«أصابت إمرأة وأخطأ عمر»
د. سلوى خليل الأمين
هل فعلاً ما يجري في الساحات في لبنان هو نتيجة حتمية للعبة الأمم التي تتحرّك يمنياً وشمالاً في محيطنا العربي زارعة الفوضى الخلاقة أينما استطاعت إلى ذلك مقراً ومستقراً؟ وهل تحركات الشباب في الساحات اعتراضاً على نفايات تجمّعت قرب البيوت حاملة الأمراض والروائح الكريهة مدعاة إلى التشدّد في القمع والاستكبار والاستهزاء؟ وهل صرخة الناس الجماعية ونزولهم إلى الساحات بعد أن فتحت أمامهم المسارب والممرات، وأزيلت عوامل الخوف والمعوقات النفسية، لا تستدعي التفكير بجدية بترك الخلافات السياسية جانباً وطرح المسائل المعيشية على بساط البحث، توصلاً إلى تأمين ما هو ضروري أولاً، ومماشاة غضبة الناس التي تتفاعل صعداً يوماً بعد يوم ثانياً، وكلّ يشكو بلواه، وكلّ يناشد المسؤول التنحّي، وكلّ يطالب بتأمين رفع النفايات عن طريق إعطاء البلديات أموالها المستحقة وتلزيمها قضية النفايات ورفعها وتدويرها بالطرق التكنولوجية الحديثة، حتى إنْ أخفقت يكون لكلّ حادث حديث، علماً أنّ بعض البلديات كزحلة وبعلبك وخربة سلم والنبطية قد باشرت بلدياتها بالعمل على معالجة قضية النفايات بطرق سليمة ومنتجة.
هذا يستدعي التشجيع من المسؤولين السياسيين والتحرك الإيجابي المنتج والفعّال، بحيث لتاريخه ما زالت شركات الخصخصة والمصمصة تسيطر على الوضع العام عبر المسؤولين السياسيين، علماً أنّ هؤلاء يبغون الربح المضاعف الداخل إلى جيوبهم، والقضاء على جماعة «أبو رخوصة»، أيّ الشعب المكافح المناضل في سبيل كرامة العيش في وطن يحمل هويته، وينتسب إليه على اللوائح الانتخابية التي تصدرها وزارة الداخلية، مدرجة كلّ أبناء الوطن عليها دون تمييز بين غني أو فقير، لأنّ الجميع سواسية أمام القانون وخصوصاً في العملية الانتخابية التي يتمّ من خلالها اختيار ممثلي الشعب.
من هنا يلاحظ المراقبون في الداخل والخارج أنّ الأزمة شاملة وعامة، فمن يتجوّل في منطقة بعبدا مثلاً التي هي مركز رئاسة الجمهورية ووازرة الدفاع، ومركز محافظة وقضاء، ومحاكم متنوّعة، وسفارات متعدّدة وقس عليها باقي المناطق، يُصاب بالغثيان من منظر النفايات المشرورة على طرقات اليرزة التي لا تخصّ جماعة «أبو رخوصة»، والذي يفترض بمن يسكنها من علية القوم، أن ينزلوا إلى الشارع مع شباب الحراك المدني معترضين ورافعين الصوت ضدّ من غطسهم في أكوام الزبالة، التي تحاصر فيلاتهم وقصورهم أيضاً، لهذا فقبل الدفاع عمّا سُمّي خطأ بـ«الداون تاون»، وهي في الأساس وسط المدينة أو بالأحرى قلب العاصمة بيروت، التي كانت على مدى عصور وأزمان قبلة كلّ الناس من مواطنين وأجانب وأعراب على تنوّع أسواقها من شعبية وراقية وغيرها من تسميات، وقبل التهديد والوعيد من رئيس تجار بيروت نقولا الشماس الذي تغاضى عن أهمية العمليات الاقتصادية التي تحركها جماعة «أبو رخوصة»، ومنهم الطبقة الوسطى في البلد، لأنّ هؤلاء الناس لا يمكن أن تفتح لهم أسواق باريس وميلانو ولندن وأميركا للتسوّق والتبضّع واختيار أهمّ الماركات العالمية الموقّعة بخيوط الذهب، لأنهم أيضاً لا يملكون ثمن بطاقة السفر ولا تكاليف الإقامة في الفنادق الفخمة، لهذا تبدو بيروت في زمانهم وعهد تفكيرهم الأعرج باردة بل صامتة لا ضجيج مؤنساًَ فيها، ولا حياة لأنّ حركة البيع والشراء باهتة بل معدومة، والسبب أنّ من عاجلهم السيد شماس بممنوعاته الصارمة، حرم عليهم تنشق هواء ومحبة قلب بيروت التي حضنت كلّ أبناء الوطن في زمن ازدهارها وتبؤوها مرتبة ست الدنيا وعاصمة العواصم، لأنهم حرموا بيروت من أسواقها المتنوّعة يوم حوّلوها شركة مساهمة لأثرياء الغفلة في ليلة دهرية ليلاء.
ما هو المطلوب من أجل إنعاش الاقتصاد اللبناني الذي تمسكه فئة من اللبنانيين، استفادت من أزماته المتكرّرة، ومن ديونه المتراكمة، ومن خضوعها للمال الخليجي المتناثر عليها، ومن حالة الفساد والإفساد، لقاء مواقف تضرّ بالوطن والمواطن على حدّ سواء، دون الأخذ بعين الاعتبار أنّ الشعب اللبناني سيهزّ عروشها ومراتبها الاستثمارية القائمة على السلب والنهب والفساد.
المطلوب موقف مشرّف وجبار يأخذه عقلاء الوطن وحكماؤه الذين يعرفون جيداً قصة الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب حين اعتلى المنبر محدّثاً الناس زيادة في صداق النساء، فاعترضته إمرأة من قريش قائلة: يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربع مائة درهم؟ قال: نعم، فقالت/ أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال: وأيّ ذلك؟ فقالت: أما سمعت الله يقول في سورة النساء: «وآتيتم إحداهن قنطاراً…» الخ، فقال: اللهم غفرا، كلّ الناس أفقه من عمر، ثم رجع واعتلى المنبر قائلاً: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، لقد أصابت إمرأة وأخطأ عمر».
لهذا ليس من العار التراجع عن أخطاء حصلت خلال مسيرة طويلة تخللها الكثير من الإيجابيات الوطنية والقومية والعروبية، لكن الخطأ هو في المكابرة وعدم النظر إلى الحراك الشعبي بجدية، فإعادة هيكلة المسارات ضرورة وطنية وقومية، تبدأ من قلب العاصمة بيروت، بمعنى عودة بيروت إلى ماضيها الجميل، إلى تنوّع الأسواق التي تحرّك عجلة الاقتصاد كما حدث بالأمس في سوق «أبو رخوصة» في ساحة رياض الصلح حين علا الضجيج المحبّب الذي يجذب المواطن إلى التسوّق بأسعار رخيصة، لا ترهق ميزانيته وجيبه المرهق بفواتير الماء والكهرباء وأقساط المدارس وفواتير الاستشفاء، وساعتئذ لن يعلو صوت الاقتصاديين أمثال الشماس بإهانة أغلبية الشعب اللبناني، لأنّ الجيوب ستمتلئ مجدداً بالمال، لكن هذه المرة من جيوب جماعة «أبو رخوصة»، إذا عرفوا كيفية استثمار الحالة القائمة والغضب الساطع في كلّ مكان.
إنّ الولايات المتحدة الأميركية التي تعدّ الدولة الأولى في العالم في الاقتصاد الحرّ، استطاعت بسرعة النهوض من أزماتها الاقتصادية بفعل نظام الحسومات الدائمة الذي تعتمده في جميع متاجرها الكبرى، التي تحوي كلّ مستلزمات المواطن من ثياب وموبيليا وأدوات مطبخية وسجاد وخلافه وبضائع «سينييه» وذلك من أجل تفعيل عجلة الاقتصاد بشكل دائم، أما هنا في لبنان فالحياة الاقتصادية معطلة وتعتمد على بعض الزوار الخليجين الأثرياء أو من يشبههم من المغتربين اللبنانيين أو أثرياء الحرب، وهذا في نظر علماء الاقتصاد غير كاف لإنقاذ الوطن من التدهور الاقتصادي الحاصل، خصوصاً أنّ سلسلة الرتب والرواتب مجمّدة منذ أكثر من عشرين عاماً، ويجب ألا يغيب عن بالهم أنّ من يملأ جيوب الشعب يأمن شرّهم ويحصل على مزيد من نتاجهم ونشاطهم المثمر… فاتعظوا يا أولي الألباب، قبل خراب البصرة، ووقوع سقف البيت على كلّ ساكنيه. استوعبوا هذا الحراك الشبابي ولا تقمعوه، ولتكن جلسات حواركم من أجل وضع الخطط السريعة للإنقاذ، قبل أن يسبق السيف العذل، وتستمرّ النقمة ويتضخم الحقد وتعلو الضغينة وتتفاعل حالات الشغب إلى ما لا يحمد عقباه… والتاريخ يحمل العبر… استفيدوا واقرأوا… قبل الانهيار الكبير… ولات ساعة مندم.