مضى مبدع التجريد واللون إلى بياض الصمت
غاب في السابع من الجاري الفنان التشكيلي والشاعر العراقيّ حمادي الهاشمي، المولود في قرية نزلة بني هاشم في مدينة العمارة، جنوب العراق، عام 1954، إثر نزيف طارئ في الدماغ أمضى بسببه ثلاثة أيام في مستشفى كينت في بلجيكا حيث كان يقيم منذ مطلع السبعينات. وكان الراحل أقام آخر معرض تشكيلي له في أبوظبي في 15 أيار الفائت.
لا يحتاج الفنان حمّادي الهاشمي، بحسب ما كتب عنه أحد أصدقائه، إلى ما يحرّكه أو يستفزّه ليرسم، ففي داخله قلق يكفي لملء مدينةٍ عربية بالوجوه ورؤوس الجياد وأجنحة الصقور الجارحة. ذلك أن هذا الفنان يكبّ على فرشاة يموج خزينها بمفردات ثقافية شرقية وغربية، وذات خبرة في تاريخ المدارس الفنية من كلاسيكية إلى آخر منجزات الفكر التشكيلي الراهن، فجمع من لوحاته حشوداً من صور الماضي، مع وقائع من الراهن، جمعا تحكمه حريّة المبدع وهو يُجري رؤاه في أرض الفن، حافراً فيها سيولاً تنهمر بصافي أحلام الإنسان في صراعه مع أزمنته وحاجاته وإكراهاته. ولعلنا واجدون صدى لهذه الحرية في ما ذهب إليه الراحل الهاشمي من أنه حين لا يستطيع الفنان أن يرسم وجه إنسان، من الصعب الاعتراف به كفنان حقيقي. هذه الإشكالية تلاحظ في الوطن العربي، لأنّ لدى فنانينا اضطراباً تشكيلياً بسبب نشأتهم الفنية القاصرة جداً، ما جعلهم غير ممتلكين حرية داخل أدمغتهم.
لعلّنا نلفي في مطلب الحرية، الذي يؤكّد الفنان الراحل واجب توافره لدى أيّ فنان تشكيلي عربيّ يروم حيازة مكان له في فضاء الإبداع والحياة والتاريخ عامّة، ثيمة تشكيلية أثيرة لدى حمادي الهاشمي، إذ نوّع من تجسيدها في لوحاته واختار لها من الأساليب الفنية ما ارتقى بها من حيز المنشود إلى حيّز الموجود في إنتاجاته التشكيلية والشعرية كلّها. ولا نخال حضور الخيل في لوحات الهاشمي إلاّ علامة على هذا التوق إلى الحريّة وصورة عن تجلّيه في واقع صار مكتظاً بصور الكبت والقهر والإخفاء.
مساء الأربعاء الفائت، شيّع جثمان الفقيد إلى مقبرة الفنانين، في سنت مارتنس لاتم في ضواحي مدينة خانت التابعة للإقليم، شرق فلاندرن في بلجيكا، بحضور حشود من أصدقائه ومحبّي فنّه.
لمناسبة إقامة الراحل حمادي الهاشمي معرضه الفني الأخير في أبوظبي، قدّم كاريل كاسيما، المؤرّخ الفني البلجيكي، شهادة حول هذا الفنان، جاء فيها: لأن مجموع الأجزاء نادراً ما يتوافق، لا يستطيع المرء أن يجمع بين ثقافتين. فعندما تلتقي ثقافتان ويتمثل فنان مبدع فذ ذلك تكون النتيجة خلق عالم جديد وفريد من نوعه. هذه حال حمّادي الهاشمي، فهو فنان متعدّد يرسم ويخطط ويجري أحاديث ممتعة ويمتلك روح السخرية الــــذاتية. فن حمّادي متعدّد الجانب أيضاً، فهو يستخدم براعته بطرائق فنية متعدّدة ويتناول موضوعات مختلفة ومتعدّدة اللون في لوحاته، لتنساب من قلمه وفرشاته أساليب متعدّدة، فجميع هذه العناصر تؤكد ما يملكه الفنان من جوانب إبداعية. فهو فنان يستطيع أن يتمثل ويستوعب العديد من التأثيرات المتباينة ويحوّلها إلى معين لا ينضب من صور وتعابير ذاتية.
تأثر الفنان حمّادي في رسم لوحاته الزيتية بأسلوب الرسم الغربي الكلاسيكي، ففي أعماله طبقات مختلفة ثقيلة وملساء. أما المنمنمات في لوحاته مع العناصر التصويرية واللفظية التي تشبه لوحات الأكريليك التي تُرسم على الورق فهي من تأثر الفنان بالزخارف على السجاد الشرقي. استطاع الفنان حمّادي أن يوظف الخط العربي التجريدي في الرسوم التخطيطية الملوّنة، والتجريدية البحتة حيث مكوّناً فيها البساطة وحركة الرمز اللتين تحدّدان القدرة التعبيرية للبنية والتركيب. كما أن حركة المنحنيات تولّد تراكيب من الخطوط الملتفة تصف البشر والخيل.
إن الخيول مصدر إلهام لا ينضب للفنان حمّادي، فقد رسمها في لوحات زيتية من القماش بمنتهى الدقة، منفردة أو مجتمعة وفي وضع الراحة أو أثناء الجري وبأسلوب كلاسيكي تجريدي وبألوان متعددة. فالفرس شاهد على قصص الحب الغامض بين الرجل والمرأة وبين حمّادي وحبه الضائع منذ زمن بعيد.
خطأ جسيم الاعتقاد أن حمّادي لا يملك إحساساً بعالم الواقع، فهو يعبّر عن التزامه الاجتماعي بشكل قوي جداً، في تراكيبه الثلاثية الأبعاد. فهي تعبّر عن القتل العشوائي والحرب والعنف وحجز الحرية. ولكي يعبر عن رؤيته بوضوح استخدم الفنان تراكيب تعبيرية واضحة، لكن مما يؤسف له أن حمادي أكثر الأحيان لا يكمل مشاريعه بسبب نقص الموارد المالية. هذه القطع الفنية تعتبر دليلاً يثبت أنه فنان مبدع وتبيّن أيضاً أنه حالم كبير في دنيا الخيال. فالتماثيل تعبر عن رؤية ناضحة وإحساس بعالم اليوم. كان حمّادي في صراع دائم لأجل البقاء، وأجبره ذلك على أن يكون واسع الحيلة. فعلى سبيل المثال كان اختياره المواد مرتبطاً بوضعه المالي. ورغم ظروفه الصعبة لم يتخلّ عن فنّه، ولم يستطع شيء أن يؤثر في قوته التصويرية والتعبيرية. وهذا يتجلى في علب الكبريت الصغيرة والمجموعات النفيسة تلك التي تعود إلى الأصدقاء والتي تكشف عن عالم كامل بذاته على شاكلة جزيرة الأقزام ليليبوت.
حمّادي رجل عالمي، أقام صلات وعلاقات في جميع أنحاء أوروبا وفي أنحاء واسعة من العالم العربي، من خلال جولاته ورحلاته. وتطوّرت هذه الصلات لتغدو صداقات دائمة في جميع الأوساط الاجتماعية. وهو يملك رؤية صريحة ونقدية حول العالم الذي يحيط به، ويدرك أن حرية الفكر والإبداع الفكري والفني هي الخير نحو الأمن والانطلاق. انهمك حمادي على الدوام بالإشكاليات التي تحيط بالمرأة. فالفن بالنسبة إليه تعبير عن الحياة. فهو لا يؤمن بمذهب «الفن للفن».
ممّا لا ريب فيه أنّ لدى حمادي صوراً بالغة التعبير عن التفاؤل الذي لا حدود له والذي رأينا له صوراً مختلفة جداً في المستقبل.
كاريل كاسيما، مؤرخ فني بلجيكي، كتب عن الفنان الغائب الهاشمي تحت عنوان «لا أريد له أن يصبح ذكرى» الآتي: «القبر لا ظلمة له ولا سلطة له عليه، إنه مستودع للمركبة التي كانت تقلّه ليكون هنا، لا غير. منذ أيام والهمسة في فمه حجر، وعيناه مسدلتان، كستارتين، هرباً من خصلات شعره الطويل كهمس في ثنايا ريح، وشفتاه مطبقتان كأخدودين على لسان سيصير طيناً ثم تراباً في بلاد الأراضي الخفيضة. قناع وجهه ملموم على نفسه كشمع صُبّ في قالب بارد. ثمة تجاعيد أو طرقات سيردمها الثرى بعد حين. تلك كانت صورته الأخيرة: صورة الفنان في غيبوبته الأبدية.
الآن ثمة فسحة لالتقاط الأنفاس. النوم عصيّ بعد يوم طويل تناوشنا فيه مستودع الجثث حيث يرقد بكامل قيافته، ليرمينا إلى طقس النظرة الأخيرة إليه والمعفّرة بدمع ينفخ الأجفان ولا يتساقط، ومن هناك يجرجرنا صوب شروح إدارة المستشفى المستفيضة حول مآل جثمانه، والغرق في لجج متعهد الدفن أو حفار القبور عن أنواع التوابيت وتصاميم بطاقات التعزية، والجوس على الأرض ذهاباً للاطلاع على مثواه الأخير في مقبرة الفنانين: المثوى الأخير لحمادي الذي لم أتحدث عنه من قبل بصفة الغائب والذي لن أتمكن من مناداته بصفة الحاضر بدءاً من أوّل أمس.
لا أريد له أن يصبح ذكرى من معهد فنون بغداد الجميلة في سبعينات القرن الماضي ولا 27 عاماً من حياة مشتركة في منفى لم ينته البتة حتى بالممات.
حزني العميق لي وهذه الكلمات ليست لي. لا صوت في رأسي سوى الضجيج الغامض للصمت، ولا صورة سوى تلك البثور الوردية على شفتيه اللتين تجهدان نفسيهما كي تبديا ابتسامة من دون أن تنجحا، فيرسم ابتسامته الأصل، ولا بشر سوى الواجمين حوله وفي محيطه طوال هذا اليوم: ابن عمه صالح الهاشمي وأصدقائه كريم إبراهيم، وكيم جنوب أفريقيا، وجواد الزلفي، ونوري الجراح، وأبو ساره، وليث الناصري، وماهر، وأنامي، وطلال كمال الدين، وهينك، وبيتر، وكنعان هل تراني نسيتُ أحداً؟ هل نسيتُ التي ربما كانت حتفه؟ أم تراها طافت في حلم يقظة، وجلست جوار المدخل إلى مثواه وشهقت بوجهه أن يرقص وقفزت بساقيها الطويلتين كمنارتين وجزمتها ذات دبيب المطر المرتطم بشباك لم يعد يأبه بالرذاذ.
هل تراني نسيتُ أحداً؟ أكيداً نسيت. نسيت من سبقوه إلى بياض الصمت وهجعة اللون الواحد اللانهائي. هل أطلب منه أن يذكرني بهم، وكيف؟».