أوروبا ولا إنسانيتها…
محمد العمري
من يعتقد بأنّ أوروبا اليوم هي تفتح ذراعيها للاجئين انطلاقاً من ثوابتها ا نسانية التي تدعيها فهو مخطئ. فهذه الدول وبخاصة المانيا الاتحادية كانت زيارتها بقصد السياحة حلم لكلّ إنسان، وهذه الدول هي ذاتها كانت سبب وجود ا رهاب وانتشاره فكيف لها أن تدّعي ا نسانية؟ ولكن يبقى السؤال ما الذي تخفيه حقيقة ووقائع هذا التغيّر الكبير من حيث استقبال اللاجئين؟ ولماذا ا صرار على استقبالهم فقط وبنسب كبيرة من خلال اللجوء الغير شرعي بحيث لا ينظم لجوؤهم إلى هذه الدول؟
الأجوبة على ذلك تبقى طي الكتمان وخفايا تحتويها أجندات هذه الدول، ولكن لا بدّ من التوقف عند عدد من الحقائق والملاحظات التالية التي يمكن أن تجعلنا ولو بشكل جزئي نستطيع ا جابة عن بعض اأسئلة حول تلك المواقف:
الحقيقة الأولى: تعيدنا إلى نكبة عام 1948 وما قبلها عندما قام الصهاينة ومن خلال المرتزقة من العصابات وبإشراف دولة اانتداب البريطاني حينها، بارتكاب العديد من المجازر المروّعة بحق الشعب الفلسطيني لفرض أمر واقع عليه يجعله يتقبّل وجود كيان مغتصب، أو دفعه إلى الهجرة وترك أرضه قسراً والانتقال إلى دول أخرى لتحقيق الحلم الكبير وبدعم غربي لطفلها الصهيوني المدلل بإقامة دولته من النيل للفرات، فكانت سورية خلال تلك السنوات هي العائق والسدّ المنيع في وجه هذا الحلم والمدافع الحقيقي عن حق الشعب الفلسطيني في استرداد حقوقه وفي مقدمتها حق العودة، حيث تواجد فيها أكبر المخيمات ومنها عاصمة الشتات ودعمت حركات المقاومة سياسياً واقتصادياً ومعنوياً، فكان الردّ بالدعم الغربي للمجموعات المسلحة بكافة تسمياتها منذ بداية ا زمة السورية لدخول هذه المخيمات وغيرها من ا راضي والمدن السورية التي تتمتع بأهمية استراتيجة لاستنزاف سورية لتحقق أولا تهجير الفلسطينين من تلك المخيمات وإغلاق كافة الطرق أمامهم للبقاء والتمسك بحقوقهم وفتح منفذ الهجرة نحو أوروبا بكامل رفاهيتها مقابل التخلي عن حق العودة والهوية الفلسطينة، وثانيا: إفراغ سورية من شبانها ومكوناتها ضمن المشروع الكبير للصهاينة، ولا سيما بعد تجزئة العراق ونشر ا رهاب والفوضى والطائفية في المنطقة الممتدّة من النيل إلى الفرات باستثناء دولة الاحتلال التي تحدّثت في الفترة الماضية عن عدم وجود شيء اسمه الدولة السورية، وتنفيذاً لعدد من مقرّرات مؤتمرات هرتزيليا التي طالبت بضرورة استنزاف واسقاط سورية وتقسيم المنطقة لكانتونات في سبيل تحقيق الحلم الصهيوني وأمنه.
الحقيقة الثانية: تقوم باستفادة هذه الدول من الكفاءات والإمكانات التي يتمتع بها السوريون في كافة المجالات لسدّ حاجة النقص في بعض دول القارة العجوز ورفع نسبة الناتج المحلي لديها.
الحقيقة الثالثة: إفراغ المنطقة بشكل عام وسورية بشكل خاص باعتبارها دولة مركزية لها دور في استقرار المنطقة، من مكوناتها الأساسية وإحداث نوع من التغيير الديموغرافي في المناطق من خلال إرسال منظمات تدّعي العمل ا نساني وتستفيد من انتشار ا رهاب لتهجير تلك المكونات وبخاصة المسيحية منها بشكل منظم ومدروس وبغايات وأهداف تعود للحملة الصليبية على المنطقة، واستبدالها بكيانات سرطانية تحمل أفكار اًومعتقدات تكفيرية هدامة تعمل على تشويه طبيعة الدين ا سلامي وتنشر القتل والفوضى وتدمّر الحضارات كتنظيمات «القاعدة» و«داعش» و«النصرة» في مناطق واسعة في العراق وسورية.
الحقيقة الرابعة: استنزاف كافة الموارد البشرية للدولة السورية وبخاصة في ما يتعلق بالجوانب العسكرية والاقتصادية وحتى الاجتماعية، فمن المعلوم أنّ معظم الذين يلجأون إلى أوروبا تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عاماً ومعظمهم من الذكور وهؤلاء يشكلون عماد وقوام الجيش العربي السوري، وبالتالي فإنّ رحيلهم سيساهم بشكل ملموس في تراجع هذا العنصر الذي يقوم اليوم بمكافحة ا رهاب ومنع انتشاره، كما أنّ ا رقام تشير إلى أنّ تكلفة الهجرة للشخص الواحد تتراوح بين 4 آلاف إلى 7 آلاف دولار، وحتى اليوم هناك ما يقارب من مليون ومئة ألف لاجئ بشكل غير شرعي نحو أوروبا وهذا ما يعني استنزاف ااقتصاد السوري بأكثر من خمسة مليارات ونصف المليار دولار بشكل وسطي، ناهيك عن انّ 23 في المئة من اللاجئين يحملون شهادات جامعية وتأثيرات ذلك على النواحي الاجتماعية والتعليمة في الداخل السوري.
الحقيقة الخامسة: هي اللاإنسانية ا وروبية وتحقيق براغماتية مصالحها في سورية وضد الدولة السورية، ففي المحافل السياسية ستستخدم أوروبا قضية اللاجئين كملف مقبل لمواجهة الدولة السورية بعدما فشلت محاولاتها السابقة في ادّعاءاتها حول إدانة الدولة باستخدام الكيماوي وفشل المجموعات المسلحة التي تدعمها إسقاط سورية إلخ… كما أنّ بعض الدول ا وروبية ستسعى جاهدة عادة بعض السوريين بعد تنظيمهم ضمن أحزاب وقوى مدرّبة وتحمل أفكاراً غربية خلال المسار والعملية السياسية ليكونوا أدواتها في استكمال الحرب على سورية ولتغيير السياسات الداخلية والخارجية، وبما يتناسب مع استراتيجية ومصالح هذه الدول التي تبحث عن نفوذ وحصة لها أيضاً في مرحلة إعادة اإعمار وبشكل يكون بعض السوريين هم الواجهة لها في طريق الخصخصة وتفكيك المركزية وا شرافية للدولة من خلال ترسيخ الاقتصاد الحر المرتبط بالتبعية للرأسمالية الغربية.
كما أنّ اللاإنسانية ا وروبية تعمل على إيجاد تمويل مستقلّ وكبير للمجموعات المسلحة من خلال تهريب السوريين بعد تراجع بعض الدول عن دعم هذه المجموعات نتيجة تراجع اقتصادياتها وضعف نموّه وانتشار الارهاب وخشية ارتداده وتغيير الرأي العام تجاه سياسات دوله، ناهيك عن المتاجرة بأعضاء الكثير من هؤلاء المهاجرين بعد تعريضهم قسى ظروف اانتقال.
وا خطر في اللاإنسانية ا وروبية هي عزل ا طفال الذين تتراوح اعمارهم بين 4 و16 سنة عن أهلهم واتباع أساليب غربية لتربيتهم على الطريقة والعقلية الأوروبية بما ينشئ قاعدة فتية لها عمادها هؤلاء ا طفال في المستقبل يتبنون فكرها ونهجها ويدافعون عن هويتها ااستعمارية على حساب وضدّ هويتهم الوطنية الحقيقية.
كاتب متخصّص في العلاقات الدولية