من البحث العلمي الى التخطيط السياسي الاستخباراتي

د. جورج جبور

يرى البعض في أحداث السنوات الأخيرة في البلاد العربية تتويجاً لجهد سياسي استخباري من وسائله البحث العلمي في شؤون المنطقة، ذلك البحث الذي تضطلع به الجامعات والمراكز الأكاديمية. ويشار في هذا الصدد الى تصدّر الاختصاصيين الغربيين في الشؤون العربية مجالس مستشاري أصحاب القرار في هذه الدول. ثمة، في أوساط الرأي العام العربي، من يرى في كلّ غربي أتانا، مظهراً رغبة في معرفتنا، وفي كتابة البحوث عنا، لتعريف الغرب بوجهات نظرنا، من يرى فيه شريكاً في الإشكالات التي يعاني منها العرب ومنهم السوريون.

وليس ثمة من وسيلة حاسمة نملكها تتيح لنا تمييز الغربي المحب لنا من زميله المتآمر علينا. ثم انّ من الجلي، في كلّ حال، انّ للعلم استعمالاته في الخير كما في الشر. ومن الجليّ ايضاً انّ لا احد يستطيع لجم المهتمين بالعلم عن التساؤل، او لجمهم عن محاولة تقديم إجاباتهم عن الاسئلة. وتبقى المسؤولية الاولى هي تلك الواقعة على عاتق اهل البيت: لماذا يستمدّ العربي علمه بأخيه العربي، بل بنفسه، من الغربي الباحث الذي يأتي ليدرسنا؟ لماذا لم نستطع تعريب علم العرب؟

قبل ظهور الاستشراق، ذلك الكتاب الخطير الذي سلط به مؤلفه الدكتور ادوارد سعيد الضوء على الآليات التي يتبعها الغرب في السيطرة على الشرق، كانت ثمة تنبّهات الى عدم التوازن في علاقتنا الثقافية مع الغرب، تنبّهات شكلت إحدى أسئلة النهضة. ولعلّ أيا منا، نحن الذين كانت لنا فرصة التعرّف على الثقافة والاكاديميا في الغرب، لم تغب عنه هذه الإشكالية. ولا ريب انّ بعضاً منا وقف عند هذه الإشكالية وسجل انطباعات عنها.

أحداث السنوات الأخيرة ليست كلها، في كلّ حال، نتيجة جهد سياسي – استخباري معاد للعرب، ولسورية بخاصة. شهد رئيس الجمهورية العربية السورية مرات، وفي مناسبات متعددة، بأنّ قصوراً سياسياً وفكرياً اعترى أسلوب الحكم.

ويبقى هدف هذه الأسطر التوقف عند صرخة مبكرة تنبّه الى ضرورة ان نتعرّف بانفسنا على انفسنا، وبالخطر الذي يتهدّدنا إنْ تفوّق الغرب علينا في التعرّف على أحوالنا.

في 12 2 1973 رفعت مذكرة الى رئيس الجمهورية العربية السورية عنوانها كما يلي:

«جامعات امريكا ودراستها لنا: عناوين 24 رسالة دكتوراه في العلوم السياسية عن قضايا عربية قبلت في جامعات اميركا في عام واحد».

جعلت لعناوين الرسائل هذا التقديم، انضدّه هذا اليوم في 6 أيلول 2015، دون تعديل اي حرف فيه:

«أثبت في الصفحات التالية عناوين 24 رسالة دكتوراه في العلوم السياسية عن قضايا عربية قدّمت وقبلت في الجامعات الاميركية في عام واحد: 1971 ـ 1972. استخلصت هذه العناوين من قائمة بأكثر من 500 رسالة دكتوراه في العلوم السياسية قبلت في اميركا اثناء الفترة ذاتها بحسب ما ورد في مجلة العلوم السياسية الاميركية خريف 1972 التي وصلتني مؤخراً.

ولا تشمل العناوين المدرجة الا جزءاً يسيراً بالطبع من الرسائل المقدّمة والمقبولة في الجامعات الاميركية حول القضايا العربية. فثمة فروع علمية أخرى غير العلوم السياسية تهتمّ بدراسات الشرق الأوسط المعاصر، مثل علم الاقتصاد وعلم الاجتماع والحقوق وعلم النفس الخ… وهكذا فمن المناسب ان نقدّر انّ الجامعات الاميركية تعطي الآن ما يزيد عن مائة رسالة دكتوراه سنوياً في تلك الشؤون العربية المعاصرة التي تمسّ السياسة العامة وحدها.

فإذا علمنا انّ جامعة القاهرة، وهي الجامعة العربية الوحيدة التي تعطي شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية، تمنح تلك الشهادة سنوياً لشخص او شخصين، واذا استعرضنا وضعية الجامعات المصرية والعربية الأخرى، لأمكننا ان نقدّر، بشكل تخميني، انّ كلّ الجامعات العربية لا تخرّج سنوياً من اختصاصيّي الشرق الوسط المعاصر إلا عشر ما تخرّجه اميركا وحدها.

مثل هذه الأرقام تكشف مقدار التعرّض العربي الفكري لما يأتي من اميركا خاصة، سواء عن طريق العرب او غيرهم، وهو تعرّض لا نصفه بأنه حسن الأثر او سيئه، ولكنه بالتأكيد وضع لا يمكن قبول استمراره. والبديل هو تشجيع درس العرب لأنفسهم، واحتيازهم الريادة في هذا المضمار. فمثلما انّ الاميركيين هم اكثر الناس معرفة باميركا، والفرنسيين بفرنسا، والسوفيات بالاتحاد السوفياتي، كذلك يجب ان يكون العرب أكثر من غيرهم معرفة بالعرب. ولا شك انّ إنشاء مؤسسة للدراسات العربية في جامعة دمشق، وتشجيع إنشاء مؤسسات مماثلة في الجامعات العربية الأخرى يمثل خطوة في طريق تحقيق الواجب.

واخيراً فإنّ من المناسب هنا إيراد ما كان قد ذكره لي مؤخراً الدكتور رجائي الملاخ، وهو اقتصادي مصري ورئيس قسم الشرق الاوسط في جامعة كولورادو بأميركا.

ذكر الدكتور الملاخ انّ حكومة الكويت قدّمت الى قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفرد في أميركا عام 1972 هبات بمبلغ مليون دينار كويتي لتشجيع الدراسات العربية. أما أكبر أستاذ للسياسة في ذلك القسم المحظوظ فليس سوى نداف سفران، الصهيوني «الاسرائيلي» المتخصص في الشؤون المصرية خاصة، والذي هو، كما تقول الأنباء، مستشار غير رسمي لغولدا مائير وصديق حميم لهنري كيسينجر».

اكتفي من المذكرة بما سبق، إذ لم يبق منها الا العناوين والتفاصيل الأخرى الخاصة باسماء كتاب الأطروحات وجامعاتهم.

انتهى نص عام 1973. ما رأي المتابعين منا للنشاط البحثي الغربي في شؤوننا؟

أستاذ ورئيس قسم السياسة، معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة 1977 – 1979

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى