تقرير
انشغل عدد من المحللين السياسيين في السنوات الماضية بالحديث عن تغييرٍ جذري في شكل النظام الدولي مع ضعف الهيمنة الأميركية على السياسة والاقتصاد العالميين، وصعود قوىً عالمية تنافسها على قدراتها ونفوذها.
تعدّ الصين إحدى أبرز هذه القوى، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي. فالصين أكبر مصدّر في العالم واقتصادها هو الأكبر عالمياً إذ أصبح في 2014 أول اقتصاد في التاريخ الحديث يتقدم على الاقتصاد الأميركي. ولا يخفي الصينيون سعيهم نحو تحويل النظام السياسي العالمي إلى نظام متعدد الأقطاب.
تحاول الصين إنهاء الهيمنة الاقتصادية التي يحظى بها كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المتهمين بموالاتهما للغرب، فأعلنت الصين أواخر السنة الماضية عن إنشاء «البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية»، وكانت أكثر من خمسين دولة قد شاركت في التوقيع على بنود الاتفاق ليصبحوا أعضاء في المنظمة ومنهم ألمانيا، فرنسا، المملكة المتحدة، روسيا، وإيران. وأبرز المعارضين لهذا المشروع الصيني هم الولايات المتحدة واليابان. فقد عبر الرئيس الأميركي باراك أوباما عن مخاوفه من أن تستخدم الصين المنظمة لخدمة مصالحها الاستراتيجية والسياسية بدلاً من النفع الاقتصادي.
لا تنحصر الإنجازات الصينية في المجال الاقتصادي فحسب ـ وإن كان المجال الأبرز ـ فقد كان للصين دورٌ كبير في نجاح المحاداث النووية الإيرانية وإتمام الاتفاق، خصوصاً في ما يتعلق بمفاعل «آراك» للماء الثقيل الذي كان يعتبر من قبل الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية قابلاً لإعداد الأسلحة النووية، فكانت الصين هي التي اقترحت تعديل المفاعل كما أنها ستشارك إيران، إضافة إلى الولايات المتحدة في عملية تعديله. وكانت الصين قد أدانت في الماضي العقوبات المفروضة على إيران من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما أنها لطالما رفضت عقوبات مجلس الأمن على إيران باستثناء القرار 1929 الذي صدر في 2010 .
ليس غريباً أن ترغب الصين بانتهاء الحظر المفروض على الجمهورية الإسلامية في إيران فرفع العقوبات سيزيد من آفاق التعاون بين البلدين في مختلف المجالات. على سبيل المثال، سيمكن رفع العقوبات إيران من الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون التي تضم مجموعةً من دول أوراسيا من ضمنها الصين وروسيا، والتي يعتبرها بعض المراقبين المنافس المستقبلي لحلف شمال الأطلسي. وللصين في إيران مصالح كثيرة تجعلها ترغب بالتقارب بين البلدين، يشكل الجانب الاقتصادي قطاع الطاقة بالتحديد أبرز هذه المصالح ولكنه ليس الوحيد. فللصين مصالح سياسية وأخرى أمنية في إيران، يتركز معظمها حول سعي الدولتين إلى وضع حدّ للهيمنة الغربية على السياسة والاقتصاد العالميين وإنهاء أحادية القطب الدولية.
تشكل إيران حليفاً استراتيجياً للصين بمواجهة زعامة الغرب الدولية، إذ إنّ كل منهما يرغب بنشوء نظامٍ عالمي متعدد الأقطاب يتيح لهما مساحةً أكبر للعب أدوارٍ مركزية في القضايا الإقليمية والعالمية. كما أن إيران من أبرز القوى الإقليمية وهي بوابة الصين للشرق الأوسط، فهي أقوى وأشرس معارض للنفوذ الأميركي في المنطقة.
وكان قد برز التوافق السياسي بين البلدين في الأعوام الماضية في ما يخص الأزمة السورية عندما وقفت الصين بجانب حلفاء النظام السوري واستخدمت حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن أربع مرات وعارضت أيّ تدخل عسكري لضرب قوات النظام داخل سورية.
لا يتوقف التوافق الصيني ـ الإيراني في السياسية الدولية على سورية فحسب، بل إن من الواضح أن تحالفاً إيرانياً ـ صينياً بدأ بالنشوء في أفغانستان حيث يشكل الدافع الأمني محركاً لكل من الصين وإيران، بسبب قرب أفغانستان الجغرافي لأقاليمهما. يتوقع المراقبون أن يزداد التنسيق الأمني والاستخباراتي بين البلدين مع انسحاب القوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي من أفغانستان في 2016 لمحاولة ضبط الوضع فيها. كما أن الصين تسعى لكي تكون لاعباً أساسياً في أفغانستان مابعد الانسحاب، ولا تستطيع أن تلعب هذا الدور من دون حركة «طالبان» التي تتلقى دعمها الحالي من إيران، وتبحث بكين عن مخرج سلمي للصراع الدائر في أفغانستان بين حكومة كابول وتنظيم «طالبان»، إذ إنها لعبت دوراً كبيراً في جلب جناحٍ من طالبان لطاولة المفاوضات في تموز الفائت.
وكان ظهور تنظيم «داعش» في أفغانستان منذ بضعة أشهر دافعاً لزيادة الرغبة بالتعاون بين البلدين، فنمو حركات إسلامية سنية أصولية يصعب السيطرة عليها قرب الحدود أمرٌ لا يقلق إيران وحدها، إنما يقلق الدولتين، إذ إن الصين تعاني من تنامي الحركات الجهادية لا سيما في مقاطعة سنجان ذات الغالبية المسلمة والمحاذية لأفغانستان، وكانت قد شهدت المقاطعة في السنوات الماضية عدداً من الأحداث الدامية التي أدّت إلى مقتل المئات. وتسعى الصين بتقرّبها من إيران وحركة «طالبان» أن تحثّ الحركة على مواجهة تمدد تنظيم «داعش» في أفغانستان.
أواخر 2014، رست سفينتان حربيتان تابعتان للصين في ميناء بندر عباس بهدف القيام بمناورات مشتركة بين البحريتين الصينية والإيرانية، وكانت هذه المرة الأولى في التاريخ الحديث، ترسو فيها سفينة حربية صينية في مياه الخليج، ما يشير إلى رغبة الصين بزيادة نفوذها في منطقة الخليج الذي لطالما كانت مركزاً للنفوذ الأميركي.
تمثل المصالح الاقتصادية المحرك الأساس لتقارب الصين من إيران، وتعتمد العلاقات الاقتصادية بين البلدين على التجارة وقطاع الطاقة بالدرجة الأولى، إضافة إلى دور الشركات الصينية في إنشاء البنى التحتية في الصين.
تعدّ الطاقة منذ سبعينات القرن الماضي أهم عامل للنمو الاقتصادي في الصين، بينما تمتلك إيران أكبر احتياطي غاز طبيعي في العالم، ورابع أكبر احتياطي نفط، ما يجعلها إحدى أبرز مصادر الطاقة في العالم. يعتبر قطاع الطاقة أساس العلاقات الصينية ـ الإيرانية، وهو أساس المصالح الصينية في إيران فالصين هي أكبر مشترٍ للنفط الإيراني، بينما إيران هي ثالث أكبر مصدر للنفط الخام لدى الصين. وتشير الإحصاءات إلى ازدياد إيرادات النفط الإيراني للصين في عامي 2014 و2015 إلى أعلى مستويات لها على الإطلاق، وكان حزيران الفائت قد شهد ازدياداً بـ29.6 في المئة عن الشهر الذي قبله، ما يعني ازدياد حاجة الصين إلى النفط الإيراني.
والصين أكبر مستثمر أجنبي في قطاع الطاقة الإيراني فهي تموّل عدداً من المشاريع المتعلقة بقطاع الطاقة، كما أن التعامل بين البلدين في مجال الغاز الطبيعي ينحصر ـ حتى الآن ـ باستثمارات الصين في المشاريع الإيرانية، ولكن من المتوقع أن تصبح الصين مستقبلاً من مستوردي الغاز الإيراني عبر خط الغاز الإيراني ـ الباكستاني الذي ستموّل الصين 85 في المئة مما تبقى من تكلفة إنشائه.
ولكن لا يمكننا اختصار مصالح الصين في مجال الطاقة بالمصالح المباشرة فإيران هي الدولة الوحيدة التي تسمح للصين بإمداد خطوط برية لنقل الطاقة من باقي دول الخليج، وتزداد حاجة الصين إلى الخطوط البرية خصوصاً مع التوتر السائد حول مضيقي هرمز وملقة اللذين يشكلان المعابر البحرية للطاقة التي تصل إلى الصين.
أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ منذ سنتين عن استراتيجية الصين الجديدة التي تعتمد إنشاء «طريق الحرير الجديد» الذي يربط منطقة أوراسيا اقتصادياً ويمكّن الصين من عملية التبادل التجاري عبر قارتي آسيا وأوروبا، ويشكل الخط الأنبوبي الإيراني ـ الباكستاني لنقل الغاز أحد المشاريع الأولية لهذه الخطة. وتلعب إيران دوراً محورياً لنجاح هذه الاستراتيجية بسبب جغرافيتها، ليس في مجال الطاقة فحسب، وإن كان شديد الأهمية، إنما لأهميتها التجارية بشكلٍ عام بالنسبة إلى الصين. وكانت التجارة بين البلدين قد ازدادت من بليوني دولار في 2001 إلى 50 بليون دولار في عام 2014، وتشكل التجارة مع الصين ثلث التجارة الأجنبية في إيران.
إضافة إلى التجارة، فإن الصين تلعب دوراً أساسياً بما يخصّ الاستثمار الأجنبي وإنشاء البنى التحتية في إيران، إذ تشير التقارير إلى استعانة إيران بالمهندسين والشركات الصينية في إنشاء أنظمة مواصلات وجسور وأنفاق، إضافة إلى السدود وغيرها من المشاريع المتعلقة بتوليد الطاقة وأخرى متعلقة بالنفط والغاز.
تملك الصين القدرات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية التي تستطيع أن تساهم في صعود إيران كإحدى أبرز القوى الإقليمية، بينما تشكل إيران مركزاً جذاباً للاستثمار الاقتصادي والسياسي بالنسبة إلى الصين، وهذا بدوره يعزّز من حالة النفور السياسي الإقليمي ومن حالة الاستقطاب الدولي. ولكن سياسات الصين التي سادت في العقود الماضية تعمدت الابتعاد عن المواجهات السياسية والتركيز على المصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى وللصين مصالح كثيرة مع الغرب، إذ إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أكبر شريكين اقتصاديين للصين، والمملكة العربية السعودية، المنافس الإقليمي الأكبر لإيران في المنطقة هي المصدر الأكبر للنفط الذي تستورده الصين. يمكننا بالتالي القول أنه إذا قررت الصين الاستمرار بأخذ مصالحها الاقتصادية قبل أي اعتبار آخر، فإنها لن تنجرّ وإيران إلى أيّ مواجهة أو صراع فعلي مع المحور المتشكل من الولايات المتحدة وحلفائها، إنما ستحاول لعب دور «المصلح السياسي» لتضمن نجاح خططها التجارية وصعودها الاقتصادي.