إرم ذات العماد مدينة الحلم
الدكتور نذير العظمة في كتابه «أدب المقاومة بين الأسطورة والتاريخ» يقدّم للقارئ دراسة تغوص في أعماق العلاقة بين الشعر والثورة، وحدود تأثير الواحد منهما في كينونة الآخر، مقدّماً من أجل توضيح ذلك أمثلة عديدة عن ثورات كبيرة وقعت كالثورتين الفرنسية والبلشفية الروسية.
لقد حاول الدكتور العظمة أن يعالج بنفسٍ فلسفي عملية الانبثاق الثوري والانبثاق الشعري وطبيعة العلاقة بين الاثنين وكذلك دور الإيديولوجية في هذا الشعر.
يتكلم المؤلف في مقدمة الكتاب ـ الدراسة عن الموروث التاريخي لدى معظم مفكرينا وكتّابنا والمتعلق بالتبعية للحضارة الغربية والانبهار بها، والتي شكّلت لوقتٍ طويل عاملاً مانعاً من توليد الإبداع عندنا.
يتوزّع الكتاب على خمسة أبواب تعالج في الباب الأول شعر النضال الجزائري والتجربة الثورية، وفي الباب الثاني اتجاهات الشهر المقاوم والكفاح الفلسطيني. أما في الباب الثالث يتطرّق إلى المرأة المقاومة، وفي الرابع يشير إلى الرؤية العربية، أما في الباب الخامس فيتكلم على الشعر المقاوم بين الوظيفة التاريخية والفنية.
و«البناء» إذ تنشر الدراسة على حلقات فلأنها تعتقد بأنه من الضرورة بمكان إبراز طبيعة العلاقة بين المقاومة والشعر، وطبيعة العوامل المؤثرة سلباً أو إيجاباً، الأمر الذي أبرزه الدكتور العظمة في دراسته.
في هذا العدد يتكلم الدكتور العظمة عن إرم ذات العماد كمتخيّل قاربه عدد من الأدباء والشعراء دامجين بين الأسطورة والواقعية متوسلين الرمز والأسطورة وقد تطوّعت لديهم الأجناس الأدبية لتحمل رسائل ذاتية ووطنية ووجودية.
أولاً، غسان كنفاني: كان صاحب الهم الكلي المتمثّل لديه بضياع الوطن في وقت كان أدبه سلاحاً موجعاً الصهاينة ما وضعه في دائرة الخطر والتصفية.
السؤال الأساس يدور حول ماهية مصادر أفكار وإبداعات كنفاني.
هي الانفتاح على التيارات الفكرية إضافة إلى التجدد الحضاري الذي عبّرت عنه مجلة «شعر» شعراً وروايةً ومسرحاً وفكراً وجودياً وفلسفةً، الأمر الذي تخيّل بواسطته كنفاني «إرم ذات العماد» مدينةً للقدر الوجودي وليس للقدر الإلهي.
وثانياً، جبران خليل جبران الذي رآها إرم العربية ذات الحلم والمثال، فالتقى مع كنفاني باعتبارها مدينة الوحدة والحلم.
ثالثاً، صلاح عبد الصبور، لم يكن في «مأساة الحلاج» بعيداً من الأفق الذي اتبعه غسان كنفاني في مسرحية «الباب».
رابعاً، نذير العظمة: «جسر الموتى»، في هذه المسرحية دمج الشاعر القصيدة الدرامية بالتقنية وارتقى بالفلكلور الشعبي إلى مستوى الأسطورة.
غسان كنفاني استطاع أن يسمو في مسرحية الباب بمعاناته من المستوى القومي إلى المستوى الإنساني وأحسن في توظيف الفكر الوجودي لخدمة هذه المعاناة، لا سيما فكرة ترابط الحرية بالمسؤولية.
هل تطلّع الإنسان إلى مدينة بشرية غير المدينة التي ولد فيها، يعيش ويموت. هل هو هروب من مدينة الطين الذي استلت منه سلالة الإنسان والبشر أو هو حلم بالفجر في سرير التراب والموت الذي يؤوي إليه المرء بعد كدح يوم أو عمر طويل لا ينتهي إليه الإنسان إلى طمأنينة السعادة من شقاء الجسد والنبض الإنسانيين على طريق البشر الذي تنتهي فيه الولادة إلى الموت.
هل لعبة الحلم بالخلود ورؤيا الخروج من نار الحياة وجحيمها إلى الجنة واللذة والسعادة هي عبث آخر أو تعويض خيالي عن حقيقة البشر التي لا يفارقها الموت وآخرة الجسد التي تصير إلى آخرة الروح التي تنعم بحلم الخلود في جنان المخيّلة.
«إرم ذات العماد» أصبحت حلماً عند الشاعر الفلسطيني بعد ضياع الوطن.
هل الحياة عبث لا يدركه الإنسان إلا حينما يصل إلى جدار الموت وعليه أن يختار، إما الحرية أو العبودية! إما الاستسلام للفناء والزوال أو بناء مدينة الحلم وخلود الإنسان، إرم ذات العماد.
غسان كنفاني وإرم ذات العماد 1936-1972
أن تغتال الموساد، منظمة المخابرات «الإسرائيلية»، غسان كنفاني عام 1972 بتفجير سيارته في الحازمية في بيروت، فلذلك دلالات مهمة في جوهر الصراع الفلسطيني ـ «الإسرائيلي» ومراحله.
غسان كنفاني كان يعتدّ بفكره وقلمه وإرادة النضال في عراكه مع الصهاينة الذين اقتلعوه مع أسرته من عكا في عام 1948 وهو ابن اثني عشر عاماً فنزحوا جميعاً إلى دمشق. لم يصارع بالقنبلة والبندقية بل بالتربية والتعليم والحقائق التاريخية عبر الإعلام والإبداع الأدبي والفكري.
فعلامَ إذن تخشاه «إسرائيل» التي اغتصبت أرضه وطفولته وتاريخه ورمته إلى التشرّد والعوز والخيام تحت رعاية الأونروا التي تتقيّد بالمهام الإنسانية للاجئين في معزل عن خسارة الهوية الحضارية والقومية. فعمِل مدرساً للرياضة والرسم بعد أن انتقل إلى الكويت 1956 ، ما أتاح له الاطلاع على قراءات ثقافية واسعة بعد تخرّجه من معاهد دمشق التعليمية ومارس مسؤوليات وظيفية في الإعلام، لا سيما بعد انتقاله إلى بيروت عام 1960، فعمل محرراً في جريدة «الحرية» في بيروت ورئيس تحرير في «المحرر» كما عمل في «الأنوار» و»الحوادث».
وأسس بعدها جريدة «الهدف» الأسبوعية وظلّ رئيساً لتحريرها منذ عام 1969 حتى استشهاده في عام 1972 على يد الموساد «الإسرائيلي».
يعبّر غسان كنفاني في إنتاجه الأدبي من أقصوصة ومقالة ورواية ومسرحية عن معاناة ذاتية قومية، بدءاً بواقعية شفافة، وفي مرحلة النضج واقعية سحرية تتوسل الرمز والأسطورة وتطوّع الأجناس الأدبية على تنوعها لتحمل رسائل ذاتية وطنية ووجودية.
الهم الكل لمعاناة غسان كنفاني هو ضياع الأرض والوطن والإرباكات التي خلفتها اهتزازات الهوية الحضارية في مهام التحرير الإعلامي كما في الكتابة والإبداع الفني. لم يبدع غسان أدباً للترف، كان إبداعه بمثابة السلاح الذي كان يوجع الصهاينة في الصميم، لذلك رشّحته دوائرها الحساسة بالخطر للتصفية. فالفكر هم عماد الحضارة، يخشاه المستوطنون السفاحون أكثر مما يخشون البندقية والقنبلة والرشاش.
والسلاح الذي يلمع في وجه المعركة لا يجدي نفعاً إن لم يتحرك بوضوح الرؤية وثقافة المقاومة التي تمارس الدفاع عن النفس.
بعدد تحقق حلم الاستقلال لعدد من الدول العربية كسورية ومصر من نير الانتداب والوصاية والاستعمار وقعت مأساة فلسطين التي عادت إلينا بها بالاستيطان الصهيوني واقتلاع شعب بكامله من أرضه تحت بصر وببركة منظمات دولية سيطر عليها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية وظلّت استراتيجيتها هي: الهيمنة على ثروات العرب الأولية والخشية من تطلعاتهم القومية والدولية. فكانت «إسرائيل»، ولا تزال، حارساً أمنياً لمصالح الغرب الاستعمارية على حساب تشرّد الشعب الفلسطيني وإبادة وجوده وتدمير هويته.
إلا أن روح الحرية ظلت متقدة في الصدور. وحققت ثورة الجزائر حرية الشعب بالكامل، بالثمن الغالي لمليون شهيد. وتوحّد العرب بتضامنهم بوجه الأطماع والغدر.
غسان كنفاني وجيله يحملون هذا الوعي بالإضافة إلى معاناتهم الفعلية. ماذا يبقى لمن يُقتلع من أرضه وبيته غير التشرّد والموت. وهل الموت غير باب موصد بوجه هذه الأجيال التي منع عليها الخبز والحرية والكرامة الإنسانية ورميت تحت الخيام على مرمى شهادة الوطن؟!
ألم يكن هذا حلم غسان وآلاف من المشردين الذين نزعت عنهم عزة المواطنة وأُلبسوا ثوب التشرد والفقر؟
والسؤال هم لماذا يلجأ غسان كنفاني في الستينات المبكرة إلى هذا الطرح، وما هي مصادر أفكاره وإبداعه المتميّز؟
الانفتاح على التيارات الفكرية كان سمة المرحلة البارزة. والتجدد الحضاري الذي عبّرت عنه الحركة التموزية في مجلة «شعر» كان ناشطاً من خلال الترجمة والإبداع، لا في الشعر فحسب، بل في الرواية والمسرحية أيضاً والفكر الوجودي ومقولاته الفلسفية والالتزام ببناء الإنسان وحضارته ومجابهة جدار الموت بالحرية والإرادة لا النكوص والخوف. جبرا ابراهيم جبرا يؤكد ذلك بإشارة موجزة في مقدمته لمسرحيات غسان. لكنه ربما ليس على علم بأن غسان كنفاني كان يتردد على بعض جلسات خميس مجلة «شعر»، بدءاً من انتقاله إلى بيروت 1960. وغسان في مسرحية «الباب» يستفيد من الفكر الوجودي والتموزي كليهما بتأكيد حرية الإنسان وإرادته في صنع قدره ومصيره واقتحام باب الموت لبناء الحياة التي تجيء بالإرادة والحرية لا بالولاء لمشيئة والديه.
إن الالتفات إلى الأسطورة في أدبنا الحديث فرض حضوره بداية مع الأجناس الوافدة إلينا من الآداب الأوروبية التي تمثل تراث الغازي المهيمن.
ودخول المسرحية والرواية كأجناس أدبية جديدة صاحب أيضاً حضور الأسطورة الفولكلورية والدينية والإغريقية والرومانية. فتوفيق الحكيم، على سبيل المثال، يتحفنا بمسرحية «أهل الكهف» معوّلاً على مصادرها المسيحية والإسلامية. كما يتحفنا بمسرحية «شهرزاد» من ينابيع «ألف ليلة وليلة»، إلى جانب مسرحية «بجماليون» من مصادرها الإغريقية عبر المؤثرات الرومانية، ومسرحية «يا طالع الشجرة» من أدب اللامعقول أبرز الاتجاهات الأوروبية الحديثة. فالمسرح والمسرحية جنس وافد إلينا من الآداب الأوروبية وتقاليدها الإغريقية الرومانية العريقة. ومع المسرح وجدت الأساطير سبيلها إلى إبداعاتنا الأدبية.
لكن التاريخ ظلّ أكثر حضوراً في الرواية التي بدورها جنس وافد أيضاً إلى جانب الأبعاد الواقعية والاجتماعية العاطفية. وهو أمر بارز في إنتاج جرجي زيدان وحتى في روايات نجيب محفوظ التي اعتمد بعضها على المصادر التاريخية المصرية إضافة إلى نزعاته الواقعية والتحليلية.
إن طغيان الميثيولوجيا الإغريقية الرومانية من خلال أوروبا النهضة ومؤثراتها في أدبنا واضح من خلال حركة أبولو ومجلتها «طقوس الخصب» التي عبّرت عنها تراثات سورية القديمة وما بين النهرين ووادي النيل تعتبر من أهم علامات التراث الإنساني.
وهي في الجوهر تفسير ديني وثني أسطوري فلسفي لعلاقة الإنسان بالطبيعة والطبيعة بالإنسان. كيف يحيا الإنسان ويموت في عالم التعاقب وزمنه وما معنى حياته ووجوده وبقائه.
ومع أن «طقوس الخصب» تعبّر عن الحضارة السورية والرافدية والمصرية القديمة. إلا أن عمقها الفلسفي وصورها الأسطورية الخالدة جعلتها ميراثاً إنسانياً عامّاً. فانتقل بعض رموزها ودلالاتها من سومر وأكاد وكنعان إلى العبرانيين ووادي النيل والإغريق والرومان وأوروبا النهضة، إما بالتفاعل الحضاري أو بالإبداع بالموازاة.
الباب وإرم ذات العماد
تعتمد مسرحية «الباب» 1964 على أسطورة عربية قديمة. عاد ملك لقبيلة تسكن الأحقاف. وآلهتها: صدا وصمود وهبا. وعاد هو الحفيد الثاني لنوح. أصاب قبيلة عاد القحط الشديد لإلحادها. فأرسل عاد وفداً إلى مكة ليستقي الماء للأحقاف. فنزل الوفد ضيفاً على معاوية بن بكر في ظاهر مكة. فأرسل إليه جاريتين مغنيتين تسميان الجرادتين ـــــ تذكران الوفد بغنائهما بمهمته. فلما طلب الوفد الاستسقاء ظهرت في السماء ثلاث غيمات: سوداء رمز الموت وحمراء رمز الدم وصفراء رمز الطاعة .
ويرث عاد ولده شديد… يموت فيرثه أخوه شداد الذي يبني مدينة إرم ذات العماد. ولكن لغضب من الآلهة لا يستطيع دخولها، وحين يصر على ذلك تأخذه عاصفة أصوات من السماء فيموت وتتهاوى إرم…
الأسطورة غير مثبتة تاريخياً بالتفصيل، فبالإضافة إلى آيتين قرآنيتين: ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد سورة الفجر. تقتصر على ما يقوله ياقوت في معجم البلدان والطبري في مقدمات تاريخ الرسل والملوك.
تتألف مسرحية «الباب» من خمسة فصول على نمط المأساة الإغريقية وأشخاصها، بالإضافة إلى هبا أول آلهة القبيلة الثلاثة هناك:
عاد ملك القبيلة وشداد ابنه ووريث مملكته، وأم شداد، وولده ووريثه مرثد، ورسول من البلاط، ورجل أول ورجل ثانٍ. ثم قيل رئيس الوفد إلى مكة، ورعد صديقه ولقمان كاهن عضو في الوفد.
عاد سيّد القبيلة يرسل وفداً منها للاستسقاء من مكة. هجر معبد القبيلة ودعا الناس إلى هجر هبا كبير آلهتها الذي يقتل البنات ويجفف الضروع ويزرع الجوع. بينما يعتقد عاد بأنه الإله يجب أن يسقي شعبه لا أن يذله وينتقم منه بسبب الخطيئة. والماء الذي يصاحبه الذل والهوان على يد هبا ليس ماء الحياة بل هو شراب الطاعة والمسكنة والموت كما ترمز إليه السحب الثلاث التي يرفض أن يستقي منها عاد ويختار الماء من مكة لا من إله القبيلة.
فالصراع كما في المسرح الإغريقي هو بين إرادة الإنسان للخيار الحر… أو الخضوع لإله القبيلة كفعل لقمان الكاهن.
عاد الإنسان الذي يصنع قدره ولقمان الذي يخضع لقدر الآلهة متضرعاً: لقد جرّني عاد بعيداً عن معبدك… أغلق أبوابه في وجهي بعد أن كنت خادمك وكاهنك… حرّم عليي التضرّع لك والدعاء إليك وتلمّس قدميك… وها أنت ذا تردّ غضبك عليه وعلي. لقد احترقت مزارعي وجفّت ضروع مواشي ومات أطفالي ولكني لم أفقد إيماني بك… يا هبا إنهم يستسقون آلهة مكة بدل أن يستسقونك! فانتقم منهم وأعد مجدك في الأحقاف لأعود إلى خدمتك .
وبظهور السحب الثلاث في نهاية الفصل الأول يستلّ عاد سيفه ويختار السحابة السوداء والصراع.
شداد لا يرث مملكة أبيه، عاد فحسب. بل يرث أيضاً الصراع مع آلهة القبيلة وقيمها حول قدر الإنسان وقدر الآلهة. فأبوه عاد يجابه هبا ويحتكم إلى إرادته هو لا إرادة هبا ليتحكم بحياته وبمصيره. ويبني مدينته فهي مدينة الإنسان لا مدينة هبا، مدينة الإرادة لا مدينة الخضوع والطاعة.
والكاهن الذي يعوق عاد عن المضي إلى صنع قدره في الفصل الأول من مسرحية «الباب» أصبح ظلاً هامشياً في الفصل الثاني، وحلّت محله أم شداد التي تكبدت معاناة عاد، وتأبى على شداد أن تستمر المعاناة وإرث الصراع.
شداد يستكمل حلم عاد فيبني إرم ذات العماد، مدينة الإنسان، مدينة القدر الوجودي، لا مدينة القدر الإلهي، ويسمّيها بالجنة التي هي ثمرة إرادته وعزيمته وصراعه، لا هبة الخضوع والطاعة التي يمارسها هبا على الإنسان.
فالماء الذي يفجّره شداد أو يأتي به ليس ماء المغفرة والمسكنة والطاعة بل ماء الحياة والإرادة وبناء الفردوس الإنساني بيَدِ الإنسان.
إن فكرة الإرادة والموت ضرورية في تلك المرحلة، فالمقاومة الفلسطينية التي لم يشر إليها صراحة غسان كنفاني في مسرحياته خلافاً لرواياته وقصصه ومقالاته. ربما كان غسان يومئ إلى المقاومة بكسر جدار الموت من خلال التقنّع بالأسطورة. ولكننا يجب ألا نفترض أن معاناة غسان الفلسطينية تعني تغييب معاناة الوجودية في الحياة والموت والحرية والمصير والانتماء والهوية.
وربما كانت معاناة غسان الفلسطينية مدخلاً إلى معاناته الوجودية.
لكن لماذا إرم ذات العماد هي المدينة الجنة التي يبنيها شداد فوق جنة هبا ولماذا يلجأ غسان المبدع إلى أسطورة يرويها ياقوت الحموي والطبري؟ هل لأنه يريد أن يضع يده على فكرة التجدد بالموت التي بنيت عليها مسرحية «الباب».
لم يرق في تلك المرحلة للماركسيين والقوميين العرب منافسة مجلة «شعر» لمجلة «الآداب» والانعطاف على الأسطورة التموزية بالشهادة والموت من أجل الحياة وانعطاف السوريين القوميين على أساطير التجدد والموت في التراث السومري الأكادي الكنعاني.
إن اجتماع غسان بجورج حبش، زعيم الجبهة الشعبية المؤمن بالقومية العربية معروف وكان ذلك من أطر حركة المقاومة ولا يزال. من المؤكد أن غسان كان مهموماً بالمقاومة وأن كسر جدار الموت بإرادة الإنسان هو الطريق إلى الحياة والتجدد الإنساني، كما عبرت عنه طقوس الخصب، وله موازيات أسطورية في أدب النهضة الأوروبية كما أن له بدائل أسطورية تاريخية أو فولكلورية عربية إسلامية في إبداعاتنا الحديثة.
من هنا جاءت الأسطورة القديمة التي عليها غسان تأصيلاً للأساطير التموزية وأكثر تواصلاً مع المتلقي. والتأصيل مسعى مشروع للعربي المعاصر وجزء من مغامراته الإبداعية.
في أواخر الفصل الثالث يأتينا خبر موت شداد: هو صوت كالريح أجفل حصانه فرماه، قال الرسول إن شداد وقف وواصل مسيره في غيوم الصوت السوداء، كان صوتاً رهيباً شق الأرض فغاصت إرم فيها ثم انطلقت ألسنة النيران أحرقت الأخضر واليابس… يقول الرسول إن شداداً ضاع في عاصفة الصوت، ذابت عظامه ولم يبق إلا سيفه ملقى على الرمل وقد صار في لون وشكل الحجر… أما الحصان فقد مضى في الصحراء على غير هدى.
تنكفئ الأم وتبكي
والرسل الذين لحقوا به؟
الرجل: ذوبتهم ذيول العاصفة وهم أجساد محروقة في الرمال.
المهم أن شداد اختار الصراع والموت بحرّيته والكلام عن هبا حتى الآن كان بالضمير الغائب ولم يتقابل الندّان إلا في مطلع الفصل الرابع عندما دخل هبا في العالم الآخر بصورة شاب وسيم من الباب على شداد ورجلين حكم عليهما هبا بأن يقضيا عمرهما في العبث والخيانة. وعندما سأل أحدهما شداداً عن موته أجاب أنها كانت رحلة متعبة. هل انتحر أو مات صدفة، لم تكن إجابته حاسمة.
إنه الآن في العالم الآخر يدخل في مجابهة مع هبا. ويصرّ على رفض عبوديته وقهره. إن الاستمرار في الصراع حتى يقتحم الباب الذي دخل منه هبا هو جزء من ديكور الفصل الرابع والخامس. ويحاول الآخرون أن يخرجوا منه من دون أن يستطيعوا. باب الموت هذا هو كل ما يملكه هبا لقسر العباد والسيطرة على الحياة والموتى في عالم السأم والعبودية. وهبا يحيا بالموت موت العباد ويموت بالولادة… تحررهم باقتحام باب الموت.
يموت شداد في عاصفة الموت في أواخر الفصل الثالث. في الفصل الرابع والخامس يتصاعد التوتر الدرامي ذهنياً بين شداد وما يمثله من إرادة الصراع والحرية ونقيضه هبا الذي يصادرهما معاً من أجل بقاء الإلهي وتضخّمه على حساب الإنساني.
هبا يولد بموت الإنسان ويموت بولادته، بينما شداد يولد بالتحرر منه والتشبث بالحرية والإرادة وبناء مدينة الإنسان التي يجد فيها هبا منافساً له، فلذلك يدمرها ويدمر شداد معها. في الفصول الأولى الثلاثة يعبر شداد من خلال الحوار والسرد عن تقابله الدرامي وتناقضه مع هبا إما مع العرف أو الأم أو الكاهن يسايرونه على الصراع مع هبا أو يتخوفون من هذا الصراع كالأم. أو يرثونه كما ورثه من عاد أبيه ويورثه إلى ابنه مرثد الذي يهتم بالملك والتشبث بإرم بينما يهتم شداد بالمصير الإنساني وتحرر الذات وخلاص الناس من العبودية والقهر.
ويبقى التقابل الإلهي الإنساني الذي يذهب إلى حد التناقض هو الخيط الخفي الذي يصل الفصول كلها بعضها ببعض وكأنما شداد هو قناع لغسان في شخصيته المقاومة المصارعة من أجل حرية الإنسان وهويته. وبالتعبير عن صيرورته الإنسانية من خلال الشهادة أو الموت شيد «إرم» المدينة الجنة مقابل مدينة هبا التي لا تستمر إلا بموت الناس وخضوعهم التام لإرادة هبا.
إرم هي الفردوس الإنساني الذي يدمره هبا. إرم هي الإنسان وحضارته وفردوسه.
شداد: لقد بنيت جنة على الأرض دمرها أمام عيني وأنا مصلوب على عمدان من قار يغلي، كنت أرى جواهرها تذوب كما يذوب الرصاص وتسيل في القنوات كالماء اللامع لتغوص في قاع الأرض… لماذا فعل ذلك كله بي؟
لقد كذبت أمي في سبيل أن أعتقها من صنمه الأبيض المنصوب بين بيوت الناس! بعت مملكتي بومضة من ومضات الحقيقة التي لا يراها المرء إلا كما يرى البرق… أردت أن أفك النير عن رقاب الناس الذاهبين إليه الآيبين من عنده التاركين تحت قدميه كل كبريائهم وشجاعتهم .
التجدد بالشهادة أو الموت فكرة تقرها ثقافة المقاومة وأبعادها الدينية والأسطورية والفولكلورية والاجتماعية والتاريخية تجلت في التراث كما تجلت في ميادين التضحية والفداء.
يختار شداد أن يقتحم باب الموت من أجل إرم ذات العماد وتتميز مسرحية «الباب» بهذا الحسم الفكري وعلاقة الحياة بالموت والموت بالحياة. لم يعالج غسان الفكرة المحور لمسرحيته بشكل مباشر ولكن جرياً مع نزعة الإبداع الحديث مسرحاً وشعراً ورواية حيث يتعانق المضمون والشكل في التعبير عن المعاناة المعاصرة فتصبح تجربة المبدع أكثر ارتباطاً بالنبض الإنساني.
تتورط الذات في الميدان العملي وتكتسي بالبنية الفنية التي تلد من خلال هذا التورط والمعاناة.
أفكار مسرحية الباب ليست بعيدة من الينابيع الفكرية الحديثة السائدة في زمن إنتاج المسرحية سواء أكانت تموزية أم وجودية وكائناً ما كانت سمتها، فالمبدع يتركها تلد ولادة طبيعية من تجربته. وثقافته وتراثه وانفتاحه على فكر الآخرين وتجاربهم المشابهة التي يتعانق فيها الذاتي والموضوعي كما يتعانق الفردي والاجتماعي خليقة واحدة.
من هنا كان توجه المبدعين الذين عاصرهم غسان أو سبقوه قليلاً مشاكلاً لتجربته الإبداعية أو مشابهاً لها.
إرم ذات العماد وجبران خليل جبران
يحلم جبران خليل جبران في المنفى والغربة بإرم ذات العماد على شاكلة مختلفة. تغرّب إلى الولايات المتحدة مع عائلته وهو في ريعان الصبا. والبيئة التي أحاطت به في بوسطن يتلاقى فيها فكر الشرق والغرب والحنين إلى مسقط رأسه في لبنان يؤيده المناخ الفكري الذي تبشر به نزعة التعالي الإمرسونية التي تتلقف النور من أية جهة سطع. فالتطلع إلى الثقافات المشرقية في الهند ومراكز الفكر الصوفي بودِيّاً كان أو إسلامياً يشكل حافزاً للوحدة الروحية التي كان يحلم بها رالف والدو أمرسون وتلقفها جبران من تعلّمه الفلسفة العربية الإسلامية في مدرسة الحكمة في بيروت وبيئة بوسطن الثقافية والروحية التي فتحت كل النوافذ على الفكر الإنساني.
من هنا تأتي أهمية إرم ذات العماد عند جبران خليل جبران، إنها الإنسان ومدينة التوحد الروحي الذي كان حلماً للجالية السورية في الولايات المتحدة في زمن الانفصال عن السلطة العثمانية واكتشاف إرم العربية: الحلم والمثال.
أبطالها آمنة العلوية ونجيب رحمة المسيحي وزين العابدين العجمي. بالحوار بين هذه الشخصيات وسرد الراوي المؤلف لأطر هذه القصة الرمزية يصوّر لنا جبران إرم ذات العماد.
عندما يسأل زين العابدين نجيب رحمة هل أنت مسيحي فيجيبه «ولدت مسيحياً غير أنني أعلم أننا إذا جرّدنا الأديان مما تعلق بها من الزوائد المذهبية والاجتماعية وجدناها ديناً واحداً.
أليس هذا هو موقف الحلاج من الأديان التي يعتبرها وجوهاً متعددة لحقيقة واحدة؟!
ألا يفكر جبران هنا بروح الإصلاح الديني والاجتماعي الذي تحتاجه وحدة الأمة في تلك المرحلة.
كيف تصبح إرم ذات العماد عند كل من جبران وغسان كنفاني مدينة الوحدة والحلم. إننا لا نفكر هنا بالتأثير والتأثر بقدر ما نفكر بشيوع أفكار بعينها يتلقفها المبدعون بأشكال مختلفة على اختلاف المراحل والأجيال. لكن الفارق واضح بين نزعة جبران الصوفية في الوحدة ونزعة غسان المتصلة بالفكر الوجودي وروح المقاومة. إن مفهومي القدر الإلهي والقدر الوجودي تجسدا أيضاً في لوحتي جسر الموتى مسرحية العظمة الدرامية. والصلة بين المبدعين ظرفية من تردد غسان على خميس مجلة «شعر» ونشر «أطفال في المنفى» 1961 قبل «الباب» بسنوات.
لكن تشابه الأفكار والمصطلح والمواضيع يجعل التساؤل مشروعاً في البحث عن علاقات أخرى لنصوص هذه الأعمال على رغم إيماننا بصلتها الأكيدة بالفكر الوجودي.
وإن ما ترجمته دار الآداب وغيرها من دراسات ومسرحيات للفكر الوجودي أو روايات كـ»الغريب» لألبير كامو ومسرحية «الذباب» لجان بول سارتر ورواية «الطاعون». والندوة التي عقدت في بيروت عن الالتزام ENGAJE الذي وحّد الوجوديين والسورياليين والماركسيين وغيرهم ضد الاحتلال النازي لباريس في جبهة واحدة. وقد اشترك فيها طه حسين ورئيف خوري في الخمسينات. كل ذلك حرّض على المثاقفة بين المذهب الوجودي وإبداعنا الحديث.
صلاح عبد الصبور
صلاح عبد الصبور في مأساة الحلاج ليس بعيداً من الأفق الذي ابتدعه غسان في مسرحيته «الباب». المعاناة مشتركة ولكن البنى الفنية والرموز متشابهة. وكذلك التوجه العام للإبداع ودفع عربة الإنسان إلى آفاق الحرية والاكتفاء الإنساني وبناء الحضارة في إطار الانتماء والهوية وبالقيامة من الصلب والموت.
جسر الموتى
مسرحية «جسر الموتى» الشعرية لنذير العظمة نشرت في مجموعته «أطفال في المنفى»، دار المجاني، بيروت 1961، وترجمت إلى الإنكليزية وقدّمت على مسرح دائرة الدراما في جامعة بورتلاند الرسمية.
جسر الموتى قصيدة درامية في لوحتين
رموز المسرحية
الأم
والأطفال:
أبو كيس: شخصية خرافية، يخوّف بها الأطفال في الأوساط الشعبية، وهو يمثّل هنا جيل القدر الإلهي، جيل ما قبل النهضة الذي لم يستطع أن يختاره قدره، ويقرر مصيره فيحترق لمن يحقق له ذلك.
سعد الدين: شخصية أسطورية في القصص الشعبي «كألف ليلة وليلة» ويطلق عليها غالباً علاء الدين وترمز إلى روح الجرأة والمغامرة والإقدام.
وسعد الدين هنا كالأصل الذي اشتق منه، رمز لجيل النهضة، جيل القدر الوجودي الذي يختار قدره ويقرر مصيره فيختار قدر الآخرين ويقرر مصيرهم، إن التمزق بين القدرين، القدر الإلهي والقدر الوجودي، أو التمزق بين الجيلين يتواتر في لوحتي هذه القصيدة بين كل من سعد الدين وأبو كيس في الأولى، وبين كل من القلب والجمجمة في اللوحة الثانية، وهما تعبير عن الصراع النفسي الداخلي بين القدرين. ويخيّل لي أن الجمجمة تمثل الجانب العاجز المتفلسف من أبي كيس والقلب يمثّل الجانب المصارع المقدام من سعد الدين تعبيراً عن دينامية الصراع الداخلي.
في هذه المسرحية دمج الشاعر القصيدة الدرامية بالتقنية المسرحية وارتقى بالفولكلور الشعبي إلى مستوى الأسطورة.
جسر الموتى تعالج صراع الإنسان مع العجز والخوف والموت، وبطلها سعد الدين يموت مرتين، يعبر الجسر مرة عنه، ومرة عن الجماعة، مرة عن نفسه، ومرة عن جيله. يحلم شداد أن يدمّر الباب وسعد الدين يعبر الجسر الذي يحول بينه وبين بناء مصيره ومصير شعبه وقدره.
فالمفاهيم والأفكار في الأعمال الآنفة متقاربة والمعاناة واحدة وإن اختلفت أشكالها، من الأسطوري إلى الفولكلوري إلى التاريخي، ولكنها تتلاقى جميعاً في بوتقة فنية واحدة. وفي جوهرها تتمحور حول المقاومة الحضارية. وترتقي الجغرافيا والزمان إلى أفق الإنسان والحضارة إلى إرم ذات العماد، مدينة الحلم التي تعددت إشاعاتها لكن شمسها واحدة.
خاتمة
استطاع غسان أن يسمو في مسرحية «الباب» بمعاناته من المستوى القومي إلى المستوى الإنساني وأحسن في توظيف مقولات الفكر الوجودي لخدمة هذه المعاناة لا سيما فكرة ترابط الحرية بالمسؤولية وإلغاء كل العوائق التي تعرقل ممارسة الذات لهذ الحرية. كما أحسن في الإفادة من فكرة الموت كجدار لا اختراق له إلا بالموت، ووفّق في دمج دلالات طقوس الخصب التموزية وأفكارها بالفكر الوجودي وإيحاءاته.
مسرحية «الباب» مسرحية تعنى بالأفكار والحركة الذهنية تسيطر فيها على الفعل الذي تقوم عليه الدراما المسرحية.
واستلفتني في استخدامه للأسطورة، من مصادر عربية إسلامية، تأصيله الذي ربما نظر إلى التراث في دائرته الواسعة، فوصَل أساطيرنا القديمة، من حيث يدري أو لا يدري، بينابيعها المشرقية العريقة.
وليس خافياً أن المسرحية كالملحمة من الأجناس الأدبية الوافدة إلينا. ولطالما بعض من الآراء الاستشراقية ربطت ذلك بتفسير عرقي كالقول: إن الفنون الدرامية والملاحم هي من إبداعات العروق البشرية الراقية بينما الوجدان والغناء هو من سمات العروق الأدنى حتى اكتشف ملحمة قلقامش التي أنتجها تراثنا السومري الأكادي الكنعاني الذي يشكل العمق الحضاري لتراثنا العربي. فقد ترجمت قلقامش إلى أكثر من ستين لغة وغيّرت أولويات كثيرة بحسب الاكتشافات والحقائق التاريخية الجديدة.
ومما هو جدير بالبيان أن أبطال مسرحية «الباب» من عاد إلى شداد ومرثدهم أحفاد نوح أوبتونيشتم ملحمة قلقامش الذي أوتي الحياة والخلود.
وإن قصة الطوفان التي تتمحور حول رمز الماء وآثام البشر التي يغسلها الطوفان كالماء الذي يطلبه شداد للأحقاف من مكة لتعود إليها الحياة وأن الماء جوهر الحياة التي شيّد عليها عاد وأبناؤه وأحفاده إرم ذات العماد، مدينة الإنسان والحضارة.
وأن الأسطورة ورمز الباب تمتعا بكثافة الفكرة وشفافية الصورة ما جعل المسرحية أكثر ارتباطاً بالنبض الإنساني وأسهل تواصلاً مع المتلقي.
وعلى رغم الآراء التي استفاد منها غسان من ينابيع المدرسة الوجودية إلا أنه زودها بمخيلة مبدعة وارتقى بمعاناة المقاومة من الوطني والقومي إلى الأفق إنساني.
وإذا صح أن غسان المفكر والمقاوم اتخذ من شداد قناعاً له فإنه يستعيد لثقافة المقاومة رموزها بذلك، السمو والكرامة، لا سيما إذا تذكرنا روايته «رجال في الشمس»، فالرجال فيها يصارعون من أجل البقاء برؤية واقعية جارحة. والشمس ليست في سياق الرواية مصرداً للهداية والنور. إنها شمس الصحراء الحارقة بين البصرة والكويت. أراد بضع من الفلسطينيين أن يهربوا من الجوع والهوان وضائقة العيش وأن يتجاوزوا نقاط التفتيش في الحدود بحثاً عن فرصة عمل تصون ماء وجوههم. لم يجدوا غير شاحنة نفط عائدة إلى الكويت لتنقل النفط للناس فعقدوا مع أبي الخيزران، سائقها، أن ينقلهم في الخزان الفارغ خشية من حرس الحدود. لكن الصحراء والشمس الحارقة لم ترحمهم مسافة الرحلة. والخزان الذي تكوّموا فيه لم يحوِ هواء ولا أوكسجيناً كافياً. وكم كانت المعاناة قاسية على السائق أبي الخيزران حين وجدهم في غاية الرحلة قد ماتوا اختناقاً فرماهم إلى الصحراء والرمل بتفجع عابر. كل منهم كان يمكن أن يكون غسان أو شداد في الصراع مع الموت. لكنهم استسلموا لقدر المأساة. واختارهم الموت بلا مقاومة في خزان نفط فارغ مغلق من هنا نقدّر موقف غسان كنفاني من الموت ورؤياه الساطعة في الظلمة.
لكن غسان المقاوم ربما لانبهاره ببعض مقولات الوجودية ومفاهيمها أو ربما لأن الرمز أكثر ارتباطاً بالواقع المأسوي للكفاح الفلسطيني الذي يكسر جدار الموت في كل مناسبة لا تزال ترافقه صخرة سيزيف التي احتفل بها الوجودية، لدلالتها على مأساة الإنسان وعبث مساعيه في التهرب من حقائق الولادة والموت.
فالحوار الدائر بين هبا وشداد في الفصل الرابع والخامس يتضمن أن تهبط طابة من السماء على شداد سخرية وهزءاً بتشبثه بالموت من أجل الحياة. والطابة التي يقذفها شداد غضباً في خاتمة المسرحية يسخر طجها العابث بينه وبين الجدار.
ويسمي جبران خليل جبران إرم ذات العماد بحالة نفسية تتوحد فيها المذاهب والأديان في وحي واحد إذا تخلت عن الشوائب. وأنها رمزت للذات الإنسانية. فالإنسان ذات واحدة وجوهر واحد.
أياً ما كان الأمر، فإن مسرحية «الباب» تعدّ إضافة مهمة لأدبنا المسرحي المسلّح بالأسطورة والرمز وعلى رغم حركاتها الذهنية.
وغسان كنفاني كمحمود درويش لا يساوم على فنه ورؤيته، ولا يساوم على حق بلاده. فالمبدع المقاوم والقاوم المبدع وجهان لا ينفصلان في شخصية غسان الواحدة.
والمقاومة بمعناها الشامل لا تتجزأ. إنها تعبير عن مأساة وجود بالنسبة إلى الفلسطينيين الذي تآمرت عليهم البروتوكولات الدولية وجرّدتهم من أرضهم وحقهم وهويتهم.
ماذا تفعل أيها المتلقي لو أن قريتك أو مدينتك دُمّرت بالكامل هي وأهلها. وحلّت محلّها مستوطنة صهيونية؟!
فمن الطبيعي أن تكون المقاومة ردة فعل فورية. قتلوا براءة غسان وطفولته، وصيّروه رجلاً مناضلاً وهو في ريعان الصبا. فهل نستغرب عودة المناضل المشرّد إلى الوطن بالحلم وانشداد روحه إلى ترابه وجذوره! وخلق الطقس والرمز والأسطورة لرؤيا اندلعت من المعاناة وثقافة مقاومة فعلية حضارية يتوحّد فيها التموزي والوجودي على صليب الغربة والنفي للنهوض بالقدر الإنساني بوجه هبا وقدره. من أجل خلاص الأنا والآخر في معركة واحدة.