فلافل الشام ولا عسل الغربة…
الأمين سمير رفعت
بادرتني وهي تهمّ بدخول الغرفة قائلة: بارك لي، لقد استطعت أن أُهرّب ابني من وجه العسكرية. وهو الآن قد وصل إلى ألمانيا وأجروا له فحوصاً طبية عدة ليتأكدوا من خلوّه من الأمراض السورية.
أكملت حديثها بفرح تامّ وهي تريني صورته على هاتفها المحمول: انظر إلى وجهه كيف أصبح نضراً، إنهم يطعمونه كلّ صباح الزبدة مع المربّيات وأنواعاً عدّة من الأجبان التي كنا نسمع بها، تصوّر إنهم يضعون له مع كلّ وجبة كمية من العسل… أما على الغداء فيقدّمون له أنواعاً من السمك واللحوم… ولم تصل لائحة الطعام إلى وجبة العشاء فقد اكتفت بوجبتي الصباح والظهر…
لم أستطع أن أعلّق بكلمة واحدة على حديثها الصباحي هذا، حفاظاً على شعورها وعلى ما تبقّى لديها من مكانة للوطن الذي أصبح يعادل وجبة غداء، وعادت بي ذاكرتي الى أماكن تجمّع هؤلاء الشبان أمام باصاتهم في الصباح الباكر. مركز تجمّع في المزة أمام فندق الجلاء، وآخر أمام حديقة تشرين، وثالث في ساحة جورج خوري. وكنت أراهم وأنا في طريقي باكراً إلى عملي في مجلس الشعب السوري. مئات من شبان بلادي، أشبالنا الذين دفعنا دمنا ودمعات عيوننا لكي نراهم يكبرون ويدافعون عن التراب السوري. عن الكرامة السورية… هؤلاء لا يغادرونه إلى المنافي من أجل لحسة عسل ولقمة سمك مجلد، يقفون بالطوابير أمام فندق الجلاء في المزة – الجلاء الذي دفع السوريون كل ما يملكونه لنواله… وأمام حديقة تشرين، وتشرين تيمناً بتشرين التصحيح وتشرين التحرير… وتشرين التأسيس. وأذكر في تلك اللحظة أني رأيتهم يقفون وقفة ذلّ على حدود سايكس ـ بيكو بين الشام ولبنان، لينقلوا بعدها إلى سلطنة أردوغان ومنها إلى الدول التي ساهمت وما زالت بكلّ ما جلب هذا الويل على أمتي منذ سايكس ـ بيكو وبلفور وهمفر وبوش والحبل عالجرار. وما زالوا يُعمِلون سكاكينهم في تمزيق الخريطة وتمزيق الإنسانية، ولم أستطع أبداً أن أمحو من ذاكرتي الحديثة جداً صور المهاجرين وهم يقطعون الحدود الأوروبية مشياً أو زحفاً أو غرقاً، بينما السلطات التي ساهمت ولا تزال في تأجيج النار السورية ترمي لهم الطعام كما يرمى لقطيع من الحيوانات أو الكلاب.
لم أستطع أن أكمل حديث السيدة التي تتباهى بتهريب ابنها من وجه الوطن، من وجه خدمة العلم، فغادرت الغرفة إلى حيث الأصالة السورية، إلى حيث عبق التاريخ في حارات دمشق القديمة إلى سوق ساروجه الذي كانوا يسمّونه قديماً اسطنبول دمشق، لأنه كان يحوي أعرق العائلات الدمشقية، وشدّتني رائحة الفلافل المقلية بالزيت السوري، ووجدت نفسي أقف أمام البائع طالباً رغيفاً من الفلافل مع توابعه، أخذته ودفعت ثمنه مئة ليرة سورية… مئة ليرة فقط. ورحت ألتهم هذا الرغيف بشغف كبير وعزة أكبر وأنا أتمشى في أزقة سوق ساروجه أحيّي هذا وأصبّح ذاك… التهمت الرغيف وأنا أردّد مع الراحل عبد الرحمن آل رشي تهليلته: أنا سوري آه يا نيالي…
وللمصادفة عند ظهر ذاك النهار كنت على موعد مع حفل تكريم عالم الآثار الكبير الدكتور خالد الأسعد مدير متحف تدمر الذي علقته عصابات أردوغان وحاكم قطر وزبانية خادم الحرمين الشريفين وسايكس ـ بيكو وكلّ أمراء النفط والغاز و»داعش» و»النصرة» و»القاعدة»، هؤلاء جميعاً ساهموا في تعليق مشنقة الدكتور خالد الأسعد على أحد أعمدة تدمر العظيمة على مرأى ومسمع من زنوبيا المكبّلة اليدين. إنهم بذلك لم يقتلوا خالد الأسعد، بل حاولوا قتل التاريخ السوري كرمى لعيني من لا تاريخ لهم… متاحف إسبانيا وإيطاليا نكست أعلامها حزناً عليه.
ذهبت إلى مكتبة الأسد الوطنية تلبية لدعوة كريمة من السيدة الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية، وهناك شاهدت المئات جاؤوا يذرفون دمعة حزن على الراحل وعلى ما يمثل في التاريخ السوري… على معبد بعل وعلى المدافن التي فعلت معاول الحقد فعلها بها.
وحين قامت الدكتورة العطار بإلقاء كلمتها الرائعة والتي كالعادة تمثل وجدان سورية وعزتها، وقلدت عائلة الراحل وسام الاستحقاق الممنوح من السيد الرئيس بشار الأسد. هناك ومع بعض دموع أهل الفقيد رأيت صمود سورية ولمست وقفات عزّ شعبها في ابتسامات التفاؤل التي لا تفارق محيا المسؤولين السوريين الذين حضروا حفل التكريم بدءاً برئيس مجلس الشعب محمد جهاد اللحام ووزراء الثقافة والسياحة والتعليم العالي… وغيرهم وانتهاء بآخر شخص من حضور حفل التكريم.
هذا المشهد أشاح من ذاكرتي صورة الشاب المهاجر الذي امتلأ وجهه نضارة من وجبات الزبدة والعسل والسمك في معسكرات الذلّ، ولم يبق منه إلا صورة أهل الراحل خالد الأسعد يتسلمون وسامه بعزة ما بعدها عزة، ورائحة فلافل الصباح المقلية بالزيت السوري، والتي ملأت معدتي حتى آخر النهار… وتهليلة عبد الرحمن آل رشي: أنا سوري آه يا نيالي.
المستشار الإعلامي في مجلس الشعب السوري