حرب باردة جديدة في القطب الشمالي

فيما تعزز روسيا والصين وجودهما العسكري في المنطقة الغنية بالموارد في القطب الشمالي، تتدافع وكالات الاستخبارات الأميركية لدراسة هذه المنطقة للمرة الأولى منذ الحرب الباردة.

و في تقرير لصحيفة «لوس أنجليس تايمز» 2015، أكد أن اهتمام وكالات المخابرات الأميركية المفاجئ بالمنطقة يعتبر علامة واضحة على الأهمية الاستراتيجية المتنامية لهذا الجزء من كوكب الأرض.

وعلى مدى الأشهر الـ 14 الماضية، قامت معظم وكالات الاستخبارات الأميركية البالغ عددها 16 وكالة بتعيين المحللين للعمل بدوام كامل في منطقة القطب الشمالي، وعقد مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية أخيراً «مجلساً استراتيجياً» لتبادل النتائج التي توصل إليها المحللون.

علاوة على ذلك، اعتمدت وكالات الاستخبارات في عملياتها بالمنطقة على أقمار التجسس الأميركية التي تدور فوق القطب الشمالي، وأجهزة الاستشعار البحرية العميقة في المياه المتجمدة هناك.

يأتي كل هذا القلق المتزايد بعدما أكدت وزارة الدفاع الأميركية أنها كانت تتبّع 5 سفن حربية صينية في بحر «بيرنغ»، بين آلاسكا وروسيا، الأمر الذي يحدث للمرة الأولى، ما آثار بشدة اهتمام المسؤولين الحكومين.

وقال المسؤولون إن السفن الصينية الحربية كانت تبحر في المياه الدولية نحو جزر ألوشيان، إلا أنها لا تشكل أي نوع من التهديد.

ويبين هذا التركيز المتزايد على هذه المنطقة كيف يمكن للولايات المتحدة والقوى القطبية الأخرى تعديل خططها، مع فتح الاحتباس الحراري ممرات بحرية جديدة، ما يؤدي لانطلاق السباق نحو الاحتياطيات غير المستغلة إلى حد كبير من النفط والغاز الطبيعي والمعادن في هذه المنطقة، حيث تدور بين الولايات المتحدة وروسيا وكندا والدنمارك والنروج متابعات قضائية على استغلال قاع المحيط المتجمد الشمالي.

وقال مسؤول في الاستخبارات الأميركية، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته للصحيفة، قائلاً في مناقشة حول الثروات الجديدة غير المستغلة للقطب الشمالي: «هناك الكثير من الأشياء التي نراها الآن لم يكن من الممكن رؤيتها منذ 10 سنوات».

وقد أمضت وكالة الاستخبارات الأميركية المعروفة باسم NGA، العامين الماضيين في رسم الخرائط والرسوم البيانية الجديدة للممرات المائية والأراضي المتاحة في هذه المنطقة الشاسعة، وقال مدير الوكالة روبرت كارديللو في بيان إن وكالته تعتزم توسيع وتسريع وتيرة هذا العمل.

وقد نشرت الوكالة بعضاً من هذه الخرائط الرقمية المفصلة الأسبوع الماضي، في حين كان الرئيس أوباما في زيارة استغرقت 3 أيام إلى ألاسكا، وأصبح بذلك أول رئيس أميركي يزور مجتمع الدائرة القطبية الشمالية.

وتشير الخرائط إلى مناطق مهابط للطائرات، ومناطق تنقيب عن النفط وموانئ وحدود وطرق بحرية، وتخطط وكالة NGA لعمل خرائط بتقنية الأبعاد الثلاثية لولاية آلاسكا بحلول عام 2016 والقطب الشمالي بكامله بحلول عام 2017، للمساعدة في عمليات تتبع ذوبان الجليد البحري وانحسار الأنهار الجليدية بالمنطقة.

وفي هذا السياق، جاءت زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى ألاسكا، وهي الأولى لرئيس أميركي منذ عام 1944، عندما زار الولاية الرئيس ثيودور روزفلت.

وقام أوباما برحلة استغرقت 3 أيام عبر غابات ولاية ألاسكا بصحبة المغامر التلفزيوني البريطاني بير غريلز، حيث سجلت الرحلة ضمن حلقات البرنامج الخاص بغريلز، والذي يرصد آثار التغير المناخي على المنطقة.

قد يبدو أن زيارة أوباما إلى القطب الشمالي حملت طابعاً دعائياً قبل كل شيء، إذ كان الهدف المعلن منها جذب الاهتمام إلى قضية ذوبان الجليد في المناطق القطبية والاحتباس الحراري، فيما اعتبر كثيرون أنها استهدفت أيضاً دعم شعبية أوباما المتراجعة على خلفية إخفاقاته في السياسة الداخلية.

وأثارت زيارة أوباما إلى ألاسكا حملة من السخرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة، إذ اعتبر كثيرون أن الرئيس الأميركي حاول حذو حذو نظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي يشارك بصورة دورية في بعثات عملية ومغامرات في البراري.

ولقد قام بوتين بعمليات الغوص إلى قاع بحيرات وبحور مراراً، كما أنه صعد إلى متن كاسحة جليد وغواصة ذرية، وقضى أياما لوحده في غابات التايغا في منطقة نائية بسيبيرا.

لكن أوباما استخدم زيارته إلى القطب الشمالي أيضاً ليحذو حذو بوتين في مجال آخر، إذ أعلن تكثيف المساعي الأميركية لاستثمار المناطق القطبية.

وتطرق في تصريحاته إلى القضايا الجيوسياسية وتحديداً إلى موضوع المنافسة مع روسيا في المنطقة التي تحتوي في طياتها مخزوناً هائلاً من الثروات الطبيعية.

وبحسب تقييمات الخبراء، قد يحتوي الجرف تحت مياه المحيط الشمالي المتجمد على ربع المخزون غير المكتشف من النفط والغاز، أما فتح الطريق البحري الشمالي فيسمح بتقليص نفقات نقل الشحنات من الصين إلى أوروبا بقدر كبير.

وفي هذا السياق، ظلت روسيا حاضرة بقوة في تصريحات أوباما خلال زيارته البيئية إلى ولاية ألاسكا، إذ دعا الرئيس إلى تطوير الأسطول الأميركي من كاسحات الجليد بقدر كبير لتقليص الفجوة التي تفصلها عن روسيا في هذا المجال.

وفي هذه الأثناء، أشار أوباما إلى أن روسيا تملك حالياً 40 كاسحة جليد، كما أنها تبني 11 كاسحة أخرى، فيما يتكون الأسطول الأميركي من هذه السفن ذات الأهمية الاستراتيجية من 3 كاسحات، ومنها اثنتان فقط صالحتان للاستخدام.

ولا تملك الولايات المتحدة أياً من كاسحات الجليد الذرية، فيما تستخدم روسيا 6 سفن من هذا الطراز. وتبلغ نفقات بناء كل كاسحة جليد ذرية قرابة مليار دولار، أما عملية بنائها فتستغرق في روسيا 3-5 سنوات، وفي الولايات المتحدة سيستغرق بناؤها نحو 10 سنوات، نظراً لنقص الخبرة في هذا المجال لدى الجانب الأميركي.

وفي هذا السياق، يقول عسكريون أميركيون إن أسطول كاسحات الجليد الأميركي ضعيف للغاية، ولا يسمح لواشنطن بتحقيق أهدافها في المنطقة، بخاصة أن السفن باتت قديمة بالمقارنة مع كاسحات الجليد الروسية الجديدة.

وكانت وزارة الأمن الداخلي الأميركي التي تخضع لها قوات خفر السواحل، قد أعلنت عام 2013 أن تلك القوات بحاجة إلى 3 كاسحات جليد ثقيلة، قادرة على كسر جليد يبلغ سمكه 6.5 متر، بالإضافة إلى 3 كاسحات جليد متوسطة، قادرة على شق طريق في جليد سمكه أقل من 2.5 متر، وذلك على أقل تقدير.

وفي هذا السياق، حذر السيناتور الأميركي جون ماكين في مقال نشر بصحيفة «East Valley Tribune «، من سعي روسيا لإطلاق «لعبة كبرى» جديدة في منطقة القطب الشمالي.

وكتب ماكين في مقاله: «في وقت يستمر ذوبان الجليد، تسارع روسيا إلى تأمين وفرض سيطرتها على الطرق البحرية في المحيط الشمالي والتي يمكن فتحها ليس أمام السفن التجارية فحسب، بل وأمام أنشطة عسكرية واستطلاعية».

كما تحدث ماكين عن «الثروات الطبيعية الهائلة، بما في ذلك النفط والغاز، التي قد تتيح الفرصة في المستقبل لاستغلالها، فيما سيتحول القطب الشمالي إلى ساحة جديدة للمنافسة الجيوسياسية».

وبحسب تقييمات لهيئة المسح الجيولوجي الأميركية، قد تحتوي منطقة القطب الشمالي على قرابة 30 في المئة من مخزون الغاز الطبيعي غير المكتشف، إضافة إلى 13 في المئة من مخزون النفط غير المكتشف.

ورفعت الهيئة تقييماتها في ما يخص مخزون النفط في المنطقة، باعتبار أنه قد يبلغ 160 مليار برميل، بالمقارنة مع تقييمات سابقة تحدثت عن وجود 90 مليار برميل نفط تحت جليد المناطق القطبية، كما تحتوي المنطقة أيضاً خمس مخزون الماء العذب على الكرة الأرضية.

لكن التصريحات الأميركية الأخيرة، تشير إلى سعي واشنطن لعرقلة هذه الجهود الروسية، باعتبار أنها تهدد مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة، بحسب مقال ماكين، الذي قارن بين الأنشطة الروسية في القطب الشمالي على رغم أنها تنفذ في الحدود المعتبر بها دولياً، مع المساعي التوسعية للصين في بحر الصين الجنوبي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى