قالت له

قالت له: هل يموت الحبّ، أم هو نبتة أزلية لا تموت؟ وإن كان أزلياً فكيف نحبّ في الحياة أكثر من مرّة؟ ولو بقي بينها ما هو أشدّ حضوراً بالدرجة والقوة؟

فقال لها: الحبّ كائن حيّ يولد ويموت. وله روح تتألم وتفرح وتحزن. ويكتشف أسرار الحبيبين ويكتم بعضها عن بعضهما. فتحسّين أحياناً بشكٍّ نحو الحبيب بقصور أو وهن. فيدخل الحبّ يناقشك ويدافع، وهو ربما يعلم ما تخشينه، لكنه يبذل جهده لينجح لأنه يحيا وروحه تفرح باقتراب الحبيبين. والحبّ لا ينتقل من تجربة إلى أخرى، بل يبقى الحبّ الذي انتهى حيّاً ذابلاً، يشيخ ويمرض ويحسد الحبّ الجديد. وأحياناً يتآمر لإفشاله، ويتدخل لإعادة إنعاش العلاقة بين الحبيبين، فيهمس لكل منهما مقارناً داعياً إلى عدم الاستسلام. ولا يستسلم الحبّ إلا عندما يتحقّق من جموح الحبّ الجديد، واشتعاله بما كان مفقوداً معه. فيحزن أكثر ويموت كمداً. ولأنه حسود متعصب لذاته، يلقي العبء على من دخل من الحبيبين في حبّ جديد، ويعاتبه ويعاديه ويتّهمه بالأنانية ويبحث عن أسبابه ليتّهمه بـ«المصلحة» حتى يكتشف أنه يظلمه، وأن الشريك كان فاشلاً ولا يستحق دفاعه عنه. فيندم فينقلب عليه بحماسة، ويبقى يتقلب حتى يحدّد خصمه بين الحبيبين. فيتحول الحبّ من ملاك إلى شيطان، ويبدأ يوسوس لشقيقه الحبّ الآخر ويحاول أن يستدرجه لأسرار الحبيبين، إما تشجيعاً للنجاح إذا كان الإنصاف قد وضعه في صفّ الحبّ الجديد، أو يسعى للفتنة تخريباً للحبّ الجديد إذا تيقن من مظلومية الحبيب القديم. وإذا اجتمع الحبّ القديم والحبّ الجيد على نجاح حبّ جديد، تتجدّد حياة الحبيب واندمجت حياة الحب الأول بالثاني. فلا موت ولا شيخوخة. وإذا التقيا على خراب الحبّ الجديد هرم الحبّ الأول واكتئب الحبّ الثاني، وبدأ الموت يصير قدر الحبّ القديم كما الحبّ الجديد. فالحبّ الذي يلي حبّاً كبيراً لا يحيا إلا إذا صار أكبر. فقالت له: أفرحتني أننا نأتي كلانا إلى حبنا من حبّ كبير إلى حبّنا الأكبر.

فطبع قبلة على جبينها ومضى…

قالت له: أحبّ فيك الشهامة والاستقامة. ولا أحبّ أنك تعيشني كتاباً كمن يصحّح النصوص، تحبّ أن تضع فوق كلّ حرف علامة. والحياة فعل إهمال أحياناً واستهتار أحياناً واضطراب وحيرة كثيراً. وليس الحبّ الأمر الوحيد الذي يستهلكنا ونعيشه في الحياة. وليس الحبيب دائماً مستعداً وقادراً لجميل القول أو مجرّد كلمة في متن قصيدة. ومثلما نساوم على أمورٍ كثيرة في حياتنا لأجل الحبّ، تأتي لحظات تستدعي أن نساوم على الحبّ لأجل الحياة، لأن الحياة قطار ونحن ركاب ننزل إلى محطة ونغادر أخرى حتى نصل إلى حيث أقدارنا. والتسامح هو فعل إهمال وتغاضٍ، لأن الحبّ يمنحنا قوّة الضعف. وأنت لا تريد أن تضعف. والحبّ أن ننسى وأنت لا تريد أن تنسى. والحبّ أن نتقبل أننا لسنا للحبّ وحده خُلقنا، وأن علينا في الحياة أعباء نحتاج الحبّ فيها سنداً يعيش التضحية لا منافساً يطلب الحقوق.

فقال لها: أخشى لعبة القطارات وسكك الحديد. فقد يكون قطار كلّ منّا قد التقى بقطار الآخر في آخر محطة، وقد حان وقت الافتراق بقطارين، لكلّ منهما وجهة معاكسة لقطار الآخر. وتبقى الذكريات.

وعانقها قائلاً: سأبقى في هذه المحطة وأفترضك معي حتى عودتك، أو تغلق المحطة أبوابها في وجهي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى