البعد الديني في السياسة الدولية
نظام مارديني
أكدت التطورات التي أعقبت هجمات 11 أيلول عام 2001، أنّ الدين أصبح يلعب دوراً مهماً في العلاقات الدولية. ويمكن اعتبار الولايات المتحدة نموذجاً في هذا الأمر، ليس فقط مع صعود التحالف بين المحافظين الجدد واليمين المسيحي، الذي طالما انحاز لـ «إسرائيل» لأسباب لها علاقة بأساطير حول عودة المسيح والصراع النهائي بين الخير والشرّ، ولكن لأنّ البروتستانتية الأميركية لها جذور يهودية، وأيضاً لأنّ الجولات الأولى للولايات المتحدة كانت لأسباب دينية. وقد أشار إلى هذا الأمر بوضوح الدكتور يوسف الحسن، وذلك في دراسة مهمة له بعنوان: «البعد الديني في السياسة الخارجية الأميركية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي». في ضوء ذلك، يكفي فقط أن نستعيد ردود الفعل على ما جرى في أزمة الرسوم الدنماركية، أو نبحث في كيفية ظهور «القاعدة» و«داعش» وموقف أوروبا والخليج وتركيا في دعم هذا الظهور ولأسباب لا تخفى على أحد، لنرى أن هناك طفرة كبيرة في العلاقة بين الدين والعلاقات الدولية. ولكن السؤال هو: كيف تنظر العلاقات الدولية إلى الدين، وهل تتعامل معه بنفس المفهوم الذي تتعامل معه العلوم الأخرى، مثل علم الاجتماع مثلاً. أم أنّ هناك تعريفاً مختلفاً للدين في مجال العلاقات الدولية؟
في كتابه «قضايا في السياسة العالمية»، الصادر عن دار «بلغريف» البريطانية عام 2001 يقول جيف هنز، إن نهاية القرن العشرين كانت حقبة تغيّر سياسي واجتماعي واقتصادي جوهري على الصعيد المالي، ومن بين التغيّرات التي شهدتها تلك الحقبة الانخراط السياسي لفاعلين دينيين حول العالم. وقد أكدت ذلك، أحداث البوسنة والهرسك، التي تحوّلت إلى نزاع ديني في أوروبا، أما في العالم الثالث، فبدا أن دور الفاعلين الدينيّين ذوي الأهداف السياسية في ازدياد، ولعلّ أوضحهم من تشجّعوا بالثورة الإيرانية، ومحاولة العراق العلماني الاشتراكي القومي أن يلعب بالورقة الإسلامية المحمدية في حرب الخليج الثانية عام 1991 التي كانت هي اللحظة المحدّدة في النقاش حول النظام الدولي الذي أعقب الحرب الباردة. وفي ذلك الحين أصبح ينظر إلى الراديكالية الإسلامية المحمدية على نحو واسع بأنها ربما تشكل أهمّ تهديد جديد للأمن الغربي. وجاءت التعليقات المتشائمة للباحثين الأميركيين صامويل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما تأكيداً لهذه الرؤية، من أنّ التهديدات الخطيرة للنظام الدولي سوف تكون من المصادر الدينية والثقافية غير الغربية. وبالتالي، فإنّ التهديدات الرئيسة سوف تأتي من بلدان تعجّ بشعوب غير مسيحية، لأنّ المسيحية وفقاً لرأي أصحاب وجهة النظر هذه، أفرزت ثقافات تشجع على نمو الديمقراطية الليبرالية، وبالتالي تشجع على السلام والأمن العالميين.
وهذه الرؤى تشير إلى أنّ المعسكر الغربي اتخذ من الإسلام المحمدي عدواً بديلاً عن الاتحاد السوفياتي السابق، وذلك تطبيقاً لنظرية صراع الحضارات التي نظّر لها هنتنغتون في كتابه الشهير «صدام الحضارات وإعادة بناء النظام الدولي». ولكن ما ذكره هنتنغتون ما هو إلا توصيف لوضع كان يتبلور بعد نهاية الحرب الباردة، فنهاية الإيديولوجيات الكبرى المهيمنة دفعت الشعوب إلى البحث عن ملاذ نفسي ووجدته في الهويات الصغرى مثل الإثنية أو الدين. وأصبح الدين بديلاً لدى شعوب متعدّدة عن النظم «السردية الكبرى» التي يطلق عليها الهوية. وللذكرى، فإنّ مصطلح «السردية الكبرى» هو نفسه الذي استخدمه المنظّر الأول لما بعد الحداثة المفكر الفرنسي جان فرانسوا ليوتار، وذلك للإشارة إلى حقبة العلاقات الدولية التي أعقبت الحرب الباردة.
فمفهوم ما بعد الحداثة في العلاقات الدولية يقوم على نسبية المفاهيم، والعلاقة القوية بين المعرفة والسلطة وتفكيك الأنماط السائدة من التفكير، وهذا الأمر يستتبع أن يتمّ التعامل مع آليات أخرى مختلفة عن أنماط التفكير في العلاقات الدولية، وفي مقدّمها أنّ الوحدة الأساسية في النظام الدولي، وهنا برزت مفاهيم متعدّدة مثل الفوضى، والتفكيك، اللذين يتمّ التعامل معهما بجدية في حقل العلاقات الدولية، وهو الأمر الذي جعل المنظّرين التطبيقيّين على حدّ سواء يتعاملون مع كلّ مشكلة باعتبارها ذات أبعاد متعدّدة وليست ذات بعد واحد، حتى المشكلات التي يبرز فيها الدين في مقدم المشهد مثل الأزمة التي أثيرت بين العالم الإسلامي المحمدي والفاتيكان بعد تصريحات البابا السابق بنيديكت السادس عشر.
فقد تعامل بعض المفكرين مع هذه الأزمة باعتبارها تدخلاً في سياق أزمة مركّبة بين الإسلام المحمدي والغرب ولها أبعاد أخرى غير دينية، فقد أكدت التصريحات التي نسبت إلى البابا بنيديكت وردود فعل المسلمين المحمديين عليها، أننا سوف نظل نعيش في حلقة مفرغة من الصراع وسوء الفهم المتعمّد بين الغرب والإسلام المحمدي. وهذا الأمر يؤكد أنّ هناك أزمة محتقنة في علاقات الجانبين، وأنّ الطرفين لا يستطيعان أن يخفيا عداءهما للآخر كلما حانت لأحدهما الفرصة.
في ضوء هذه المشاهدات يمكن القول إنه إذا كانت نظرية صراع الحضارات أصبحت واقعاً معيشاً، وهناك الكثير من المؤشرات التي تؤكد ذلك، خصوصاً أن الأطراف المنتمية إلى الحضارات الثماني الكبرى فيها من يعملون على تفعيل هذه النظرية مدفوعين بمصالح ضيقة، إلا أنّ الحقبة التي نعيشها حالياً ومنذ نهاية الحرب الباردة وتحوّل المجتمعات من الحداثة إلى ما بعدها، أفرزت تطورات متعدّدة على رأسها حضور الدين كعامل مركزي في معظم التفاعلات الإنسانية، وعلى رأسها بالطبع العلاقات الدولية، الأمر الذي جعل الفاعلين الدوليين التقليديين، أيّ الدول والمنظمات الدولية الرسمية، يضعون هذا العامل نصب أعينهم وهم يخططون لسياساتهم الخارجية.