«شي ببكّي الحجر»
الياس عشّي
ما ارتفع حداء في حضرة الموت إلا وحضرت معه العبارة المحكيّة التي يحفظها الجميع عن ظهر قلب «شي ببكّي الحجر». قلناها في مآتم الشهداء الأبطال، مقاتلين وأطفالاً وتلاميذَ. وقلناها في «مهرجانات» الذبح، وقطع الرؤوس، والسحل، والتمثيل بالجثث، وتخطي كلّ القيم الأخلاقية التي يفرضها الموت، وقلناها في بربرية القتل التي مورست على الشهيد خالد الأسعد.
قلنا ذلك، وردّدناه، ولم يخطر في بال واحد منّا أنه سيأتي يوم يتوقّف فيه الحجر عن البكاء، وينضمّ هو إلى لائحة الشهداء. ألم تسمعوا معي نحيب زنّوبيا وهي ترصد هياكل مدينتها، وأنصابها، وتماثيلها، وقد صارت جثثاً، وعادت إلى التراب؟
ألم تروا معي كيف انتفض حمورابي، وسحب قوانينه من التداول، وحمّل مسؤولية المجازر التي تتعرّض لها رموز الحضارة السورية إلى الجمعية العامة للأمم المتّحدة، ومجلس الأمن الدولي، وبشكل خاص إلى منظمة الأونسكو؟
وما أبه أحد لنحيب زنوبيا، ولا لانتفاضة حمورابي، فالمجازر المريعة ضدّ الحجر مستمرّة فما زلنا نسمع، في كثير من المدن الأثرية، أنين الحجر واستغاثته تحت ضربات المعاول وضجيج الجرّافات. وما زلنا نراقب بحسرة تجاهل العالم لهذه المأساة، وليس، كما يبدو حتّى الآن، في نيّة أحد أن يتدخّل لإيقاف هذه الفضيحة، طالما النفطُ والغاز لا يمسّهما سوء، وطالما حرب الحضارات تقودها «إسرائيل» بتعاليمها التلمودية القائمة على التمييز العنصري أولاً، وعلى عقدة الاستعلاء على شعوب الأرض ثانياً.
تصوّروا معي حجم المشهد المأسوي الذي سنراه في ما لو وصل الإرهاب إلى أوغاريت، أو إلى جبيل، أو إلى بعلبك، أو إلى أيّ مكان يحمل تراثاً في الإبداع البشري.
ألا يستحق ما رأيناه، حتّى الآن، في الشام والعراق من تدمير للحضارات السورية، أن ننتفض ضدّ العالم الذي لا يأبه لنا، ولا يحترم مشاعرنا، ولا يرانا إلا من خلال ثقوب النفط والغاز، أو من خلال إعلام مريض تحدّث في أسبوع واحد عن النفايات أضعاف أضعاف ما قاله عن مذابح المدن العريقة في أعوام.
تُرى هل ما جرى في تدمر كان إعادة اعتبار إلى روما التي أذلّتها زنوبيا؟ هل هو مشهد مستنسخ من مشهد غورو عند احتلاله الشام، ووقوفه على قبر صلاح الدين، وقوله: «لقد عدنا يا صلاح»؟
أتمنّى لو أدري، والحقيقة الوحيدة أننا قد لا نجد في المستقبل حجراً يشاركنا مأساة الرحيل.