أنطون سعاده في المغترب القسري 1938 ـ 1947 شريط بانوراميّ عن أبرز ما حصل معه في قبرص وإيطاليا وألمانيا والبرازيل 1

لبيب ناصيف

كان الزعيم أنطون سعاده قد قرّر، بعد طرح فكرته على أعضاء المجلس الأعلى، القيام بجولة على عدد من بلدان المهجر، يتفقد فيها أحوال القوميين الاجتماعيين، وينشر دعوته القومية الاجتماعية في أوساط المهاجرين من أبناء شعبنا.

في 11 حزيران 1938، غادر سعاده بيروت متوجّهاً أولاً إلى دمشق، فعمّان، طبريا، وصولاً إلى حيفا بعد ظهر الثلاثاء 21 حزيران ليغادرها مساء اليوم التالي. تمكن خلال ذلك من أن يجتمع بمنفذها العام الرفيق كميل جدع مُنح لاحقاً رتبة الأمانة وبالقوميين الاجتماعيين، ثم استقلّ الباخرة إلى قبرص، حيث استقر فيها ما يزيد على الشهر، قبل أن يغادرها إلى أوروبا، فالبرازيل، ليستقر بعد ذلك في الأرجنتين في واقع من الاغتراب القسري بعد أن كانت السلطات الفرنسية قد أصدرت حكمها عليه بتاريخ 20 آب 1940، ونشوب الحرب العالمية الثانية، إلى حين تمكّنه من العودة إلى وطنه فيصل إليه في 2 آذار 1947.

عن تلك المرحلة، نعرض شريطاً لأبرز ما حصل في: قبرص، إيطاليا، ألمانيا، البرازيل والأرجنتين نقلاً عن مصادر عدّة.

في قبرص

ـ وصل سعاده إلى جزيرة قبرص في 22 حزيران 1938 فحلّ في فندق «Petit palais» في «Platres». ومنها راح يوجه رسائل إلى مسؤولين في المغتربات، وفي الوطن إلى المجلس الأعلى في بيروت، وإلى رئيسه الأمين فخري معلوف يشرح له فيها المهمات التي عليه القيام بها.

ـ تسنى لسعاده وهو في قبرص أن يطّلع على أحوال شعبها وعاداته، على تاريخها كما على جغرافيتها. فتولّدت لديه القناعة أنها قطعة من الوطن السوري، إلا أن ذلك لم يُعرف ويعمّم إلا بعد عودته إلى الوطن عام 1947، عندما ثبّت ذلك في المبدأ الأساسي الخامس 1 .

في توطئة الطبعة الرابعة من كتاب التعاليم، الصادرة في 18 أيلول 1947، يقول سعاده: « ولما كانت القضية قد أصبحت تقتضي اكتمال كلّيتها بسرعة كي لا تبقى أيّ ناحية من نواحيها ناقصة أو غير واضحة كلّ الوضوح، انتهزت سانحة إعادة طبع التعاليم المبادئ والشرح للمرة الرابعة لأنقّحها وأكملها على أساس الطبعة الثالثة المنقحة في الأرجنتين».

ومن المواضيع الأربعة التي يشملها التنقيح، يعرض سعاده في البند الثاني، التالي:

إكمال توضيح الحدود الشمالية الغربية التي تشمل جزيرة قبرص التي هي جزء من الأرض السورية.

ـ من الرسائل الموجّهة إلى رئيس المجلس الأعلى، تلك الصادرة بتاريخ 2/7/1938 وفيها يتحدث سعاده عن صلاحيات المجلس الأعلى، فيقول: «أوافق على اجتهاد المجلس في تعيين صلاحياته التطبيقية. أما الإبهام في المرجع التنفيذي الأعلى عندما لا يمكن الاتصال بالزعيم، فلا يمكن أن يكون هنالك ما يدعو إليه، لأن التنفيذ يكون تنفيذ سياسة وتنفيذ تشريع، وهو من صلاحية مجلس وكلاء العمد 2 ، ويكون من صلاحية المجلس الأعلى تقرير السياسة وتقرير التشريع واتخاذ التدابير اللازمة لمراقبة التنفيذ والتثبّت من صحته عملياً. أما إذا كان القصد من الإبهام في القرارات السياسية والتشريعية، فحين تعرض قضايا خطيرة مستعجلة لا تتمكن من انتظار الاتصال بالزعيم، فالمجلس الأعلى يتخذ صلاحية التقرير النهائي ويتحمل مسؤولية ذلك. وإني أعطي المجلس الأعلى صلاحية واسعة من هذا القبيل في كلّ الظروف التي لا يمكن معها انتظار الاتصال بي. وفي كل مقررات المجلس الأعلى يخضع المجلس للاتجاه السياسي ـ الإداري العام ولتوجيهات الزعيم ».

ـ قبل يوم من مغادرته قبرص في 28 تموز 1938 أصدر سعاده مرسوماً يقضي بأن يحيي الحزب بتاريخ 28 تموز من كل سنة «يوم المهاجر» تكريماً للمهاجرين السوريين المنتشرين في العالم 3 . إلا أن الأمين جبران جريج يفيد «أن المجلس الأعلى بدأ يعقد جلساته ويمارس الصلاحيات الممنوحة له من الزعيم، فكان القرار الأول الذي اتخذه، اعتبار تاريخ 28 تموز 1938 ذكرى يوم المهاجر وذلك تسجيلاً لمغادرة الزعيم أرض الوطن من قبرص في التاريخ المذكور للقيام برحلته الميمونة 4 ».

في إيطاليا

ـ انتقل سعاده من قبرص إلى إيطاليا في باخرة إيطالية أقلّته إلى مرفأ «أوستيا»، ومنه توجّه إلى روما وحلّ في أحد فنادقها. اتصل سعاده بالرفقاء أعضاء مفوضية روما المركزية، وكانوا طلاباً يدرسون في جامعات روما، وعقد معهم اجتماعات عدّة. كذلك اتصل بصديق قديم له يدعى ديتشكو، وهو أديب كان قد تعرّف إليه سعاده في البرازيل في زيارته الأولى إليها، فسهّل له الاتصال ببعض الصحف، منها مجلة «Omnibus» واسعة الانتشار فأدلى بأحاديث هامة إليها 5 .

ـ أثناء وجود سعاده في روما، حدثت أزمة تشيكوسلوفاكيا التي كادت من جرّائها أن تنشب الحرب العالمية الثانية، فرأى سعاده أن يمدّد إقامته في روما بانتظار ما ستؤول إليه الأزمة، حتى إذا نشبت الحرب عدل عن متابعة سفره إلى أميركا، وعاد إلى الوطن ليكون مع حزبه 6 .

ـ أمضى سعاده في روما شهرَي آب وأيلول وأكثر من نصف تشرين أول. أثناء ذلك وجه إلى المجلس الأعلى في الوطن رسالتين في 22 آب و29 آب ورسالة إلى الأمين فؤاد أبو عجرم وكان يتولى مسؤولية المعتمد المركزي في الولايات المتحدة في 30 أيلول أما رسالته الثانية إلى الأمين أبو عجرم فقد أرسلها سعاده من برلين بتاريخ 16 تشرين أول 1938 كما اغتنم فرصة إقامته في روما فزار مكتبة الفاتيكان ومتحفه وأماكن أثرية عدّة، وأغنى لغته الإيطالية التي كان قد مضت عليه سنوات من دون أن يتحدّث بها.

ألمانيا

عندما انقشعت غيوم الحرب بانعقاد «مؤتمر ميونيخ»، عزم سعاده على السير في الخطة المرسومة. فغادر روما إلى برلين ملبّياً دعوة مديرية الحزب لزيارتها وحضور احتفالها بمضيّ سنة على تأسيسها، فاستقبله الرفقاء بترحاب وأحلّوه ضيفاً في فندق «كايزر هوف».

يروي الأمين نواف حردان في كتابه «سعاده في المهجر» التالي: « في برلين، عقد سعاده اجتماعات عدّة لأعضاء المديرية، كما التقى أصدقاءهم فكان لتلك الاجتماعات والأحاديث أثر كبير في نمو العمل الحزبي في برلين. ما حدا بسعاده إلى توجيه المسؤولين في المديرية من أجل إصدار مجلة فصلية تحمل أفكار الحزب وتوزّع على الرفقاء والمواطنين. وقد تمّ هذا فعلاً بعد مغادرة سعاده برلين، وصدرت المجلة بِاسم الرسائل».

اكتشف الزعيم أثناء وجوده في برلين أن علاقة المدير بالسلطات الألمانية كانت من طرف واحد. أي أنها كانت تُستثمر لخدمة الجهة الأخرى. قبل ذلك كانت عمدة المالية قد تسلمت من مديرية برلين المستقلة أزراراً مصنوعة بإتقان تحمل رسم الزوبعة بالألوان الثلاثة، وتحمل في الوجه الخلفي اسم المدير «محمد مصون عابدين بك»، فطلبت منه العمدة أن يتوقف عن وضع اسمه على الأزرار، مبيّنة له الفردية في هذا التصرّف.

قبل أن يغادر سعاده برلين، أصدر مرسوماً بإقالة المدير محمد مصون عابدين بك وتعيين الرفيق سروري بارودي خلفاً له.

أثناء إقامته في برلين، شاء بعض المسؤولين في وزارة الخارجية ودائرة شؤون الشرق الأدنى الألمانيتين أن يتعرّفوا إلى سعاده ويبحثوا معه القضايا التي تهّم بلادنا. وهذا ما حصل، فأوضح لهم سعاده في المقابلة حقوق الأمة السورية ووحدتها وسيادتها التامة على أرضها وجميع مرافقها، كما شدّد على عدم قبول أيّ إرادة غير إرادة شعبها.

أجريت مقابلة أخرى مع فيلسوف المذهب النازي «روزنبرغ» أوضح فيها سعاده أفضلية النظرة القومية الاجتماعية على النظرات الجزئية.

مغادرة ألمانيا

غادر سعاده برلين بالقطار إلى مرفأ مدينة «بريمرهافن»، ومنها أقلّته إحدى البواخر المتجهة إلى دكار في السنغال، حيث كان الرفيق أسد الأشقر الأمين ـ رئيس الحزب لاحقاً ينتظره في مرفئها. لم يكن الرفيق أسد قد تمكن من الحصول على تأشيرة لمرافقة سعاده إلى البرازيل. لذلك، صعد إلى الباخرة التي كانت تقلّ الزعيم، وقد بقيت في مرفأ دكار نحو أربع ساعات. يفيد الأمين أسد في العدد 584 تاريخ 20/6/1987 من مجلة «البناء ـ صباح الخير»، أن سعاده قال له وهما يمشيان على ظهر الباخرة: «مررت بإيطاليا وألمانيا، واستطعت أن أطّلع على بعض ما يجري هناك، الجماعة مصمّمون على إشعال حرب عالمية كبيرة، يريدون أن يسيطروا على العالم. إيطاليا وألمانيا في تحالف مصيري نهائي. ألمانيا تنازلت لإيطاليا عن كل تدخل في حوض المتوسط، خصوصاً في سورية الطبيعية والعالم العربي. ولا شك أن انتصار هذين الحليفين سيجعل من سورية المقاطعة الرومانية الجديدة. فالخطر الكبير الذي يحدق بنا إذن، ليس من الاستعمار الفرنسي ـ البريطاني فحسب، بل من انتصار ألمانيا وإيطاليا في حرب آتية حتماً».

ويتابع: «الجماعة يستعدون بسرعة، ليفاجئوا فرنسا وبريطانيا وأميركا بحرب عالمية فاصلة، لن تقف إلا عندما يصبح العالم كلّه تحت سيطرة الدولتين المتحالفتين. و من الصعب علينا، كحزب ثوري أن نتمكن بالتحالف مع بعض فئات من الشعب، من أن نصير قوة مسلحة قادرة أن تلعب دوراً كبيراً في هذه الحرب، خصوصاً أن ما يشيع خصومنا وأعداؤنا عنّا، أننا نازيون وفاشيستيون، يخيف السلطة المحلية والاستعمارية المتسلطة على بلادنا، كما يخيف الشعب. والأفضل أن نتريّث ونقوم بنشاطنا الحزبي في المهاجر، إلى أن نرى ما سيجدّ في العالم بالنسبة إلى بلادنا».

سعاده في البرازيل

ـ في 30 تشرين الثاني 1938، وصلت الباخرة التي تقلّ سعاده إلى مرفأ ريو دي جانيرو، فوجد الرفيق جورج ددّه 7 في استقباله مع عدد من المواطنين. بقيت الباخرة يومين في ريو دي جانيرو، اجتمع سعاده أثناءهما بالرفيق دده، وزوّده بالتوجيهات والتعليمات الحزبية اللازمة لبدء العمل الحزبي، ثم تابعت الباخرة طريقها إلى مرفأ «سانتوس» في ولاية سان باولو، حيث كان جمهـور كبير من أبنـاء الجـالية السورية ينتظرونه.

ـ انتقل سعاده ومستقبلوه إلى مدينة سان باولو تبعد 64 كيلومتراً عن المرفأ حيث حلّ ضيفاً على الجالية في فندق «اسبلانادا»، وراح يستقبل الوافدين من أبناء الجالية للسلام عليه. وكان ذلك بداية تأسيس العمل الحزبي في سان باولو والبرازيل.

ـ بعد أسبوع تقريباً، وصل من أفريقيا الرفيق أسد الأشقر والأمين خالد أديب عبد الواحد من طرابلس . وبعد أيام قليلة أصدر سعاده مرسوماً عيّن بموجبه الرفيق أسد ناموساً له والأمين خالد ناموساً ثانياً. وبعد أن أقاما أسبوعاً في فندق «اسبلانادا» إلى جانب الزعيم، انتقلا إلى منزل واسع، فجعلاه مسكناً لهما ومكتباً للحزب، فيه راح سعاده يستقبل المراجعين والزائرين 8 .

ـ بدأ الحزب ينتشر، ليس في سان باولو وحدها، إنما في ولايات أخرى أبرزها «المثلث الميناوي» من ولاية «ميناس جيرايس»، بعدما كان أقسم الرفيق إبراهيم حبيب طنوس 9 ثم الرفيق وليام بحليس 10 .

ـ إلى جانب اهتمامه بنشر الدعوة القومية الاجتماعية في البرازيل وتوجيه الرفقاء الذين راحوا ينتمون بالعشرات، وتعميق فهمهم العقيدة والنظام، راح سعاده منذ أواخر كانون الثاني 1939 يهتم بموضوع إصدار جريدة تنطق بِاسم الحزب، إلى أن تمّ له ذلك في آذار، فصدرت «سورية الجديدة» 11 في الحادي عشر منه، أي بعد ثلاثة أشهر ونيّف من وصول سعاده إلى البرازيل.

هوامش

1 نواف حردان «سعاده في المهجر» ـ الجزء الثاني، ص 63.

2 كان سعاده قد حلّ مجلس العمد وأوكل إلى العمد مسؤوليات في المناطق الحزبية منفذ عام ، وشكّل مجلساً من وكلاء العمد، وعيّن الأمين عبد الله قبرصي رئيساً له. ثم ألغى القرار بموجب الرسالة الموجهة من قبرص بتاريخ 2 تموز 1938 إلى رئيس المجلس الأعلى.

3 «سعاده في المهجر»، الجزء الثاني، ص 63.

4 جبران جريج: «من الجعبة» الجزء الرابع ص277.

5 نواف حردان ـ المصدر السابق، ص 64.

6 يقول سعاده في خطابه في توكومان في 28/11/1943: «ولما حدثت أزمة تشيكوسلوفاكيا عام 1938، وكنت حينئذ في إيطاليا، وكاد يكون من ورائها نشوب الحرب في تلك السنة لولا مؤتمر ميونيخ، أرسلت كتاباً بالبريد الجوي إلى المنفذ العام للشاطئ الذهبي الرفيق أسد الأشقر الذي رافقني في ما بعد إلى هذه البلاد، أقول له فيها إنه إذا نشبت الحرب، فإني أعدل عن متابعة سفري إلى أميركا، وأعود إلى الوطن لأكون في المركز في هذه الحالة الحرجة».

7 جورج ددّه: كان يصدر جريدة «الإخلاص» في ريو دي جانيرو. تعرّف إلى سعاده عام 1924 بوساطة والد سعاده الدكتور خليل الذي كان يصدر مجلة «المجلة». يقول في حديث إن سعاده، عندما أبلغه الرفيق جورج عن رغبته في الانتماء إلى الحزب بعد مراسلات جرت بينهما، كتب له من سجن الرمل على إثر انكشاف أمر الحزب تمّ ذلك في 16/11/1935 طالباً منه أن يكتب القَسَم ويقف باحترام رافعاً يده اليمنى ويُقسِم بصوت عال. فنفّذ الأمر، وهكذا أصبح عضواً في الحزب. تولى في ما بعد مسؤولية مدير مديرية ريو دي جانيرو.

8 نواف حردان ـ «سعاده في المهجر» ـ الجزء الثاني، ص 76.

9 ابراهيم حبيب طنوس: من بلدة دير دلوم ـ عكار، ولد عام 1904، غادر إلى البرازيل أواخر عام 1925 وانتمى عام 1938 على يدي ناموسَي سعاده آنذاك الرفيق أسد الأشقر والأمين خالد أديب بعدما كان سمع من سعاده شروحاته عن مبادئ الحزب الأساسية والإصلاحية. استقر في بلدة «أراشا» ولاية ميناس جيرايس ومنحه مجلسها البلدي شهادة «مواطن شرف»، توفّي عام 1990.

10 وليم بحليس: من بلدة منيارة ـ عكار، انتمى بعد الرفيق إبراهيم حبيب طنوس، تولّى في البرازيل مسؤولية منفذها العام فترة طويلة، كما مُنح رتبة الأمانة. كان يتمتع بشخصية قوية، وبوعي حزبي عقائدي متقدّم، وافته المنية عام 1955 وهو في التاسعة والأربعين من عمره.

أفادنا الأمين ربيع الدبس أنّ الشاعر الكبير عمر أبو ريشة، الذي كان سفيراً للجمهورية العربية السورية في دول عدّة منها البرازيل، قال له: «إن وليم بحليس من أرقى القوميين الاجتماعيين الذين تعرّفت إليهم في حياتي».

11 اقتراح الاسم «سورية الجديدة» يعود إلى الرفيق جورج بندقي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى