أعانق الحياة حبّاً ولن أفارقها إلا حبّاً
كما في كل يوم، وفي طريق عودتي بعد عمل طويل، أمرّ بنظري على أماكن كثيرة من وطني الذي كان ولا يزال يعجّ بخجل الحياة، إنما مع فارق بسيط يمكن لأيّ شخص أن يلاحظه على وجوه الناس الممتلئة بالحزن، والتي اتعبتها سنون الحرب. ليمر في ذهني قول مشهور للشاعر محمود درويش: «على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة»، ويذهب بي إلى حلم جميل عن وطن الياسمين. لكن، وفي لحظات متسارعة، استيقظت فجأة في لحظة تفصل بين الحياة والموت. هي لحظة أدركت فيها أنني لا أزال على قيد الحياة. فبعدما انتُشِلتُ من تحت ركام الحرب على أرضٍ لطالما أحببتها، لم أفكر بنفسي وبجراحي وآلامي التي حملتها عنوة. فقد كان جلّ تفكيري بأّمي. فأنا كمحمود درويش أخجل من دمع أمي، إذا متّ.
ذهبت مسرعة بما تبقى لي من قوة، تائهة أبحث عن أمان فقدته في وطني بعدما اجتاحه طالبو «الحرّية والعدالة» وسرقوا كلّ شيء منه ومنّا. أسرعت من دون إدراك، إلى أن استوقفني شخص أعرفه. ربما كان توقفي عنده ضروري كي أنفض غبار الحرب عن جسدي وثيابي، لأصبح جديرة بلقاءٍ كان من المفترض أن يكون اعتيادياً من دون أن يفزعه شكل الحرب المرسوم على جسدي. وبعدما أصبحت جاهزة وكأنني عروس جُهّزت لتكون بأحسن حال ليستقبلها حبيبها، عاودت المسير، إنما بخطى مثقلة وعيون نازفة من الألم وثغر مبتسم على رغم الجراح، وروح تأبى الخضوع كمقاوم على جبهات القتال، لألتقي بحبيبتي.
اقتربت من المنزل واستقبلتني كعادتها بابتسامة كمن ينتظر كل أحبابه. فهي أيضاً خسرت جميع من أحبّت وربّت لتسرقهم غربة فرضتها عليهم الحياة. ولم يبق غيري إلى جانبها مِن أحبتها. لكن ابتسامتها غابت حين رأت اللون الأحمر يغطي جسدي. تهاويت بين أحضانها، وكأن سؤالها لي كان الضربة الأخيرة التي أسقطتني. في هذه اللحظات، وأنا بين أحضانها شعرت بأمان. علا صوت بكائي على ما رأيت قبل أن أصل إلى برّ الأمان.
صوت قويّ مدوّ. أنا على أرض الوطن، لكنني ما زلت على قيد الحياة. من الجهة اليمنى كانت جثث الشهداء مرمية غارقة بالدماء، ومن الناحية الأخرى صوت مَن أصيب بشظايا الغدر ودماؤه تسيل لتروي أرضا تربّى عليها. وهناك في البعيد أناس يتدافعون خوفاً من الموت القادم من السماء بقذائف متساقطة بحقد.
عويل، صراخ، غبار، أصوات تنذر بالموت، أطفال يبكون، ورجال يرفعون كلّ جريح ومصاب وشهيد تعمّد بدمه. تملّكني الخوف وعاد إليّ وكأني لم أغادر ذلك المكان المرعب. إلى أن جاء صوت أمّي كصوت وطن وعدني بأمان، ربما موقت لكنه وعدني. لا تخافي، أنا هنا وأنت بين أحضاني. حينئذ فقط، شعرت بالأمان. فأنا ما زلت أعانق الحياة حبّاً ولن أفارقها إلا حبّاً.
ربى شلهوب