مسرحية «الأسلحة الفتّاكة» وأكاذيب الإرهاب المعتدل

د. حسن أحمد حسن

يبدو أنّ قصة الراعي الكذّاب وما تتضمنه من حكم ومواعظ وعِبَر، تتجاوز بمدلولاتها الزمان والمكان والأشخاص، وتأخذ إضافة إلى الجانب الاجتماعي جوانب أخرى سياسية وذات صلة بالعلاقات الدولية، إذ تحوَّل الذئب الذي اخترعه الراعي الكذاب إلى إرهاب صنعته الاستخبارات الأميركية والأطلسية وأمدته بجميع عوامل القدرة والانتشار لينفث سمومه وإجرامه في مختلف الساحات التي تحدّد على نحو مسبق بما ينسجم ومصالح من رعى ذاك الإرهاب وحوّله إلى منهج عمل وطريقة تفكير تسيطر على سلوك من يحملها، وتجعله أسير قناعات تكفيرية تبيح لصاحبها القتل والذبح والاغتصاب وارتكاب أفظع الجرائم من دون أن يرف له جفن، ويبدو أن المحافظين الجدد قي بلاد العم سام مفتونون بالمنطق الهوليودي القائم على تحويل الأميركي إلى سوبرمان خارق وقادر على الطيران من بناية إلى أخرى واختراق الجدران والقبض على الرصاص المنهمر بأصابع الكف وتحقيق المعجزات عبر شاشة تستند إلى الخداع وعمليات المونتاج التي تحوّل العالم الافتراضي المأمول إلى واقع بعين المشاهد. وكذلك يبدو أن الخيال قد شط بهم بعيداً إلى درجة افتعال حوادث الحادي عشر من أيلولـ أو استغلالها على أقل تقدير وتسويق أميركا كضحية لإرهاب القاعدة لخلق البيئة الاستراتيجية المطلوبة لشن حرب كونية تحت عنوان مكافحة الإرهاب على كل من يخالف توجهات المحافظين الجدد، مع عرض أن تنظيم «القاعدة» سيرورة وصيرورة هو صناعة أميركية بامتياز، ما يجعل الأبواب مفتوحة أمام كمٍّ لا متناهٍ من التساؤلات المشروعة التي تنتظر أجوبة محددة يبدو أنها لا تزال ضبابية المعالم، فهل انقلب السحر على الساحر وبدأ الوحش يستعدّ للانقضاض على مربيه، أم أنه لا يزال أكثر من مطيع وكل ما يتمّ تسويقه في وسائل الإعلام لا يعدو كونه محطات متقدمة واحتياطية لضمان تمرير مشروع التفتيت والسيطرة على هذه المنطقة الجيواستراتيجية من العالم، تمهيداً لإحكام القبضة من جديد على القرار الدولي بعدما تبين أن الاستمرار في التحكم المنفرد بالقرار الدولي أمر متعذر ويحتاج إلى روافع إضافية، بعد تحطم الرأس القاطر من جراء الارتطام بالموانع الفولاذية التي أفرزتها المقاومة وأقطابها المتميزة بتكامل الأدوار والقدرة على قلب الطاولة فوق رؤوس اللاعبين الذين اعتادوا تبادل الأنخاب المملوءة بدماء الشعوب والرقص على جماجم الآخرين؟ وكيف يمكن فهم الصورة على نحو متداخل إذ تشير بعض معطيات الواقع إلى أن التخوّف في الكثير من العواصم الأطلسية حقيقي، وهو يتعاظم باطّراد من عودة الإرهابيين الذين صُدّروا إلى سورية بعد اكتسابهم خبرات جديدة في الإجرام والإرهاب، في حين تشير معطيات أخرى إلى إصرار الأطراف الرئيسية في العدوان على ركوب الرأس ورفع السقوف والاستمرار في تزويد العصابات التكفيرية مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة منها وغير الفتاكة، تحت ذرائع وحجج واهية لا تتعدى قيمتها الفعلية على أرض الواقع الصفر الحسابي لا صفر كيري الكبير؟!

استناداً إلى ما تقدم، وبعيداً عن الخطاب الأميركي الرسمي الموسوم بالتناقض ويعكس مدى إفلاس إدارة أوباما وعجزها عن تحقيق أي هدف استراتيجي من الحرب المفروضة على سورية، فإن معطيات الواقع والحقائق الميدانية التي ظهرت على امتداد أكثر من ثلاثة أعوام تؤكد جملة معطيات، منها:

من السذاجة التفكير في أن العروش المتهالكة في ممالك التصحر ومشيخات الغاز والنفط تستطيع شق عصا الطاعة الأميركية والتغريد خارج السرب، أي أنّ كل ما تم تزويد العصابات الإرهابية به من مال وسلاح إنما تم بمباركة واشنطن ورضاها، إن لم يكن بطلب مباشر منها.

الكثير من السلاح الخفيف والمتوسط والثقيل هُرّب إلى سورية قبل آذار 2011. وبقي استجرار ما تطلبه العصابات الإرهابية من سلاح مستمراً على امتداد الحدود مع كل من تركيا والأردن، وبإشراف مباشر من أجهزة استخبارات مختصة بالتعامل مع العصابات الإرهابية المسلحة.

منذ الأسابيع الأولى للتحرّكات الممنهجة في سورية ظهر السلاح بين أيدي العصابات المسلحة بمختلف أنواعه بما فيها مضادات الدروع، وبعضها «إسرائيلي» الصنع ظهر في إدلب وريف دمشق ودرعا وبانياس وحماه وغيرها من المناطق التي كان السفير الأميركي المخلوع روبرت فورد يتابع تحركات مسلحيها لحظة بلحظة.

ذروة التصعيد العسكري الخارجي كانت في آب 2013، مع تقاطر البوارج والمدمرات الأميركية إلى مياه المتوسط بذريعة الرد على استخدام السلاح الكيماوي، وتبين لاحقاً عبر ما نشره الكاتب الأميركي سيمور هيرش وما تناقلته الصحف الأشهر في أميركا وبريطانيا الواشنطن بوست ، التايمز، الغارديان… وغيرها من الصحف التركية والأطلسية أن غاز السارين الذي استخدم في الغوطة الشرقية سلّمته الاستخبارات الأميركية إلى حكومة أردوغان لتسلمه بدورها إلى العصابات الإرهابية المسلحة التي استخدمته في خان العسل والغوطة وأماكن أخرى، كما أن التحاليل التي أجريت في المختبرات البريطانية المتخصصة أكدت أن السلاح الكيميائي الذي استخدم في الغوطة الشرقية غير موجود لدى الجيش السوري، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إذا كان ثبت أن إدارة أوباما زوّدت العصابات الإرهابية المسلحة السلاح الكيماوي فأيّ أسلحة أخرى فتاكة يمكن أن تهدّد بتسليمها أولئك القتلة من حملة الفكر التكفيري الذين ما كان لإجرامهم أن يصل ما وصل إليه لولا الدعم الأميركي والأطلسي والخليجي والأردوغاني الذي لم يتوقف لحظة واحدة؟

لا يحتاج المتابع لفصول الحرب شبه الكونية على سورية إلى كبير عناء ليكتشف أن معزوفة تزويد العصابات المسلحة أسلحة فتاكة فقدت بريقها من جراء التكاذب المستمر الذي يتقاسم المسؤولون الأميركيون الأدوار التنفيذية في ما بينهم، فمرة تصعد «خارجية» كيري فيسارع البنتاغون على لسان رئيس هيئة الأركان الجنرال ديمبسي إلى التبريد بحجة الخوف من التداعيات غير المحسوبة، وتارة يهدد أوباما ليطل الناطق باسم البيت الأبيض أو غيره لتقديم تفسيرات ممجوجة لما يطلق من تهديدات ، وأخيراً اضطرت مستشارة الأمن القومي إلى بق البحصة والاعتراف رسمياً بأن الإدارة الأميركية زودت وتزود ما أسموه معارضة معتدلة الأسلحة الفتاكة وغير الفتاكة، ولا يغيب عن ذهن متابع متخصص التزامن المريب بين تصريحات سوزان رايس ونتائج الانتخابات الرئاسية في سورية التي أصابت جميع دوائر التآمر والعدوان بالصرع والهستيريا فارتفعت حدة التصريحات والممارسات لتعكس مدى العجز المتفاقم والإحباط القاتل الذي تعيشه تلك الدوائر وهي ترى بأم العين كيف يحطم السوريون جيشاً وشعباً وقائداً كل ما تم العمل عليه منذ سنوات، ويفضحون بالإثباتات العينية الميدانية زيف الرواية التي تم تسويقها لتفتيت سورية بحجة ما أسموه مطالب مشروعة للشعب العربي السوري الذي كال لهم الصفعات القاضية تباعاً، وتوج ذلك بخروج الملايين في يوم الاقتراع على منصب رئيس الجمهورية ليؤكد وبصوت هادر أن « الشعب يريد بشار الأسد» وليس كما كانوا يفبركون حين كانوا ينصّبون أنفسهم حماة للشعب السوري وناطقين باسمه ليسوّقوا أهدافهم على لسان هذا الشعب الأبيّ الوفيّ الذي قال لهم: «كل ما روّجتموه باطل، وما أنزل الله به من سلطان، والشعب براء منه ومن مروّجيه وداعميه وجميع الدائرين في هذا الفلك المشبوه».

إن العودة للحديث عن تسليح ما أسموه معارض مسلحة بأسلحة فتاكة هي أسطوانة مشروخة لا تقدم ولا تؤخر، فالأهداف التكتيكية والإستراتيجية من وراء ذلك مفضوحة ومنها:

التشويش على نتائج الانتخابات الرئاسية التي عصفت بأحلام أطراف التآمر والعدوان ومن معهم من أدوات تنفيذية مأجورة بعد الاصطدام أكثر من مرة بالجدران الفولاذية.

محاولة يائسة لرفع الروح المعنوية المنهارة بشكل دراماتيكي في صفوف جميع العصابات الإرهابية المسلحة على اختلاف مسمياتها وفي جميع أماكن انتشارها على الجغرافيا السورية.

محاولة التأثير في الروح المعنوية العالية لدى المواطن والمقاتل العربي السوري، والتقليل ما أمكن من وهج وألق الإنجازات الميدانية المتنقلة يومياً وفي جميع ميادين المواجهة المفتوحة.

أمام الأخطار الحقيقية التي تحملها عودة القتلة الإرهابيين الوافدين من دول أوروبا وأميركا، وأمام العجز عن الاستمرار بأكذوبة مكافحة الإرهاب ودعمه في آن واحد يصبح التخلص من تلك المجاميع الإرهابية هدفاً استراتيجياً، وكي لا تعترف واشنطن وأتباعها بالهزيمة يتم تلميع بعض مكوّنات ذاك الجسد الإرهابي وتسويقها على أنها معتدلة لإطالة أمد المواجهة المفتوحة في سورية، ريثما يتم إيجاد ميادين أخرى لنقل الإرهابيين إليها، سواء في الصين أو السودان أو أيّ مناطق أخرى، فما يهم واشنطن وحلفاؤها ينحصر في منع عودة القتلة الإرهابيين من سورية إلى أوطانهم بأي شكل من الأشكال. علماً أن تقسيم الإرهاب إلى معتدل ومتشدد صناعة أميركية أيضاً، لكنها بضاعة فقدت صلاحيتها مذ تم التداول بها في السوق السورية التي أحرقت العملات الدخيلة كافة دفعة واحدة، وها هم السوريون اتخذوا قرارهم وانتخبوا من يجسد إرادتهم، تاركين لمن لا تعجبه قافلتهم حرّية العواء بالطريقة التي يريد.

باحث سوري متخصّص في الدراسات الجيو بوليتيكية ـ

dr.hasanhasan2012 gmail.com

dr.hasanhasan yahoo.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى