سايكس ـ بيكو يمزّق من جديد! أيّ بلد ثانٍ بعد العراق؟

د. وفيق ابراهيم

تتعرّض بلدان الإقليم العربي لعملية تمزيق كبيرة قد تتعدّى هذه المرة ما فعله بالإقليم سيّئا الذكر سايكس وبيكو في الحرب العالمية الأولى… بجرّات قلمين أسّسا آنذاك لمعظم الدول الحالية من دون أي أبعاد تاريخية أو قومية أو جغرافية، وخلقا كيانات سياسية ضعيفة مهمتها الأساسية موالاة الغرب والاقتتال في ما بينها.

لا تختلف الأهداف الغربية الراهنة عن سابقاتها… المطلوب ولاء أعمى للغرب بكيانات أكثر ضعفاً تخدم استمرار القطب الأميركي وحيداً متربّعاً في العالم، وتدفع عنه الصعود الصيني والروسي والإيراني وربما الهندي والبرازيلي.

اللعبة إذن واحدة رغم أنوف من يرفضون نظرية المؤامرة ويتهكمون عليها… فالحوادث المتسارعة تسخر من هؤلاء الرافضين وتدعوهم إلى التحليل السليم والسويّ ليعرفوا أنّ أميركا لن تأتي بجيوشها وأساطيلها لتحتلّ العالم العربي. فعلتها مرة في العراق وندمت. لكنها أبقت أساطيلها في مياه البحرين المتوسط والأحمر والخليج، إلى جانب قواعد عسكرية بالعشرات تنتشر في شبه جزيرة العرب حتى مدخل بلاد الشام عند قلب مملكة الأردن الهاشمية. طبعاً من دون نسيان «إسرائيل» أكبر قاعدة أميركية في العالم وأقواها…

هذا جانب من الجيوبولتيك الأميركي. والجانب الآخر أنّ الأكاديميا الغربية من أميركا إلى أوروبا واليابان تعكف منذ 1945 تاريخ سيطرة الأمبراطورية الأميركية على العالم على دراسة مجتمعاتنا، مكوّناتها القبلية والطائفية والمذهبية والإثنية والجهوية، يدرسون كيف تتفرّق هذه المكوّنات وكيف تنفجّر؟ ومعيار التضامن في ما بينها، وما هي الخلافات الفقهية والتاريخية الموجودة والكامنة. والمؤسف أنّ الباحثين العرب الذين تعلّموا في جامعات الغرب هم الذين أنجزوا أبحاثاً عن مكوّنات بلدانهم من دون أن يعرفوا أنهم يضعون أدوات علميّة وثقافيّة خطيرة في أيدي المستعمرين.

السلاح الغربي الثالث هو وسائل الاتصال الجماهيري التي لا تعمل ببساطة الإعلام العربي الخطابي الطابع، إذ يعمل الإعلام الغربي منذ ثلاثة أرباع القرن على تدمير أجهزة المناعة الثقافية عند العرب على نحو تدريجي مبرمج. يقدمون الحياة المرحة السعيدة في الغرب مقابل الحياة المرهقة في بلاد العرب، وتظهر صورة نمطية للعربي تتكرّر في معظم إنتاج الإعلام والأفلام الخاصة بالشرق. فالعربي تاجر الجواري والقرصان الصحراوي ولص البوادي وقاتل الأطفال. وبالاستنتاج، يتبيّن أنّ الغرب عرف أنّ مناعة العربي سببها عاملان: الإسلام والعروبة. فقدمهما بشكل مضحك ومزرٍ إنّما بطريقة غير مباشرة كي لا يثير الريبة. فأصبح العربي في نظر العربي والغربي مثالاً للتخلّف، وصار الغرب رمزاً للتقدم والحياة المرفهة.

أفادت وسائل الاتصال الجماهيري السياسية من تحطيم أجهزة المناعة، وانتقلت إلى الجزء الثاني من المشروع، ألا وهو تدمير البنى الاجتماعية الداخلية، على الشكل الآتي: الدعم الغربي للأنظمة جعل الحكام يظنون أنهم محميّون إلى الأبد. لكن الغرب تركهم عند أول تظاهرة مصر وتونس وليبيا . ولأن المشروع الأميركي يريد عمقاً تدمير خط ـ سورية ـ العراق ـ إيران مع العودة إلى حزب الله في لبنان، وضع محطات الاتصال الجماهيري في خدمة هذا المشروع مئات أجهزة التلفزيون والإذاعة التي لا تتحدث إلا عن الخلافات الفقهية بين المسلمين، والدينية مع المسيحيين، والإثنية مع الأكراد والتركمان. فهذا المسجد أصيب لأنه شيعي، وذاك انهار لأنه سني، مع العويل والبكاء على مراقد الصحابة والأولياء وتضخيمها واستثارة الكرامة العربية باختلاق اعتداءات على النساء والشيوخ، متناسين أنّ هناك منذ سنتين اثنين من المطارنة وعدداً من الكهنة، مختطفين لدى عصابات الإرهابيين التكفيريين، ولا يسأل عنهم أحد منذ اختطافهم.

ربطوا بين الفقر المستشري في المجتمعات العربية، والخلافات الفقهية بين فئات المسلمين، متجاهلين أنّ الأنظمة العربية التي تملك المال العام وتقدم معظمه إلى الشركات الغربية هي المسؤولة عن الفقر.

عندما نجح الجيش السوري وحلفاؤه في منع إسقاط سورية، وأثبت الشعب السوري أنه الحاضنة الفعلية لنظام الرئيس بشار الأسد وبكامل مكوّناته الاجتماعية والقومية، نقلت الخطة الأميركية لعبتها إلى العراق الذي كان يتعرّض دوماً لعمليات عنف كبيرة إنما لم تكن بخطورة ما يحصل اليوم.

هناك جهات دولية شجعت دولاً إقليمية وعربية على السماح لكل مشتقات القاعدة والمحسوبين عليها، موّلتهم وسلّحتهم وزوّدتهم وسائل انتقال كبيرة بكميات نوعية من الأسلحة بكمية قادرة على الفتك، بحسب التعبير الأميركي، وأباحت لهم حدودها من الأردن وتركيا لتدمير العراق والأموال من السعودية ونفط سورية المسروق.

ومن يراقب المناطق التي اجتاحتها «داعش» في العراق يُصاب بالذهول لكبر مساحتها عشرات ألوف الكيلومترات المربعة . سيطرت «داعش» على مناطق تعمّدت أن تكون سنية، في محاولة لإعلان خلافة في إقليم ذي غالبية سنية يتكوّن من الرقة وبعض النواحي الحدودية في سورية إلى الموصل ونينوى وصلاح الدين في العراق، وهذا يشجع أيضاً على إعلان دولة كردية في شمال العراق، فلا تبقى إلاّ المناطق ذات الغالبية الشيعية. وهكذا يصبح العراق ثلاث دول، قسم منها في سورية ويعود المشروع إلى سورية ولبنان واليمن والسودان ليقسّمها أقاليم أو دولاً على القواعد المذهبية والجهوية والإثنية والطائفية، فالمطلوب أميركيّاً أكبر عدد ممكن من أقاليم هزيلة أو دويلات فاشلة ترتبط عضوياً بالقطب الأميركي على المستوى الاقتصادي بيعاً للموارد واستهلاكاً للسلع، والسياسي الذي يقسم الناس إلى ديمقراطيين وغير ديمقراطيين، تماماً مثلما تفعل الأصولية التكفيرية التي تقسّم الناس بدورها بين مؤمنين وكفار.

تُرى أين ذهبت الانقسامات الاجتماعية الطبقية والوطنية؟ ألأنها ليست في مصلحة واشنطن هي مستبعدة عن معايير التمييز بين الناس. ومسلسل التهشيم الأميركي مستمر، ولن يتأخر في الوصول إلى شبه جزيرة العرب المراد تجزئتها إلى دويلات أصغر للإمساك بها أكثر… ومن يعتقد أنه من الناجين موهوم، فموسى القص والبتر الأميركّية جاهزة.

يروى أن حاكماً عربياً بعث برسالة إلى الرئيس الصيني يطلب منه الوقوف في وجه إيران وسورية، ويعده بفتح أبواب الشرق الأوسط أمام بلاده، ويقال إن الرئيس الصيني ضحك بسخرية وردّ على العربي بالقول: إنّ مفاتيح الشرق الأوسط كما أعرف ليست موجودة في الشرق الأوسط منذ نصف قرن على الأقل، فهلا عدنا إلى رشدنا لننقذ الإقليم العربي ولا إنقاذ إلاّ بإعادة شحن جهاز المناعة فيه المتكوّن من العروبة التقدمية والإسلام المعتدل.

اللهم إنّنا بلّغنا قبل فوات الأوان.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى