مَن فعلها في الموصل ولماذا؟
د. عصام نعمان
تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» داعش أكد وتباهى بأنه، بين ليلة وضحاها، أسقط الموصل واستولى عليها. صنع لنفسه مفاجأة ثم أهـداها لأعدائه. الهدية تكشّفت عن فضيحة. الجيش الذي صرفت عليه الحكومات المتعاقبة أكثر من 25 مليار دولار لتدريبه وتسليحه لم يصمد 25 ساعة خلال الهجمة على المدينة.
الهجمة تحوّلت اجتياحاً. خلال ساعات معدودات سيطر «داعش» على سائر أنحاء محافظ نينوى. تقدّم إلى تكريت، حاضرة محافظة صلاح الدين. هددت طلائعه كركوك، حاضرة محافظة التأميم، وتوعّد ناطق باسمه بغداد وكربلاء. أخيراً وليس آخراً، قام بجرف السواتر الحدودية بين محافظتي الموصل والأنبار العراقيتين ومحافظات الحسكة والرقة ودير الزور السورية. أليس مرتجى «داعش» تحقيق «الدولة الإسلامية في العراق والشام»؟
ظاهر الحال أشار إلى أن «داعش» كان وراء كل ما حدث. لكن سرعان ما تكشّفت الحقائق: ثمة إطار سياسي وقتالي أوسع يضم، إلى «داعش»، خليطاً من الضباط والرتباء القدامى في جيش صدام حسين، ومجموعات من البعثيين والقوميين وجيش النقشبندية الذي تردد أن قائده هو نائب صدام عزت ابراهيم الدوري، بالإضافة إلى تجمع العلماء المسلمين بقيادة الشيخ حارث الضاري.
هذا الخليط المتنوع كان أنشأ مجلساً عسكرياً لإدارة الصراع. يبدو أن قيادييه، تمكّنوا من استمالة وإقناع كبار ضباط الجيش العراقي في الموصل، بالعصبية المذهبية أو بالمال، بالتخلي عن مواقعهم وأسلحتهم الثقيلة ومغادرة المدينة. الأمر نفسه تكرر في كركوك إذ انسحبت وحدات الجيش في ما يشبه التواطؤ مع الجماعات «الجهادية» المهاجمة.
من الثابت أن انهيار الجيش العراقي مردّه، في الأساس إلى الفساد المستشري في صفوف أهل السلطة، ومنهم انتقلت العدوى إلى الجيش وجميع مرافق الدولة. إلى ذلك، رفضت الحكومات المتعاقبة إعادة آلاف الضباط المتهمين بالولاء لصدام.
ذلك أشاع مناخاً من الغضب والسخط في أوساط أهل السنّة والجماعة في المحافظات الشمالية وساعد «الجهاديين» عموماً على اجتياح المدن والبلدات من دون أن يلقوا مقاومة محسوسة. باختصار، أصبح الجيش كياناً فضفاضاً متهافتاً بلا رابطة وطنية ولا عقيدة قتالية ولا… قضية.
إلى أين من هنا، عسكرياً وسياسياً؟
عسكرياً، تتحدث مصادر معلومات قريبة من أطراف المجلس العسكري عن خطة متكاملة ترمي إلى السيطرة على مجمل محافظة نينوى، ومحافظة صلاح الدين، ومحافظة التأميم، وعلى ما تبقّى من محافظة الأنبار المترامية الأطراف وصولاً إلى محافظة ديالى، ومن ثم تطويق بغداد العاصمة. إلى ذلك، للمجموعات المنتمية إلى المجلس العسكري وجود وانتشار، علني أو سري، في جميع المحافظات المذكورة باستثناء بغداد التي باتت غالبيةُ سكانها من الشيعة. وليس من الغلو القول إن هذه المحافظات تشكّل جغرافياً أكثر من نصف مساحة العراق.
سياسياً، ثمة واقعات سابقة لهجمات «داعش» الأخيرة وتطورات لاحقة لها. من الثابت أن المجتمعات السنيّة في شمال العراق وغربه معارِضةٌ بصورة عامة للحكومة المركزية في بغداد منذ لحظة سيطرة القوات الاميركية الغازية على العاصمة عام 2003. غير أن جنوح بعض السياسيين وزعماء العشائر في المحافظات ذات الغالبية السنيّة إلى المشاركة في الحكومات التي أقامتها إدارة الاحتلال، أدى إلى نشوء ثلاث جماعات سياسية داخل المجتمعات السنيّة: الأولى متعاونة مع الاحتلال ومشاركة في السلطة. الثانية معارضة للاحتلال ومتعاونة مع سائر القوى الوطنية في مختلف المناطق والمجتمعات المعادية للاحتلال وللجماعات المنخرطة في سياسته وأنشطته. الثالثة إسلامية ومتحفظة حيال الفئتين الأولى والثانية.
يبدو أن مناخ الغضب والسخط السائد في المحافظات الشمالية وعدم تجاوب حكومة المالكي مع مطالبها والجنوح إلى تجاهلها وتهميشها أدى إلى حصول تقارب بين الفئتين الأولى والثالثة وإلى تنامي التنسيق بينهما.
من تلاقي قيادتي هاتين الفئتين نشأت قيادة عليا باسم «المجلس العسكري»، يتفرّع عنه مجالس معاوِنَة في أقضية المحافظات الشمالية والغربية.
ما مخطط الإطار التنظيمي المستجد للمعارضة العراقية المسلحة، وإلامَ يرمي في هجماته الأخيرة، وهل يندرج في مخطط أكبر له صلة أو صلات بدول كبرى ومتوسطة على الصعيدين العالمي والإقليمي؟
يميل فريق من المحللين السياسيين المتتبعين لمجريات المشهد العراقي إلى الترجيح بأن ما جرى ويجري في المحافظات ذات الغالبية السنيّة هو «خبطة» عسكرية نفذتها القوى السياسية السنيّة المشاركة في الحكومة المركزية نظرياً والمحرومة من السلطة والنفوذ والمنافع عملياً أسامة النجيفي وحلفاؤه بالتعاون مع قدامى الضباط من جيش صدام وقياديين من حزب البعث وأهل النظام البعثي السابق، هدفها ممارسة ضغط شديد على نوري المالكي وحلفائه في التحالف الشيعي العريض ابراهيم الجعفري ومقتدى الصدر وعمار الحكيم وعلى التكتل الكردي المتحالف معه لحمل الجميع على تقديم التنازلات الآتية:
منع المالكي نهائياً من الحصول على ولاية ثالثة في رئاسة الحكومة.
تأمين مرشح بديل لرئاسة الحكومة من التحالف الشيعي يكون مقبولاً من التكتلات السنيّة وملتزماً التعاون معها.
التوافق على صيغة جديدة متوازنة للحكم من شأنها تأمين مشاركة وازنة لأهل السّنة فيها وبالتالي إزالة «الغبن» اللاحق بهم.
التفاهم مع التكتلات الكردية في إقليم الحكم الذاتي على صيغة لتقاسم عائدات النفظ المستخرج من آبار الاقليم والمصدّر إلى الخارج عبر تركيا.
فريق آخر من المحللين السياسيين والإستراتيجيين لا يستبعد أن تكون الأهداف المار ذكرها في صدارة مخططي «الخبطة» الأخيرة ومنفذيها، لكنه يميل الى الاعتقاد بأنها، وإن تكن ممكنة وواردة في المدى القصير، لا تتعارض مع أغراض ومرامي أخرى تتوخاها سائر أطراف «المجلس العسكري» والقوى التي تقف وراءها. فقد استوقف خبراء هذا الفريق قيام «داعش»، غداة السيطرة على الموصل وتكريت، بنشر خريطة دولة الخلافة التي يطمح إلى بنائها، وهي تضم العراق وسورية ولبنان وفلسطين والأردن، إضافةً إلى الكويت. لذلك فإن السيطرة على محافظات شمال العراق وغربه، وربما على غيرها أيضاً، تشكّل مجرد مرحلة من مراحل عدة يتطلبها مشروع دولة الخلافة.
لا يستبعد خبراء آخرون أن تكون للولايات المتحدة يد في ما حدث وذلك للضغط على حليف قوي لإيران المالكي ورموز التحالف الشيعي في سياق المفاوضات الصعبة الجارية معها للتوصل إلى تسوية في شأن برنامجها النووي.
إلى ذلك، ثمة خبراء في الفريق نفسه كما في دوائر ديبلوماسبة غربية لا يستبعدون أن يكون لبعض الدول العربية والإسلامية المحافظة صلة تمويل وتسليح مع «داعش» في سياق سياستها الرامية إلى ضرب ما تسميه «الهلال الشيعي» في حلقته الوسطى، العراق، ما يؤدي إلى قطع تواصل إيران مع سائر أطرافه، ولا سيما سورية وحزب الله في لبنان.
كل هذه الترجيحات والاحتمالات واردة بدرجات متفاوتة من الواقعية. غير أنّ مباشرتها، ناهيك عن تحقيقها، يبقى مرهوناً بمخططات وسياسات أطراف أخرى مقتدرة ونافذة، أبرزها الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا والسعودية و…»إسرائيل».
وزير سابق