هواجس التغيير
ياد حافظ
ليس من الغريب أن يكون الحراك الشعبي في لبنان متلازماً مع الحراك الشعبي في العراق. فالبلدان يتشابهان في نظام الحكم، في المحاصصة الطائفية، والاقتصاد الريعي، والفساد المستشري. فالكهرباء والخدمات الاجتماعية منعدمة في البلدين بسبب هدر كبير لموارد الدولة. فالفساد أصبح عنواناً أساسياً لكل حراك سياسي في الوطن العربي وكأنه الرمز لاهتراء نظام سياسي قائم على عدم مشاركة المواطنين في القرارات أو في الحدّ الأدنى على تلبية المطالب الأساسية. الفساد والتبعية والمشروع الصهيوني في لبنان كما في العراق وأقطار أخرى يشكّلون مثلّث الشر. وهنا يطرح السؤال: هل يمكن مقاومة المشروع الصهيوني والتبعية من دون مقاومة الفساد؟
انتفاضة 22 آب أعادت الأمل للبنانيين في إمكانية التغيير.
هذا هو الإنجاز الأكبر حتى هذه الساعة والذي يجب الحفاظ عليه بل تحصينه. لكن مع هذا الأمل المتجدّد هواجس ومحاذير نابعة عن تجارب ما زالت قريبة جدّاً في الزمن في لبنان كما في الوطن العربي الذي شهد حراكاً مشابهاً.
الهاجس الأول في رأينا في انتفاضة 22 آب هو التعميم في الوصف. والتعميم المقصود هو لشمل أطراف غير معنية بفساد النظام القائم، أي المقاومة في لبنان ورمزها السيد حسن نصر الله، كما أبرزته بعض اليافطات التي رُفعت في التظاهرات. والذين رفعوا هذا الشعار يبرّرون هجومهم على المقاومة ورمزها لاشتراكها في الحكومة وفي المجلس النيابي وتغطية الفاسدين فيها وخارجها، وبالتالي يصبح التعميم مشروعاً وصحيحاً! هذا يعني أنّ من وراء بعض أطراف منظّمي الحراك من يعمل لمصلحة خارجية وأجندتها المشبوهة. كما أنّ المقصود أيضاً إجهاض الحراك الشعبي عبر زجّه في معارك خارجة عن السياق الأساسي الذي أفرزه في البداية. في آخر المطاف، أيّ حراك شعبي مشروع ومبرّر إذا ما التزم بسلمية الحراك وأحقّية المطالب. لكن هذا لا يمنعنا من الحذر بعد ما شهدناه في الأمس القريب من اقتحام لوزارة البيئة ومراهقة الشعارات التي رفعت والتي أضعفت في رأينا الحراك. لكن لا بأس. فالطريق طويل ولا بد من أخطاء تقع بين الحين والحين.
الهاجس الثاني هو توغّل المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة والسفارات الغربية وبخاصة الأميركية في الحراك الشعبي. وهذا الهاجس هو حقيقة في الواقع على الأقلّ على لسان بعض الديبلوماسيين الغربيين أنفسهم. وهذا التدخّل يحاكي الهاجس الأول أي عبر الكلام المعسول حول الحراك الشبابي وظهور «المجتمع المدني» إلاّ أنّ الهدف الفعلي هو تشويه صورة المقاومة وقائدها. ويؤازر ذلك التدخّل بعض وسائل الإعلام اللبنانية المموّلة من بعض الدول العربية أسوة بما حدث في ساحات تونس ومصر وسورية لتأجيج الصراع القائم. ونستطرد هنا أن تلك وسائل الإعلام هي التي أعطت المنبر الإعلامي لأحمد الأسير فهل ذلك من الصدف؟ أما معاناة اللبنانيين فليست على أجندة السفارات وأتباعها وإلاّ لما ساهمت في حماية النظام الطائفي الفاسد ولا في شحن التجاذبات السياسية التي شلّت وما زالت المؤسسات اللبنانية.
الهاجس الثالث هو الشعارات الفضفاضة التي يصعب ترجمتها إلى واقع سياسي كـ «إسقاط النظام»، أو استقالة الوزارة أو بعض الوزراء. فهذه المطالب وإن كانت تدغدغ شعور المواطنين إلاّ أنها تتجاهل الواقع المحفوف بالمخاطر الحقيقية وليست الافتراضية. فتنظيم «الدولة الإسلامية» داعش على الأبواب وإسقاط الحكومة يفتح الطريق لـ«داعش» للسيطرة على أجزاء من لبنان من دون أن تكون مرجعية رسمية لبنانية تتصدّر المواجهة. كما أنه لم يبرز عند المتظاهرين تصوّر واضح لما يريدونه سياسياً بل فقط ما لا يريدونه! وهذا دليل عن عدم نضوج في مقاربة الشأن العام وما هو ممكن.
الهاجس الرابع هو الوقوع في صدامات دموية أسوة بما حصل في ساحات عربية أخرى. فما لم تستطع موجات الإرهاب من زجّ اللبنانيين في حروب مذهبية قد تنجح عسكرة الحراك بعد صدامات دموية إلى تأجيج الصراع بين «الشوارع» السياسية إذا ما تمّ تصوير بعض الشوارع كمسؤولة مباشرة عن الفساد أو عن الشلل السياسي. فعلى سبيل المثال، هناك قوى سياسية وازنة كالتيّار الوطني الحر يدفع إلى حراك شعبي تحت شعار «حقوق المسيحيين» يحمّل شارعاً مناهضاً له بمسؤولية الفراغ الرئاسي، فحزب الله الذي يدعم حليفه التيّار الوطني قد يجد نفسه مضطراً للنزول إلى الشارع متضامناً مع حليفه في معركة لا يريدها في الأساس. فيأتي الحراك المطلبي الذي يستهدف الطبقة السياسية في شكل عام ولكن في الحقيقة الهدف الرئيسي هو المقاومة في لبنان ورمزها وحلفاؤها، فيختلط الحابل بالنابل لا سمح الله.
الهاجس الخامس هو هاجس المراهقة والرومانسية في مقاربة الأمور من قبل المسؤولين عن الحراك، وهاجس الغطرسة واللامبالاة لطبقة سياسية «لا يرفّ لها الجفن»! فالرومانسية والمراهقة السياسية توأمان للغطرسة واللامبالاة. لم نر عند أصحاب الحراك الشعبي تصوّراً للسياسة العامة وأهدافاً واضحة وآلية التغيير والمحاسبة. فهل يريدون الذهاب إلى المواجهة إلى أقصى الحدود من دون تقدير دقيق للموقف؟ هل يعتقدون أن الجماهير التي أيّدتهم في حراكهم ستقف معهم ضد الزعامات؟ وهل يعتقدون أن تلك الزعامات لا تملك «شارعاً» وجمهوراً لا يقلّ وزناً عن جمهور الحراك؟ أليست المأساة اللبنانية السياسية نتيجة سوء تقدير متبادل لموازين القوى السائدة؟
بالمقابل، هل يعتقد الزعماء أن بإمكانهم الاستمرار كما كانوا؟ هل وصل الاستهتار بشعور المواطنين إلى درجة اللامبالاة والاتكال على العصبيات الفئوية كالطائفية والمذهبية لتحمي وجودهم في سدّة القيادة والمسؤولية؟
في هذا السياق جاءت مبادرة رئيس مجلس النوّاب الأستاذ نبيه برّي لإجراء الحوار. نعتقد أن الحوار هو المدخل الوحيد والمفيد الذي يتمّم الحراك الشعبي. لقد أسمع الحراك الشعبي صوته وآن الأوان لإجراء حوار جدّي بعيداً عن التجاذبات الإقليمية قدر الإمكان. فالقضايا المعيشية يجب أن تكون الأساس في النقاش وخارج تلك التجاذبات وليست رهينة لها. وهنا يمكن إشراك من يمثّل المتظاهرين لحوار مع القيادات السياسية التي تتحكّم بأمور البلد حول القضايا المعيشية التي لا يجب أن تخضع للتجاذبات.