ماركوس أوريليوس الرواقي… الفيلسوف على العرش
الطاهر الطويل
حينما يجتمع الفكر مع السلطة في شخص واحد يكون الاستثناء. ويحفل التاريخ الإنساني بشخصيات استثنائية وصلت إلى قمة هرم الحكم، لكنّ تميزها لم يتأتّ من نفوذها السياسي وقوتها العسكرية، بقدر ما تحقق من خلال عبقريتها الفكرية التي أفرزت إنتاجات ملموسة ضمنت لها الفرادة والخلود، بفضل إسهامها القوي في بناء الحضارة الإنسانية.
ماركوس أوريليوس 121 ـ 180م واحد من هؤلاء العظماء، إذ لُقّب بـ«الفيلسوف على العرش»، كونه جسد ـ إلى حدّ كبير ـ صورة الحاكم الفيلسوف التي يمثلها أفلاطون في جمهوريته، وكان الحاكم المطلق على العالم المتحضر كله آنذاك، خلال أوج الإمبراطورية الرومانية، وبلغ من الحكمة ما لم يبلغه أحد من معاصريه.
ومن ثمرات أفكاره كتاب «التأملات» الذي صار بإمكان قراء العربية الاطّلاع عليه بعدما ترجمه الباحث المصري الدكتور عادل مصطفى الحائز على جائزة «أندريه لالاند» في الفلسفة وجائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية عام 2005 ونشرته دار «رؤية» في القاهرة. ولم يكتف الباحث المذكور بالترجمة، إنما قام بشرح الكتاب والتعليق عليه، من أجل وضعه في سياقه الفكري، أي سياق الفلسفة «الرواقية».
يلاحظ الدكتور أحمد عثمان، الذي تولى مراجعة الترجمة، في كلمته التقديمية أن «تأملات» ماركوس أوريليوس أشبه ما تكون بمفكرة، دوّن فيها هذه التأملات، ربما وهو في خضم المعارك وفوق الجبال أو في أعماق الغابات. وربما كان أحيانا في قصره المنيف. المهم أنها تأملات مكتوبة بعيداً عن قصدية الدرس المتعمق أو الخطاب المنمق وما شابهه. ومع ذلك، فالمرء يندهش من كثرة الإشارات لعيون الكتب والمؤلفات في الأدبين الإغريقي واللاتيني. فليس الأمر قاصراً على الرواقيين السابقين، بل يشمل كل المدارس الفلسفية والمذاهب الأدبية عند الإغريق والرومان. هذه التعددية في مصادر أوريليوس تدل دلالة واضحة على عمق ثقافته وغزارة اطّلاعه.
وفي خصوص الترجمة التي يقدّم لها الخبير المُراجع، فيقول إنها تتم عن دارس مجتهد للفلسفة وذواق للأدب، إنه مترجم يحب المادة التي يترجمها ويعيش المبادئ التي يشرحها، لذلك كان أسلوبه في الترجمة مستساغاً. ومع أنه يترجم من النص الإغريقي عن الإنكليزية فإنه لم يفقد الكثير من روح النص الإغريقي الأصلي.
لماذا كتب ماركوس يومياته باللغة اليونانية؟ يجيب المترجم بأنها كانت لغة الصفوة من مثقفي الرومان في ذلك الوقت، وقد وسم ماركوس تلك اليوميات بعبارة غامضة: «إلى نفسه»، أي أن الإمبراطور في تلك التأملات يخاطب نفسه ولا يخاطب جهة أخرى، تمييزاً لها عن الوثائق الأخرى التي تودع في خزانته ولا هو يُـبَـيِّـتُ في كتابتها نية النشر على القراء، ولا نية التخطيط لمؤلَّـف يتركه لقومه وللأجيال من بعده.
الرواقية التي ينتمي إليها ماركوس، فلسفة عملية، تعلمنا كيف نتحلى بالثبات ونتحمل المحن ونخرج من رماد الفشل. وقد نشأت الرواقية بعد أرسطو، وامتدت قروناً في الحقبة الهلينستية وما بعدها. ومن ثم، فقد كانت الرواقية، شأنها شأن المذاهب التي أعقبت أرسطو، فلسفة عملية في الدرجة الأساسية، إذ كانت كأخواتها وليدة اضطرابات وفكر أزمة.
يعتبر المترجم رواقية ماركوس أوريليوس رواقية معتدلة ومعدَّلة، فقد طرح ماركوس بعض مبادئ الرواق، ولم يغلُ في بعضها الآخر غلوّ القدامى، وتجنب الخوض في المنطق والطبيعيات، ودوّن خواطره الشخصية بأسلوب بسيط، في الغالب الأعم، تجنب فيه ذكر المصطلحات الفنية والتخريجات المعقدة. بذلك، قدم للرواقية صيغة سلسلة سائغة المأخذ، فكانت آخر رسالة بعث بها العالم القديم إلى الأجيال المقبلة.
ويشير الدكتور عادل مصطفى إلى أن الفلسفة عند ماركوس هي علاج وملاذ، ورفقة حياة: «الحياة صراع ومُقام غربة، والمجد الروحي الباقي هو الخمول. أي شيء إذنْ بوسعه أن يخفرنا في طريقنا؟ شيء واحد، وواحد فقط: الفلسفة. وما الفلسفة سوى أن تحفظ ألوهيتك التي بداخلك عقلك سالمة من العنف والأذى، وأن ترتفع فوق الألم واللذة، ولا تفعل شيئا بلا هدف، أو بلا صدق أو بلا أصالة وأن تترك ما لا يعنيك مما يفعله الآخرون أو لا يفعلونه، وأن تقبل كل ما يجري عليك ويُقَـدَّر لك بوصفه آتياً من المصدر نفسه الذي منه أتيتَ. وأخيرا، أن تنظر إلى الموت بنفس منشرحة على أنه مجرد انحلال للعناصر المكونة لكل شيء حي. فإذا لم يكن بأس في التحرك الدائم للعناصر من عنصر إلى آخر، ففيمَ التوجس من تغير العناصر جميعاً وانحلالها؟ ذلك شيء موافق للطبيعة، ولا ضير البتة في أي شيء موافق للطبيعة».
ويخلص المترجم ـ وهو كذلك طبيب نفسي ـ إلى أن الرواقية ليست مجرد مذهب فلسفي في ما تحتويه على نظرية للعلاج النفسي، إنما يمكن الرواقية في صميمها علاجاً نفسياً وإن كان قائماً على أساس فلسفي عريض.
باحث وكاتب مغربي