هنا، اختار المخرج أيمن زغيب فتح جملة من الملفات الساخنة وعلى شاشة «المنار»، ليكون «على تماس» مع غليان العالم العربي ضمن إطار تحقيقيّ مشهديّ، يتضمّن كمّاً هائلاً من الصور والأرقام الواقعية الصادمة وغير المتوقعة.

ينتقل زغيب بين الدول وفقاً لتصاعد الحوادث، فمن لبنان إلى سورية والأردن وليبيا واليمن وتركيا وصولاً إلى مشارف أوروبا. ويختار فتح الأبواب المغلقة في عددٍ من العواصم العربية التي لا يستسيغ أصحاب القرار فيها إعطاء المعلومات. لذا، قد نرى في طرحه شيئاً من المغامرة لناحية نقل الصورة الممنوعة. وحين نسأله عن كيفية حصوله على اللقطة، يكتفي بالابتسام.

قبيل شهر رمضان الفائت، عرضت «المنار» حلقة من السلسلة الوثائقية «على تماس»، لكنها ارتأت التروّي وجمّدت المشروع إلى ما بعد انقضاء شهر الصوم. لتطلّ مساء اليوم بحلقة يمكننا القول إنها الأولى من السلسلة، وتتناول فيها ملف اللاجئين السوريين في البلدان المجاورة، ونقطة الانطلاق من الأردن، حيث يتكشف للمتابع أنّ كلّ ما قيل أو كُتب عن هذا الملف لا يرتقي إلى مستوى البحث. من هنا، يتميّز طرح زغيب بما فيه من معلومات مكثفة يمكن الجزم أنها تخرج إلى الضوء للمرّة الأولى. وتقودنا إلى جملة من السيناريوات التي تُحضّر لإعادة رسم خريطة المنطقة العربية بما يخدم مصالح الجهات المستفيدة من النزاعات المتنقلة.

يتحدّث زغيب عن مشروعه فيقول: «المشروع الذي أقدّمه مادة تحقيقية مليئة بالمعلومات الدسمة واللقاءات مع المعنيين بالقضية المطروحة، من رسميين وأفراد عاديين. وبعد أسبوع أتابع النقاش من خلال توك شو، وهو مادة مشهدية صوِّرت وصُممت خصيصاً لتُعرض في قالب حواريّ، وتتضمن تعليق المقدّم على ظروف التصوير ورؤيته وتقييمه للبيئة التي يرتبط بها الملف المطروح. وإذا تطلب الأمر وجود ضيف في الاستديو فسيكون موجوداً. المادة التي أقدّمها فيها الكثير من العمق، ويجب ألا تبقى معلقة في إطار محدّد. لذلك، من المفيد تشريحها على طاولة البحث».

أما لماذا اختار زغيب تناول ملفّ اللاجئين السوريين تحديداً وأين الاختلاف في المعالجة قياساً بما تناولته معظم وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة من نصوص وتقارير يجيب: «هذا الملفّ كان ولم يزل على طاولة البحث منذ بداية الأزمة. إلا أن أحداً لم يتناوله بشكل عميق وأكاديمي وعلمي، نحن كفريق في البرنامج تحرّكنا ما بين تركيا والأردن ولبنان. وسترون في هذا الوثائقي حجم الكارثة بواقعيتها من دون أي زيادة أو نقصان».

يدخل زغيب إلى المخيمات المنتشرة في الأردن. منها المقفل أمام عدسة الكاميرا لأسباب قد تكون أمنية، ومنها المشرّع للهواء الإعلامي وكلٌ يراه من زاويته الخاصة. إلا أن معدّ «على تماس» ومخرجه لم يرِد أن يكون طرفاً في المعادلة. واكتفى بنقل الصورة والصوت تاركاً المجال أمام المتابع كي يحلّل المشهد من وجهة نظره كمراقب للحوادث. ومن هنا يتّخذ البرنامج سمة التميّز عمّا سبقه.

وعلى رغم أن عنوان الحلقة فيه الكثير من الإشارات واضحة المعالم، إلا أن باب النقاش مفتوح حول المصير الذي ينتظر هؤلاء الذين اختاروا الهرب من بلدهم والسير في الصحراء خلف حدود رسمها الاستعمار قديماً، ويعيد ترسيمها اليوم لتصبح محكومة بالتشرذم مجدّداً.

في حلقة ملف اللاجئين السوريين في الأردن «حلم السيطرة على حوران»، يمكن للمشاهد المقاربة بين زمنين. إذ لا تختلف الملامح اللاجئة بين مخيمات 1960 ومخيمات 2015 إلا في الهوية. ففي الأولى نزح من يحمل الهوية الفلسطينية قسراً إلى الأردن ـ الجزء من دول الشتات ـ وما لبث أن ذاب في النسيج الاجتماعي وبقيت قضيته معلقة حتى يومنا هذا. وفي الثانية نزح من يحمل الهوية السورية طوعاً في ظلّ «الربيع العربي» وما قدّمه من مساعدات افتراضية، بحيث اختصرت دول النفط الخليجي وطناً برمّته داخل «كرافان» لا يتّسع للشعارات المدسوسة في الشارع. وحين تفتح عين العدسة على امتداد مخيّم الزعتري في صحراء الأردن، قد ينقشع الغبار المتناثر في مرمى النظر، لنجد مدناً تتشكل، ولعلها تصبح مدخلاً إلى أوطان بديلة يتم فيها تسجيل بصمة العين وتحديد المسار ضمن حدود أقل ما يُقال عنها أنها تحمي أمن العدو ومن يجاهر بالتطبيع معه.

يذكر أن برنامج «على تماس» شهري، بحيث يُعرَض التحقيق الوثائقي الساعة 9:30 من مساء الأربعاء الأول من كلّ شهر. وبعد أسبوع تُعرض حلقة «التوك شو» المرتبطة بالملفّ المطروح. والوثائقيّ من إعداد وإخراج أيمن زغيب، أما الحلقة المصوّرة في الاستديو «التوك شو»، فهي من تقديمه وإعداده ويخرجها أمين بسّام.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى