يتغيّر العرب بالحرية… فهي المبتدأ والخبر
عصام نعمان
نحن العرب في محنة. الخروج من المحنة يتطلّب مراجعة تجربتنا الحضارية بكل أبعادها. المراجعة تتطلب نقداً. والنقد يتطلب تشخيصاً لما نحن فيه واستشرافاً لما يجب عليه أن نكون. بكلمة، الخلاص يتطلّب تغيّراً.
التغيّر يبدأ بالحرية. الحرية هي المبتدأ والخبر. هي الانعتاق من الارتهان لثالوث التقليد الجامد والسلطان الجائر والعدو الطامع.
تسبّب أولياء التقليد والسلطان بمعنى السلطة والعدو الخارجي في استلاب العرب والمسلمين حريتهم وأرضهم ومواردهم الطبيعية على مرّ التاريخ المتوسط والمعاصر.
كوابح التقليد عززت جور السلطان. وجور السلطان أعطى العدو الخارجي ذريعة للتفريق ومدخلاً للتسلل والسيطرة.
على مدى أجيال وقرون، لم تندلع في دنيا العرب والمسلمين ثورة واحدة وازنة وشاملة ضدّ جمود التقليد، أو استبداد السلاطين، أو مطامع الأعداء الخارجيين.
ثمة انتفاضات، لا ثورات، قامت هنا وهناك وهنالك، قصيرةُ النَفَس، فقيرةُ المضمون، شكّلت الاستثناء الذي أكّد القاعدة.
كان علينا أن ننتظر حتى خمسينات القرن الماضي لنشهد في وادي النيل وبلاد الرافدين أول ثورتين، بصيغة انقلاب، ضد سلطان جائر وعدو طامع في آن لنجد، بعد مرور نحو نصف قرن على الحدث الفريد في كلا البلدين، أن ثمة ناقمين على حدوثه أصلاً، كافرين بصنّاعه وأنصاره.
لعل السبب الرئيس للردة المعاصرة أن الثورة على السلطان سبقت الثورة على التقليد، حتى إذا شاخ السلاطين الجدد أفاق أولياء التقليد القديم الراسخ من غفوتهم وأفتوا للعدو بأن يضرب ضربته ويعيد عقارب الزمن إلى الوراء.
جمود التقليد حمى جور السلاطين، وهادن مطامع الأعداء الخارجيين، وعطّل التجديد. التقليد هو «بطل» الأمة الوحيد الذي لم يعرف الهزيمة منذ أكثر من قرون خمسة.
في ظل التقليد وانتفاء التجديد، وجور السلاطين ومطامع الأعداء، غابت الحرية أو غُيّبت. هل من تراث للحرية في تجربتنا الحضارية؟
كلا. ثمة بديل للحرية في تراثنا هو الطاعة. السلطان يقرّر والرعية تُطيع. إذا أصاب السلطان قيل إنّ مردّه إلى مقدرة فيه وموهبة. إذا أخفق، قيل إنها إرادة الله أو ضربة القدر.
الطاعة في ماضينا وحاضرنا هي القاعدة، الحرية هي الاستثناء. بل الطاعة أضحت طريقة حياة، والحرية مجرد انقطاع طارئ لطاعة مزمنة.
وفق هذا المفهوم العشائري للسلطة والسلطان، أصبح للأصالة معنى وحيد هو الإيغال في ممارسة الطاعة، الطاعة للسلطان والطاعة للنص الديني الذي جرى تأويله لمصلحة السلطان. في المقابل، أصبح للحرية مدلول رامز: التمرّد على التأويل السلطاني للنص، بمعنى التمرّد على جمود التقليد وعلى جور السلطان، والانطلاق إلى اكتناه الحداثة.
غير أن العرب والمسلمين أخفقوا في اكتناه الحداثة مثلما أخفقوا في طلب الحرية. السبب؟ تلازم مزمن بين الحداثة والعدو الخارجي. فقد شقّ عليهم أن يطلبوا الدواء ممن اعتبروه مصدراً للداء!
هكذا خسر العرب والمسلمون الحرية والحداثة معاً. خسروا الحرية بسبب التقليد الكابح الذي فرض عليهم ثقافة الطاعة. وخسروا الحداثة بسبب من التقليد الجامد والسلطان الجائر اللذين اعتبرا الحداثة رديفاً للعدو الطامع.
يتحصّل من هذه التجربة البائسة بكلّ المعايير درس ساطع: أنْ لا سبيل إلى التغيّر إلاّ بنقد التقليد وإزالة كوابحه وتجاوز جوانبه الشائخة، وأن لا سبيل إلى النقد إلا بفك الارتهان للتقليد الجامد والسلطان الجائر وممارسة الحق في الحرية بوتيرة تعادل الحق في الحياة.
إن اختيار الحرية يفضي إلى حرية الاختيار. ذلك أن الاختيار يتيح بطبيعته فرصاً للإبداع، بينما الطاعة تغصّ بطبيعتها بضوابط الاستتباع.
الحرية خلق وابتكار. الطاعة تسليم وامتثال.
منذ أجيال وقرون يراوح العرب في مستنقع الركود. فالتقليـد يعادي التجديد، والسلطان يحاذر الحداثة لئلا «يتسلل» عبرها العدو إلى عقر الدار!
التقليد الخائف من التجديد لا ينتج إلا ألواناً من الطاعة. والسلطان الخائف من العدو الخارجي يخشى الحرية ولا يرتاح إلى الحداثة، فتكون النتيجة بالضرورة مزيداً من الركود والتخلف، ومزيداً من الطاعة والاستتباع، أي المزيد من الضعف الشامل الذي شكّل للأعداء الطامعين، على مرّ تاريخنا المتوسط والمعاصر، دافعاً قوياً وإغراء لا يقاوم للحرب والنهب والاحتلال والسيطرة والهيمنة.
كيف نتغيّر إذاً؟
التغيّر إرادة وآلية mechanism في آن.
هو للفرد المستنير فعل ذات مترعة بثقافة النقد ونقد الثقافة والممارسة.
هو للجماعة الواعية نهج أو آلية لتجاوز التقليد الجامد والسلطان الجائر، واغتنام لحظة تاريخية لمواجهة عدو طامع، واكتناه حداثة مجزية، وإسهام في الإبداع الحضاري.
في مسار التغيّر، على مستوى الفرد والجماعة، ليس ثمة خروج من التراث بل خروج على جوانبه الشائخة. وليس ثمة اقتبال لكلّ مضامين الحداثة بل اكتناه لجوانبها المجزية والنافعة.
عندما يحدث خروج كامل من التراث أو يحدث اقتبال كامل للحداثة خارج شروط الزمان والمكان واحتياجات الناس في الحاضر والمقبل من الأيام، يكون ثمة خلل يستوجب تصحيحاً وتصويباً.
لعلّ تجربة تركيا الكمالية هي مثال على خلل في الخروج الكامل من التراث، ومثال على خلل في الاقتبال الكامل للحداثة. في المقابل، تبدو ماليزيا مثال مغاير على خروج محسوب على جمود التراث، واقتبال موزون لمضامين الحداثة.
غير أن للتغيّر شرطاً رئيساً في تجربة الفرد المستنير والجماعة الواعية هو الحرية، الحرية بما هي انعتاق من الارتهان لأيّ تقليد جامد وسلطان جائر وعدو طامع. الحرية بما هي القدرة على الاختيار وعلى اتخاذ القرار.
الحرية قيمة وحاجة. إنها قيمة بذاتها نابعة من طبيعة هذا الكون المبني على التنوع والتعدد. ففي التنوع بدائل وخيارات تقابلها قدرات واختيارات. والحرية حاجة كيانية وجودية للاختيار بغية اتخاذ قرار ولتحقيق غاية أو غايات.
آفة العرب والمسلمين ارتهانهم المزمن للتقليد الجامد والسلطان الجائر والعدو الطامع سحابةَ عصور وقرون ما أفقدهم حريتهم وشلّ اجتماعهم السياسي وعطّل عطاءهم الحضاري.
السبيل إلى التغيّر الحضاري المتكامل والمثمر هو في اقتبال الحرية كقيمة وحاجة معاً على مستوى الفرد والجماعة، وفي مسالك المجتمع ولدى مؤسسات الدولة.
من أين نبدأ؟
نبدأ في أيّ زمان ومن أيّ مكان. القرار في هذا المجال قرار فردي كما هو قرار جماعي يتخذه الأحياء والأحرار في نفوسهم، أفراداً وجماعات، ولدى مسالك المجتمع وداخل مؤسسات الدولة.
لا شكل معيّناً لقرار التغيّر. انه إرادة فعل، يباشرها الفرد كما الجماعة في لحظة أو على مراحل، وتتراكم مفاعيلها ونتائجها في مسار مديد وتؤتي ثمارها عاجلاً أو آجلاً.
غير أن شرط الفعالية والإنتاجية يكمن في التنظيم والانفتاح على الناس ومخاطبتهم بلغتهم، والانفتاح على العصر والتكلم بلغته، والتحاور مع مرجعياته في شتى الميادين، ومواجهة تحدياته ومشاكله، واقتباس إنجازاته المفيدة وإتقان صنعها ذاتياً، والإفادة من دروس تجاربه الذاوية والنامية، وممارسة صراع الإرادات دونما إفراط أو تفريط.
بمقدار ما يكون التغيّر نتيجة تنظيم أو حركة ناهضة بموجباته تمور في داخلها حريةٌ كاملة وديمقراطية تعبيرية وتقريرية، بمقدار ما تتأمن وفرة في الفعالية والإنتاجية وسرعة في التثمير والحصاد. وبمقدار ما تكون المشاركة واسعة، بمقدار ما يكون القرار متكاملاً ومتوازناً وصائباً ومجزياً.
للمشاركة صيغ وأشكال متعددة. غير أن أفضلها وأفعلها ما يضمن صحة التمثيل الشعبي وعدالته في آن. من هنا تستبين فعالية صيغة التمثيل النسبي في انتخابات حرة على جميع المستويات، تكفل أوسع مشاركة بانورامية لشتى فئات مجتمعاتنا التعددية وقواها الحية.
بمثل هذه المشاركة الحرة والواسعة تمكن مباشرة عملية إعادة التأسيس على مستوى مؤسسات المجتمع والدولة.
لكن، ماذا لو قاوم أولياء التقليد الجامد والسلطان الجائر والعدو الطامع السماح لمسار الحرية والعملية الديمقراطية بأن يأخذا طريقهما إلى التنفيذ والتثمير؟
في هذه الحال، لا مناصّ للقوى الحية من أنصار التجديد والديمقراطية من أن تمارس في مواجهة الخصوم نهج الممانعة والمقاطعة والمقاومة.
الممانعة تعني المعارضة بكلّ أشكالها. المقاطعة تعني العصيان المدني. المقاومة تعني الكفاح المسلح شريطةَ أن يُعتمد في سياق الدفاع عن النفس. ولا بأس في أن يدفع طلاب الحرية والديمقراطية ثمناً لمطلبيهما الغاليين. إنهما يستحقان أغلى التضحيات من أجل خروج الأمة، أفراداً وجماعات، من مستنقع الركود إلى فضاء النهوض.
بعد عصور وقرون من الركود والاستبداد والاستعمار والهيمنة، آن أوان التغيّر بإرادةٍ حرة وعزيمة جادة. آن أوان التغيّر بالشعب وللشعب. التغيّر بالحرية وللحرية. فالحرية هي المبتدأ والخبر.
التقليد الجامد من خلفنا، والسلطان الجائر من أمامنا، والأجنبي الطامع بين ظهرانينا، فلنحرق مراكبنا المثقوبة ولنقرر مصيرنا بإرادةٍ حرة، ولنسلك طريق الحرية بلا هوادة حتى النصر أو الشهادة.