عندما يتدخل الرأي العام للمحاسبة
روزانا رمال
كان يوم الأربعاء الطويل طويلاً على اللبنانيين شعباً وأجهزة أمنية ومؤسسات إعلامية، فمنذ الصباح احتشدت عيون الناس أمام الشاشات لتتابع التحضيرات للحوار الذي سيجمع قادة البلد بعد طول انقطاع عن اللقاء ولو على مستوى ثنائي بينهم باستثناء لقاءات بدت لا تحمل جديداً، ضمّت حزب الله وتيار المستقبل في ضفة والتيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية في ضفة مقابلة.
كان همّ الناس والإعلاميين والديبلوماسيين المستنفرين لإبلاغ كلّ جديد مثير إلى عواصم بلدانهم، هو الحدث الجديد، والحدث الجديد هنا هو من نوع، غاب رمز هامّ عن الحوار بدواع غير مقنعة مثل المرض، وتعطلت فرصة تشكيل طاولة الحوار كمنصة سياسية صالحة للتفاوض اللاحق حول الرئاسة وسواها، أو تشكيل مظلة عليا للحكومة تتيح لها السيطرة على أزماتها من جهة وإدارة أزمات اللبنانيين من جهة مقابلة.
الحدث الجديد الذي استنفر الجميع لرصد فرصه ووقعه كان من نوع حادث أمني يطال موكب أحد المتحاورين الكبار، يدخل البلد في منعطف جديد ويؤشر إلى قرار جهة إقليمية أو دولية نافذة وفاعلة بضرب الاستقرار اللبناني.
ما عدا هذا النوع من المفاجآت غير السارّة لم يكن ثمة مفاجأة سارة ينتظرها المتابعون من نوع إعلان طاولة الحوار التوصل إلى تفاهم على انتخاب رئيس للجمهورية والدعوة إلى جلسة انتخابية عاجلة لأنّ الدخان الأبيض قد تصاعد من ساحة النجمة، فكان يكفي ترقب فرص حدوث مفاجأة من نوع انفراط عقد الطاولة بسبب مشادّة أو انفعال أو تنافر وتجاذب بين أطراف منقسمة حول كلّ شيء وتخاطب بلغة عالية السقوف وحادّة النبرات.
على ضفة الحراك كان الترقب لحشد مليوني ينجح في جمعه المنظمون للتظاهرات يستقطب جمهور الزعامات المجتمعة في ساحة النجمة فيكون الفارق بين تظاهرة السبت في التاسع والعشرين من آب وتظاهرة الأربعاء في التاسع من أيلول بذات نسبة التوسع في الحجم بين تظاهرتي الثاني والعشرين من آب والتاسع والعشرين منه أيّ قرابة العشرة أضعاف.
كما كان الترقب على ضفة الحراك والقوى الأمنية لمواجهة تصادمية، تشكل تطوراً درامياً ينقل الحراك والقوى الأمنية إلى حال من التصادم المفتوح، بسبب حجم الحشود من جهة وشحنة الغضب التي يختزنونها من جهة مقابلة، ودور المجموعات المتحمّسة والمتطرفة وربما المدسوسة داخل الحراك لاستغلال هذا الحشد وتضييع الطاسة فيه بعد أخذه إلى الفوضى المفتوحة، وكانت الدعوة للاعتصام في ساحة النجمة التي يعرف المنظمون استحالة الوصول إليها تعبيراً عن مواصلة نية البحث عن الصدام فتجعل توقع المواجهة أقرب إلى الحدوث وفي ظلّ الحشود أقرب إلى التوسع وفي ظلّ الغضب أقرب إلى الاستمرار.
مرّ اليوم الطويل ولم تقع أيّ من المفاجآت، فمرّ الحوار بسلام ومرّ الحراك بسلام، وتلاقى الحوار والحراك على جمع الحكومة للبدء بحلّ لقضية النفايات.
على جانب القيادات السايسية جاؤوا جميعاً ولم يستطع حتى من كان يرغب بالتملّص أن يفعل ذلك ويتغطى بذرائع وهمية لأنّ اللبنانيين كانوا حاضرين خلف الستارة ويحسّ السياسيون بوجودهم، فالميزان بين بقاء اللبنانيين أمام الشاشات يتابعون الأحداث وبين قرار نزولهم إلى الشارع ليس الغضب وهو كاف لينزلوا، بل التحقق من أنّ رسالتهم في التاسع والعشرين من آب قد وصلت إلى السياسيين بألا يطمئنوا كثيراً لتماسك وضع زعامتهم على الشارع، وكان يكفي حدوث مثل هذه الدعسة الناقصة من أيّ طرف حتى يخرج الناس يرفدون التظاهرات بكثافة الحضور، وهكذا لم يكتفوا بالحضور فقط بل تعاملوا مع الطاولة وخلافاتهم وانفعالاتهم بإبقائها تحت السيطرة، كي لا يتحمّل أيّ منهم أمام اللبنانيين مسؤولية الفشل، فيدفع الثمن غالياً، وعندما دعا رئيس الحكومة إلى جلسة مخصّصة لبحث ملف النفايات تصرّف الجميع بشطارة، فحضروا بما لا يعطل الجلسة ويحفظ لكلّ طرف مواقفه وناقشوا واتخذوا القرارات مثلما يفعل كلّ الشاطرين عندما يكون أستاذ الصف واقفاً خلف الباب، والأستاذ هو الرأي العام اللبناني.
على ضفة الحراك، كان اللبنانيون يراقبون وهم يريدون له أن يبقى بزخم يسمح ببقاء رسالة السخونة مع السياسيين قائمة، لكنهم لا يريدونه ساحة اشتباك، وأخذوا يخشونه كمنصة لنقلهم إلى الفوضى، وقد تسبّب مصطلح ربيع لبنان بإثارة الذعر بين صفوفهم وهم عرفوا ماذا جلب الربيع المشابه لتونس ومصر، وعرفوا أنّ وجود أيد خفية ورسائل خفية داخل وخلف الحراك والمحركين ليس مجرد اتهام سياسي ولا هو تخويف مبالغ فيه، فقد تنبّهوا لسرّ الذهاب إلى التصعيد ورفض الحوار والإصرار على السقوف المرتفعة الغامضة من نوع الشعب يريد إسقاط النظام دون أن يفهموا من سيسقط بإسقاط النظام؟ الجيش وقوى الأمن نحو الفوضى، أم الحكومة التي لا فرص لبديل عنها بغياب رئيس جمهورية، أم مجلس النواب الذي لابديل عنه لإقرار قانون انتخابات جديد أو انتخاب رئيس للجمهورية كمدخل لانسحاب المجلس من الصورة كشرط لهذا الانسحاب؟
كانت وسيلة الناس في ضبط الحراك وإيصال رسالة العقلانية والتهدئة إلى صفوفه وصبّ الماء البارد على بعض رؤوس منظميه الساخنة في طقس شديد الحرارة أصلاً، هو عدم منح المنظمين فرصة التعالي والتفرّد والتباهي بأنهم يمثلون الشعب وحصر حدود مهمّتهم بالتحفيز عبر منحهم حضوراً بالآلاف في تظاهرة شكلت منتصف المسافة بين تظاهرتي الثاني والعشرين من آب والتاسع والعشرين منه.
حضر الرأي العام خلف الستارة للمحاسبة فتأدّب الجميع.