لوحة سامي مشاري تزيح الأسطورة بإشارات معرفيّة
ينفتح الفنان التشكيلي العراقي سامي مشاري أكثر من باب للرؤية، وأكثر من سبب للسيرة الفنية، وأهم من ذلك، تنمو تجربته الفنية وتنضح بصبر وإصرار عجيبين. صبر وإصرار يتمثلان في إعادة الاشتغال على اللوحات المنجزة أكثر من مرة، كأن عملية الخلق تقبل على شكل «دورة عمل» تتكرر بين فترة وأخرى، حتى تصل إلى حالة اكتمال وإشباع لا تحتمل إضافة أخرى أو حذفاً آخر.
نرى العمل الواحد ثلاث مرات متعاقبة مختلفاً، ممتلئاً بطاقة جديدة وحوافز متحررة وعناصر موحية تستحق البقاء. يعاني مشاري في معظم أعماله صراعاً بين بنية المعنى مثلما تربى عليها ومارسها أيام الهياج الإعلامي وطغيان سلطة الإيديولوجيا على الفكر، واللوحة الحديثة كبنية جمالية بعيدة عن إسقاطات المعنى المشروطة وتبعاتها الاجتماعية، وسلطة الموضوع كشرط ضمني متعارف عليه ساحباً معه فكره ومرجعياته ومفرداته المرمزة، وفضاء اللوحة الذي يلعب فيه التصميم الحر، وتداول الإشارات، والأنساق الجمالية، وتعالق الأساليب الفنية كرسالة ثقافية.
يعمل الفنان سامي بدأب على كسر حضور الأشياء وهيمنة المعنى وإزاحة الأسطورة من منابتها التاريخية، لتبقى مفرداتها وإيحاءاتها إشارات معرفية. يقلب سيمياء الأشياء رأساً على عقب لتكون مكتفية بنفسها، بحضورها الفني لا التاريخي، وبدلالتها المعرفية والمكانية لا بسردها الأدبي.
تبدو رسالة الفنان سامي مشاري واضحة في فك الاشتباك بين الموضوع والمعنى من ناحية، والأنساق الجمالية للعمل الفني من ناحية أخرى، كي لا يطغى أحدهما على الآخر. وهو يستحضر مفرداته التشكيلية القديمة التي يحتاج إليها لتأطير عمله وتلوين بلاغته وإنشاء معماره الأسلوبي. لكنه يعمد إلى تغيير وظيفة هذه المفردات، وكبح تأثيرها، لتكون إشارة محايدة ضمن عمل كلي. والفنان مشاري ذو ولع بالفن الجداري مذ كان طالبا في معهد الفنون الجميلة في سبعينات القرن الماضي، وقبل ذلك أنجز ثلاث جداريات مع زملائه من فناني مدينة السماوة العراقية في تجربة جماعية عام 1974، ثم أنجز في الثمانينات جدارية ضخمة للجمعيات الفلاحية مع زميله عصام ديبس. لذا يجد الفنان راحته في العمل على المساحات الكبيرة، كما هي في معظم أعماله. هذه المساحة تعطيه قدراً من الحرية والمرونة في الاشتغال على المواضيع ذات المنافذ المتعددة، ثم ينهض في محاولات تالية على تجريدها وتفتيت حضورها وتحجيم تأثيرها النفسي على المشاهد وخلخلة معناها العام كي تتماثل مع الشكل في وحدة جمالية تصميمية.
لذا نجد في أعماله النهائية أن الموضوع تلاشى وإن بقيت هوامشه، وشحب المعنى وإن بقيت إلهاماته، وتحررت المفردات من إطارها البلاغي إلى فضائها الدلالي، وقفز اللون من مغزاه الطبيعي والرمزي إلى مداره التعبيري والتصميمي.
في أعماله كلها يأخذ «الخط» بزمام الأمور، ليفصل المساحات ويهندس الكتل، ويهندم المفردات والأشخاص، هذا الخط الذي يسير بخشونة حرفي، وعفوية طفل، لإحداث قفزة بين التجريد والتشخيص.
لا يخضع مشاري أعماله لتصميم صارم، أو أسلوب مسبق، فمجال الحرية في عملية الخلق، والعفوية في التصميم مفتوحان، وإعادة صقل العمل المنجز مراراً وتكراراً أزاح مشهدية الموضوع وسلطة المضمون، ليبقى العمل الفني يتحدث بنفسه، ويقدم صيرورته للمشاهد والحياة معاً. رغم كل هذا التجريد، وتجريف الموضوعات، تبقى أعمال الفنان سامي مشاري تنضح بالعاطفة والحس والمفارقات التشبيهية وبيئة المكان. وهذا كله يصنع لوحة تختلط فيها الأشياء والألوان والروائح، لوحة ذات مذاق محلي عراقي حد النخاع.