الرواية العربية مجال خصب للتنظير
زهور كرام
عندما تنتعش الظاهرة الأدبية أو الفكرية بحيوية داخلية، وحركية في الخطاب، فيما يتعثر السؤال المعرفي في طريقه نحو الظاهرة، وينشغل بقضايا إما مستهلَكة، أو متجاوَزة، فإنه يعلن عن أزمته التاريخية. إن حيوية السؤال تعبير صريح عن يقظة الفكر، من خلال مرافقته للتحولات التي تعرفها الخطابات المعرفية والثقافية والأدبية.
غير أن السؤال الفكري والنقدي لا يخص فقط تسجيل ملاحظات عن خطاب التحولات في نظام الظاهرة، وتحديد الاختلافات في مسار الظاهرة، إنما السؤال المنتج تاريخياً هو الذي يشتغل على إنتاج وعي معرفي بالتحولات، في علاقة بالتحولات التاريخية. ذلك، لأن أي خطاب معرفي أو أدبي، وكيفما كان نوعه وخطابه، فإنه يبدأ تعبيراً فكرياً أو رمزياً عن الواقع، غير أنه ينتقل عند تحققه منتوجاً معرفياً إلى وسيط للوعي بالتحولات التاريخية والاجتماعية التي يعرفها الواقع وتعيشها المجتمعات. إذ، كيف يمكن الحديث عن إمكانية إدراك ثقافة الأدب في التنمية، واعتبار الأدب بكل تجلياته التعبيرية مدخلاً ضرورياً للوعي بواقع التحولات المجتمعية والتاريخية من جهة، واعتباره وسيطاً لتطوير الوعي من جهة ثانية، إذا بقي السؤال المعرفي ثابتاً، جامداً، لاً يملك القدرة على تجديد أدواته ومنهجه من أجل تدبير الطريق نحو التحولات التي تعرفها الظاهرة المعرفية والأدبية. ما يدعونا إلى إعادة اقتراح التفكير في علاقة راهن الرواية العربية وعملية التفكير في مستجداتها، ليس فقط ما باتت تعبّر عنه تجارب روائية كثيرة، خصوصاً مع الأسماء الجديدة من أنظمة مختلفة في حكي المواضيع، وإعطائها أبعاداً مختلفة في الطرح، مثل الهوية والآخر والوطن، وهي قضايا تناولتها الرواية العربية منذ بدايات تشكلها، غير أن طرحها السردي ارتبط بمرجعيات فكرية وايديولوجية، جعلت الرؤية شبه موحدة في مختلف الروايات العربية، مع اختلافات بسيطة ذات علاقة بخصوصية سياقات هذه المواضيع، لم تؤثر في وحدة الرؤية. إن ما يدعو إلى تجديد العلاقة بالرواية العربية، يتمثل في تجديد التفكير نفسه في طريقة تدبيره التحليل والفهم. نركّز في هذا الصدد على القراءة باعتبارها تشكل أكثر العناصر تحولاً في الكتابة الروائية.
وعندما نؤكد على القراءة باعتبارها فعلاً متغيراً في الكتابة الراهنة، فنحن لا نقصد بالقراءة الفعل المستقل عن نظام الكتابة، أو العملية الإجرائية العادية التي ترافق فعل الكتابة، إنما نقصد بالقراءة ـ الكتابة. أي الانتباه إلى أهمية فاعلية القراءة في جعل الرواية تتحقق خطاباً منتجاً لوعي مختلف. لذا، فالنصوص الروائية التي تؤسس لهذا التحول، قد ترتبك في خطابها، وتتعثر في تحقيق مبتغاها، ثم، فقد لا تتمكن من الانتقال إلى وسيط معرفي ـ ثقافي للوعي بالتحولات التاريخية أولاً، كما قد لا تستطيع أن تقدم نفسها باعتبارها إمكانية سردية للتعريف بالجنس الروائي في شكله العربي الجديد، والذي ينتمي إلى شرط اللحظة التاريخية العربية، ويؤسس لنظامها، وذلك لأن القراءة ستظل مقيَدة بالمفهوم المتداول للقراءة والذي يعتمد الدلالات الجاهزة للمفاهيم، سواء تلك التي اعتُمدِت من النظريات النقدية الغربية، والتي شكّلت أرضية مرجعية لقراءة الرواية العربية، خصوصاً مع زمني التأسيس والتشكل، أو تلك المبنية على أسئلة ايديولوجية وثقافية، تنطلق من فرضيات علاقة الرواية بالمجتمع العربي، أو بالتراث التاريخي والسردي. كيف المجيء إلى الرواية العربية اليوم؟ إنه السؤال الذي تفرضه راهنية خطاب الرواية في التجارب العربية.
لا شك، أن الاقتراب من السؤال هو في حدّ ذاته اقتراب من طبيعة التفكير النقدي العربي، ومساءلة قدرته على مواجهة واقع الرواية العربية، بعيداً عن دعامات المرجعيات السابقة، قريباً من نبض التجارب الجديدة التي تحكي القضايا والمواضيع بخطابات مختلفة. لا يعني الاقتراب من نبض جديد الرواية العربية، التخلي عن مكتسبات نظرية الأدب، ومنها نظرية الرواية، أو التنازل عن أسئلة الخطاب النقدي السابقة، أو ولوج عوالم الرواية في وضعياتها الجديدة من دون سند فكري ـ نقدي، إنما كل تلك الاجتهادات والطروحات النظرية، والأدوات الإجرائية التي تم التعامل بها على مستوى الرواية العربية منذ بداية تأسيسها، أصبحت تشكل ذاكرة ثقافية ومعرفية، تمنح القارئ/الناقد خلفية فكرية بمسار الوعي بمفهوم الرواية، ولهذا فالسؤال عن تجاوزها غير وارد في هذا الصدد، لأنها انتقلت من الوسيط المنهجي ـ الفكري إلى الخلفية الثقافية لذاكرة النقد بشكل عام. إن ما نقصده تجديد النظرية الأدبية بمكتسبات التجارب الروائية الجديدة، والتي تتطلب إصغاء نقدياً لمعنى التحولات في نظام السرد الروائي العربي. ذلك، لأننا إذا كنا قد اعتمدنا منذ بداية تشكل الوعي النقدي الروائي العربي على خلفيات النظرية الغربية أو التراثية العربية، وإذا كانت تلك الخلفيات قد شكَلت حالة اطمئنان لدى التفكير النقدي الذي ظل يعود إلى الرواية العربية من هذين المنفذين، مع اجتهادات ساهمت في تشكيل الخطاب النقدي في التربة العربية، فإن التجربة الراهنة للكتابة الروائية العربية في نماذج كثيرة تقترح مدخلاً جديداً، ينطلق من داخل الكتابة، تأسيساً على وضعية النظام السردي، وتركيبة اللغة، ونوعية الملفوظات الاجتماعية التي باتت تحمل معها نبض الفئات والأفراد، وهو مدخل يقدّم أفقاً جديداً للوعي بالثقافة الروائية بالتربة العربية. فهل الفكر النقدي العربي على استعداد للتنازل عن حالة الاطمئنان للخلفيات السابقة؟ وهل بمقدوره إعادة النظر فيها، انسجاماً مع واقع التجارب الروائية العربية؟ وهل يستطيع أن يجدد أسئلته بكل جرأة فكرية، ويطور آليات اشتغاله، ويقترح أسئلة جديدة؟ هل يمكن للنقد أن يتجاوز التصور الاجتماعي والاقتصادي والفني السائد، والذي يدعم فكرة الاستهلاك، وينتج خطاباً ثقافياً مجاوراً لخطاب الاستهلاك، من شأن ذلك الجوار أن يحدث حالة اصطدام أو حوار، و يعيد التوازن إلى فلسفة الوجود.
تلك عيّنة من التساؤلات التي تتحول بدورها إلى خطوة منهجية لتحرير النقد من منطق الاستهلاك، ودعم خطواته نحو الرواية العربية بمنطق الإبداع، لا الاستهلاك.
ولعل من بين المظاهر التي يقترحها جديد خطاب الرواية في التجارب العربية المتنوعة والمتعددة، والتي لم تعد تحتكم إلى النموذج الواحد، أو تنتج النموذج نفسه، يمكن اقتراح البعض منها، للاشتغال بها، وتحليل وضعياتها، وعلاقة حضورها في الخطاب الروائي بالتحولات الذهنية والفكرية والتاريخية للمجتمعات والسياسات العربية. نذكر من بينها:
مظهر تعدد الرواية العربية، أو اعتبار الرواية العربية روايات. فبعد أن ألف النقد، ومعه القراءات الوعي بالرواية العربية في إطار مفهوم «الوحدة المنسجمة»، والذي أخرج نماذج روائية من تاريخ زمنها وشرط سياقها، وفرض عليها شرط «الانسجام»، ما جعل مختلف التجارب العربية في خانة واحدة، تشخّص السؤال نفسه، وتنطلق من المرجع/الواقع نفسه، الشيء الذي عطّل الانتباه في خصوصيات تجارب عدّة، كانت تعبّر منذ تأسيسها عن كونها تجيب/ تحاور عن أسئلة سياقية، وتقترح أخرى من داخل شرط سياقها، فإن النقد مطالب اليوم بإعادة النظر في مفهوم «الوحدة المنسجمة»، باعتماد واقع التجربة الروائية، والوعي بها كتنوع سياقي، من خلال التعامل مع مفهوم «التعدد والتنوع» من أجل إنتاج وعي بمفهوم لاحق «من التنوع إلى الشراكة». يسمح لنا هذا المفهوم بدمقرطة النقد في التجربة العربية.
أما المظهر الثاني، فإنه يتمثل في هذا الحضور النصّي للمؤلف، والذي أصبح لافتاً النظر في نصوص كثيرة.
بعد أن تعود النقد تحذيرات المؤلف التي كانت تقيد النص بإعلان مسبق عن كون العالم المحكي لا يمت بصلة إلى المؤلف، وهو إعلان كان يمثل لمجموعة من المفاهيم حول الخيال والواقع وعلاقة الكتابة الإبداعية بالواقع وموقع المؤلف من الواقع، نجد أن بعض المؤلفين يتجاوزون عتبة الإعلان، ويصرّحون بدخول ضميرهم المفرد المتكلم عنصراً سردياً داخل النص، من خلال حضور «أنا» المؤلف في المجال السردي ـ الروائي، ليس باعتباره ضميراً سيرذاتياً لحياة سابقة، إنما يستدعي ذاته من أجل إعادة الوعي بها، عبر حكي أفكارها، وسرد تصوراتها. فهل يمكن الحديث هنا، عن كون الرواية في التجارب العربية أصبحت في بعض تجلياتها الثقافية زمناً لإعادة قراءة حالة الوعي الفردي والجمعي؟ وهل المؤلف الروائي بدخوله في المجال السردي يتخلى عن سلطته السابقة، ويحوّل تلك السلطة إلى موضوع للمكاشفة؟ إنها أسئلة يفرضها واقع الروايات العربية التي تضع النقد العربي اليوم أمام سؤال التجديد.
ناقدة وروائية مغربية