النصّ والنصّ… العناصر الرئيسة والثانوية
منصور نعمان
ننشغل أو نتشاغل أحياناً أخرى عن النصّ، متناسين النواة المكوّنة للعرض المسرحي، الذي يتكوّن من مجموعة من عناصر، أوّلها النصّ، الذي يُعدّ الأرضية التي ينطلق منها العرض، ليؤسّس العالم الإبداعي الافتراضي المتخيّل، بعيداً عن الواقع، وفي الوقت ذاته قريباً منه.
إنّ النصّ ليس كلمات وحروفاً وعلامات فحسب، كما يتجلّى حين ننظر إليه على الورق، أو على سطح شاشة الكومبيوتر. إنه كائن تجريدي، مركّب من كلمات وعلامات تشكّل عوالم غريبة وصوراً متنوّعة وأشكالاً عجائبية. فما العناصر الموجودة في النصّ؟
تؤكّد الدراسات والبحوث المعاصرة الرصينة أن النصّ الدرامي يتكون من خمسة عناصر أساسية هي: الفكرة، الحبكة، الشخصية، الحوار، والجوّ النفسي العام.
إلا أن كتاب «في الشعر» لأرسطو ـ الذي ترجم أيضاً تحت عنوان «فنّ الشعر» ـ قد حدّدها بستة عناصر هي: الفكرة، الحبكة، الحوار، الشخصية، الموسيقى والإنشاد، والمنظر.
وبين التحديدين لعناصر النصّ القديم والجديد، هناك عناصر أخرى مغيّبة، وإن كانت لها السطوة الكبيرة في العرض وهي: الإضاءة، الأزياء، الماكياج، الأدوات الأكسسوار ، والشعر المستعار.
ومما لا شك فيه أنّ هذه العناصر التي لم يدرجها منظّرو الدراما، والتي سأطلق عليها الثانوية مجازاً ـ بوصف المسرح ليس فيه عنصر ثانوي إطلاقاً، فكل جزئية فيه تشتغل ولها كيانها ووظيفتها ـ إذ لا يمكن أن يكتمل الموقف الدرامي بغير تعاضد العناصر وتكاملها، وقد لا تكتمل العناصر الرئيسة من غير تغذيتها المستمرّة بالعناصر الثانوية.
إن روح النصّ تبقى باحثة عن تكونها وديمومتها واندفاعها بشدّة نحو الإنجازية العالية. وهذا الامر لا يتحقّق من غير لملمة الفعل الدرامي بأجزاء العناصر كافة. إن النصّ عالم مليء وغنيّ وثريّ ومستقطر من الحياة ليعود إلى الحياة من جديد ويغذّيها. بكلمة أخرى، إن عوالم النصّ، إنما هي بناء الحياة وزجّ نتفها ودمجها وصهرها، وإعادة تركيبها بتصوّر جديد، ما يعيد الروح إلى الحياة المتّسمة بالتجمد والتيّبس. لهذا السبب نقول أحياناً: إن هذا النصّ معبّر عن خلجات الإنسان وهمومه وآماله وتطلّعاته.
والسؤال الآن: أتكون تلك وظيفة النصّ الفذ، أن يكون معبّراً!؟
من غير شك إنها وظيفة النصّ، أن يستقي من الواقع ويعود إليه بفكر وطريقة تفكير قد تكون مغايرة لما هو سائد. إلّا أن ثمة رأياً آخر قد يكون مراوغاً ومثيراً للجدال. ألم تعبّر النصوص المكتوبة عن الواقع بجدّية عالية وطرحت تساؤلات الإنسان وهمومه!؟
نعم، هي الاجابة ولكن، يثار سؤال آخر يتعلّق بالنصّ: كيف عبّر النصّ عن الحياة؟
فهل يمكن اعتبار النصوص التي مجّدت الدكتاتوريات في العالم، وكانت جزءاً من ماكينة الحرب باستباحة بلدان وإسقاط حضارات وتدمير الإنسان، كما حدث في حقبة هتلر على سبيل المثال لا الحصر؟ أيمكن اعتبار تلك النصوص التي مجّدت هيستريا اكتساح العالم بحجّة بنائه من جديد وفق أيديولوجيا محددة؟ ألم تكن تلك النصوص تعبّر عن واقع معيّن ومعاش؟
إذا كان الأمر كذلك: لِمَ ماتت تلك النصوص وقبرت؟ آلاف النصوص كتبت في العالم منذ أن كتب إسخيلوس أوّل نصوصه حتى اليوم، ولم يبق منها إلا القليل الذي صمد أمام عاديات الزمن والمتغيّرات وما اكتنف الحياة من تطوّر وتنوّع. ما الذي يعنيه أمر موت النصوص واندثارها أو تناسيها؟
إن انتفاء الحاجة إلى تلك النصوص يعدّ سبباً مقبولاً، أو أنها ما عادت تحمل حيوية المطاولة مع الحياة، أو أنها لا تعبّر عن الإنسان الذي يحيا محنته. لهذا، يتم البحث عن مؤلّفين جدد يكون بإمكانهم تناول موضوعات الحياة والتعبير عن نبض الإنسان المُتسارع فيها.
وفي ضوئه، يمكن القول إنّ النصّ يكون معبّراً عن الحياة ـ الواقع ـ ليس الحجة، بدلالة ما تقدّم من مسوغات. فموت النصّ يعني موت الفكر فيه، لا الواقع الذي يجتهد بالتعبير عنه وعكسه. وخير ما يساق في هذا الجانب، نصوص كلاسيكية كثيرة تقدّم بإطارها الزماني والتاريخي الطرازي ، وليس في ذلك خدش للذائقة الجمالية لدى الإنسان المعاصر. فالطرازية ليست معيبة، إنما الأمر يتعلق بالعمق الفكري ورهافة النصّ وحميميته والتصاقه بالحياة واستجابته لضمّ المتغيّرات اللاحقة بعدما تتمّ إنجازية النصّ. بكلمة أخرى، إنّ النصّ العميق يستطيع أن يستدرج القادم من المتغيّرات ويمنحها شرعيتها الدرامية وكامل حقوقها. إن صورة نصّ على هذا المستوى من الدقة والعمق والالتصاق، إنما يكون هو النصّ الصامد أمام ثقل المتغيّرات الكونية والحياتية.
وفي ضوء ماتقدّم، تعدّ المضامين المسألة الجوهرية في النصّ. ولها الثقل الكبير بجعل النصّ قوّة متحرّكة بأكثر من زمان ومكان. للسبب أعلاه، لم نزل نُجلُّ نصوصاً، وإن تقادم الزمان عليها، لأنّ مضمونها عميق ومتجذّر بالإنسانية ويتغذّى عليها ويشكّل ديمومتها الخالدة.
وقد لا تكفي المضامين الحيّة وحدها في الإبقاء على النصّ. إنّما هناك الشكل الفنّي في كيفية بوح النصّ مضمونَه وقيمَه الجمالية وبنيتَه العميقة.
إن الكيفية التي يظهر عليها النصّ من خلالها، إنما تعني قيمته ورقيّه. ففي الـ«كيف» وحدها يختلف نصّ عن آخر. فطريقة تقديم الأفكار وبناء الشخصيات وتنوّع مشاربها وخصائصها ومواءمتها الحدث والحبكة الدرامية ورصّها حدّ التقطير للأفعال، ونوعية الحوار وكيفية تقديم الأبطال واحتدام الصراع، والحوار المتألق المتفلسف الذي يسمو بالبطل ويجعل منه ندّاً للمؤلف في بعض المقولات التي ينطقها، وطريقة السرد الضمنيّ للنصّ وفجواته التي تكون دائماً بحاجة إلى الردم، والتي سينهض القارئ بهذه المهمة، في النصّ أو في العرض على حدّ سواء.
وقد تكون العناصر واحدة في النصوص، إلّا أنّ الأختلاف يكون بالطرق التي يتّبعها المؤلف في تشكيل العالم المتخيّل الذي سيكون حاملاً المعاني ومحمولاً بها.
إن اختيار الصمت بين الحوار داخل النصّ قد يكون معرقلاً تدفق الحدث وسريانه. لكن عندما يكون الحدث الدرامي ذاته يتأسّس على الصمت يكون الصمت والحالة هذه نبض النصّ واشتغاله وسريانه، وإن كان يمثّل فجوة أو مجموعة من الفجوات التي تحدث مطبّات في طبوغرافيا النصّ، إلا أنّها تفتح باباً واسعاً لا يغلق، من مساحات التأويل التي تفترض وجود المعنى في الصمت.
من الطبيعي أن يكون الصمت عنصراً ثانوياً في النصوص، قد يبادر إلى استخدامه المؤلف لبلورة موقف الشخصية في قضية من القضايا. أما في مسرحية «في انتظار كودو» لمؤلفها بيكيت، فإن الصمت كاد أن يكون هو النصّ ذاته. فالصمت عنصر حيويّ فيه من الحوار إن لم يكن هو الحوار ذاته، لكنه حوار غير مسموع.
يلاحَظ أن كيفية تعامل المؤلف ومعالجة عناصر النصّ الرئيسة والثانوية كفيلة بترجيح كفة النصّ على نصوص أخرى. وحريّ بنا أن نكتشف درجة عمق النصّ من خلال عمّا يعبّر النصّ. أي القضية التي يسعى بشدة للتطرّق إليها، والكيفية التي يسعى لتقديم أفكاره من خلالها. برأيي، إن المسألتين جوهريتين للغاية. فإنّ اكتشاف درجة عمق النصّ ليس بالأمر الهيّن على الاطلاق. إذ إنّ معرفة كيفية عمل آلية العناصر الرئيسة والثانوية أمر صعب، وبحاجة إلى اجتهاد ومثابرة من قبل النقّاد والمخرجين والمهتمين بنصّ المؤلف ونصّ المخرج. ومن الطبيعي أنّ الصورة المسرحية تتألف من مجموعة من الصور السمعية البصرية والحركية. وإنّ التناغم بين أنساقها الثلاثة سيحدّد شكل العرض، مثلما سيحدّد بالدرجة ذاتها نصّ المتلقي. ومما لا ريب فيه أنّ العناصر الثانوية ستكون فاعليتها أشدّ وتأثيرها أعمق ببلورة صورة العرض الكلّية الشاملة ومتعدّدة البناء والمتشربة كلّ العناصر. لهذا ستظهر جليّاً وظيفة الضوء في العرض ويعمل بفاعلية عالية، مثلما سيشكل المنظر والكيفية التي ينفّذ من خلالها والتصميم الجمالي الذي ينتهي إليه، كلّ ذلك إنما يشكّل العوالم الخفية والظاهرة، ليبوح المصمّم بالاتفاق مع المخرج من خلال تصميمية المنظر عن العلاقات والأفكار المعلنة والمطمورة التي يمكن أن يوقظها التصميم في الذاكرة الجمعية أو الذاكرة الإبداعية.
والأمر ذاته في ما يخصّ الأزياء أو الماكياج أو الشعر المستعار. إنّ العناصر الثانوية التي لا تكون جليّة بشكل كافٍ في نصّ المؤلف، يجري تعميقها في نصّ العرض بشكل جليّ وكبير.
وبناءً على ما تقدّم، فإنّ عالم النصّ يشتغل على العناصر الثانوية أسوة بالعناصر الرئيسة. إلّا أن ذكرها يكون مقتضباً وفي أحيان أخرى لا تذكر تفاصيلها إلا إذا ارتبطت بشكل فعلي بالحدث الدرامي. وعلى سبيل المثال، يذكر في بداية الفصل أو المشهد المنظر والزمان، وقد يهمل الزيّ الذي ترتديه الشخصية. إلا إذا كان الحدث يُبنى على الزيّ. فقد يذكر المؤلّف أن البطل يرتدي زياً أسود، أو أن البطلة ارتدت فستاناً أبيض. وهكذا يجري الأمر. أما في العرض، فيكون ضمن مواصفات البطل أبعاده وحالته النفسية والاجتماعية، وإن ما يرتديه يكون ذا علاقة مباشرة بالتفاصيل السابقة من جهة، وبالحدث الدرامي من جهة أخرى، وبرؤية المخرج للشكل الفني الذي يكون عليه العرض المسرحي.
كاتب وناقد مسرحي عراقي