جهادستان والحدود الجديدة

عامر نعيم الياس

بث تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام أول من أمس، تسجيلاً مصوّراً على يوتيوب يبشر فيه أنصاره بفتح طريق ترابية تربط سورية بالعراق، وذلك بعد استتباب سيطرة التنظيم على مدينة نينوى وعلى بعض القطاعات في محافظتي صلاح الدين وكركوك المتجاورتين، وسط تضارب في الأنباء حول مدينة تكريت 160 كم شمال العاصمة بغداد والغموض الذي يكتنف مجريات الهجوم الذي يشنّه التنظيم على سامراء، خصوصاً أنّ الصحافة كانت قد تحدثت في بداية الأسبوع الجاري عن إحباط القوات العراقية هجوماً لداعش على مدينة سامراء التي يوجد فيها مرقد الإمامين العسكريين اللذين كانا هدفاً لتفجير عام 2006 أدى إلى دخول العراق في حرب أهلية دموية ساهمت هي الأخرى وما تلاها من ممارسات من يعتبر نفسه منتصراً في نوع كهذا من الحروب، في خلق النواة الشعبية الصلبة التي يمثلها داعش اليوم، والتي دعا الناطق باسمها أبي محمد العدناني أنصاره إلى «الزحف إلى بغداد»، فما الذي يجري في العراق؟ هل نحن أمام انكفاء مقصود للجيش والأمن العراقيين عن بعض المناطق لأسباب تتعلق بالمشهد السياسي الداخلي في العراق والصراعات القائمة بعد الانتخابات العراقية بين الكتل السياسية؟ أم أننا أمام لحظة الحقيقة التي تتبلور في المنطقة منذ 11 عاماً، أي منذ الاحتلال الأميركي لبغداد عام 2003؟

لا يبدو الاحتمال الأول الخاص باللعبة السياسية وتكتيك حافة الهاوية الذي يتّبعه المالكي لوضع الأمور في الداخل العراقي في نصابها، وارداً إلى حدّ كبير، فعوامل وشكل ومضمون الاجتياح الداعشي والحيثيات المرافقة لهذا الاجتياح، تجعل من احتمالات إدارة اللعبة السياسية من قبل المالكي غير مكتملة إلى حدٍّ كبير، لكنه يبقى احتمالاً وارداً ولو من باب ركوب موجة الأحداث ومحاولة توجيهها بما يضمن أموراً عدة أهمها: وحدة المكونات السياسية الحاكمة في العراق وضمان الالتفاف حول الحكومة العراقية بشكلها الحالي هذا من جهة، ومن جهة أخرى دفع الولايات المتحدة وحلف الأطلسي والمجموعة الدولية لتحرك ملموس داخل العراق إلى جانب الحكومة العراقية، وعند هذه النقطة نقلت صحيفة وول ستريت جورنال عن مسؤول أميركي قوله: «إن إدارة الرئيس أوباما تدرس خيارات عدة من بينها توجيه ضربات بطائرات أميركية من دون طيار على أهداف محددة».

الاحتمال الأقرب للواقع يمكن تلخيصه بعبارة واحدة وهي «دولة بريمر» نحن اليوم أمام خلاصة مباشرة لدستور بريمر في بلد رُكّب على الطريقة اللبنانية لكن بصياغة أسوأ وطوائف وقوميات أكثر قوة واستقلالية وموقع جيوسياسي وثروات نفطية تجعل من تمزيقه وضرب كيانه أمنية ومجالاً للتنافس بين القوى الإقليمية والدولية كافة المتربصة ببلاد الرافدين. عام 2003 حلّ الحاكم المدني للعراق بول بريمر الجيش العراقي وطرح دستور للتداول يسمى باسم الحاكم الأميركي، وعلى رغم التعديلات الطفيفة عليه، إلا أن الأمر انقضى. فبعد كردستان والخلافات التي شهدناها طيلة السنوات الماضية بين مايتسمى الحكومة المركزية وحكومة الإقليم الذي يصدّر نفطه ويموّل جيشه وينتخب برلمانه وله حصة منصب رئيس الجمهورية العراقية بحجة المشاركة، وبعد مشاريع الأقاليم في جنوب العراق ووسطه وغربه المقترحة من الكتل والأحزاب السياسية وليدة «الديمقراطية الأميركية بعد إسقاط الديكتاتور العراقي والديكتاتورية البعثية»، بعد كل هذا حضرت اليوم «جهادستان» الدولة الإسلامية العابرة للحدود والمعيدة لصياغتها وتركيبها وفق عوامل يتداخل فيها النفطي المالي بالمذهبي العشائري لتكون دولة الطائفة جارة لدولة القومية ودولة الاحتلال والفصل العنصري ولتنسف وحدة أراضي أعظم مكونين حضاريين في العالم بلاد الشام وبلاد الرافدين. من شمال شرقي سورية إلى شمال غربي العراق ووسطه تمتد دولة جهادستان على مساحة واسعة من الأراضي، فالقاعدة الجديدة بقيادة أبي بكر البغدادي تحاول تأمين عمق جغرافي وخلق دولة محاكيةً تجربة القاعدة القديمة تحت حكم طالبان في أفغانستان، وهنا تقول «لوموند» الفرنسية: «حتى القاعدة في أفغانستان تحت حكم طالبان لم تكن مسيطرةً على هذه المساحة الشاسعة والمترابطة من الأراضي. لقد تجاوزت داعش القاعدة في امتلاكها الوسائل العسكرية ومدى التغطية النارية، كما تجاوزتها في التمويل».

إنه تعديل لخريطة المنطقة الديموغرافية والجيوسياسية وصولاً إلى الخريطة النفطية، فبنظرة سريعة إلى أماكن سيطرة داعش اليوم يمكننا الاستنتاج أننا أمام سيطرة على المنطقة النفطية في العراق وسورية، كما أننا أمام دولة الجهاد على حدود أوروبا تمهيداً لمرحلة أخرى متقدمة من الجهاد الداعشي، فأوروبا ليست بمنأى عن تنظيم داعش الذي يقاتل في صفوفه مئات بل آلاف من الشباب الأوروبي المسلم الذي سيأتي يوماً ليقاتل في أوروبا بعد سورية.

نحن أمام فوضى استراتيجية لا مثيل لها على الإطلاق، وتبسيطها أو حصرها في إطار واحد يساهم في تعقيد المشكلة وزيادة تقسيم المقسّم، فالأمة من دون الدخول في نسبها إن كانت عربية أو سورية أو أي شيء آخر، هذه الأمة سقطت في فخ تاريخي قذر أساسه مخطط استعماري، وأداته غياب تعريف الهوية الوطنية، وهنا تختتم لوموند قائلةً: «في عام 2003 وتحت يافطة الحرب على الإرهاب اجتاحت الولايات المتحدة العراق، واليوم وبعد 11 عاماً، وعلى ركام الاجتياح المجنون، انتصرالجهاديون في العراق، خاتمة نهائية وكارثية للولايات المتحدة، ومأساة مستمرة بالنسبة للسوريين والعراقيين، وتهديد مقبل بالنسبة إلى أوروبا».

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى