ماذا تعني ولماذا تقال ومن أين جاءت؟ «لا للأسد لكن لا مانع بدوره في المرحلة الانتقالية»!
ناصر قنديل
– منذ أيام متتالية تتكرّر على ألسنة وزراء خارجية دول كانت جزءاً عضوياً وفاعلاً في حلف الحرب على سورية، عبارة قوامها، «لا للأسد لكن لا مانع بدوره في المرحلة الانتقالية»، وقبل أيّ نقاش لمضمون ما يعنيه هذا التكرار ووظيفته في السياسة، نحتاج إلى تفكيك منطقي وسياسي لمعنى العبارة وموقعها في الحرب ومدى تعبيرها عن تحوّل له قيمة في سياقها وحدود هذا التحوّل، من جهة، ولماذا الآن وما هو الشيء الذي تغيّر ويستطيع تفسير صدور عبارة موحدة عن دول تتباعد في الجغرافيا والدور تجاه سورية من أستراليا إلى تركيا، من جهة أخرى.
– عندما نسمع الكلام عن المرحلة الانتقالية في سورية، نتذكر ورود العبارة في الإشارة إلى مضمون الحلّ السياسي الذي دعا إليه البيان المشترك لوزيري خارجية أميركا وروسيا جون كيري وسيرغي لافروف قبل ثلاث سنوات، والذي أكد على استبدال السعي إلى حلّ عسكري بين الحكومة والمعارضة بحلّ سياسي من ضمنه توحيد الجهود في الحرب على الإرهاب، ومضمونه يقوم على إصلاحات دستورية توافقية تحظى برضا الشعب السوري بموجب استفتائه عليها، وتجري على أساسها انتخابات نيابية ورئاسية، وبقي الحديث عن إدارة مرحلة الانتقال من الحلّ العسكري القائم على مواجهة فصائل المعارضة مع الجيش السوري، إلى مرحلة الانتخابات الدستورية، يكتنفها الغموض ويتفاوت فهمها دولياً وإقليمياً، ويتباين تفسير الفقرة الخاصة بها في بيان جنيف عن هيئة حكم انتقالي بين شريكي بيان جنيف الروسي والأميركي، وتتراوح المواقف بين معسكرين واضحين، معسكر تقوده واشنطن يقول إنّ المرحلة الانتقالية تبدأ بتنحّي الرئيس السوري بشار الأسد وخروجه من المعادلة السياسية لسورية كشرط لبدء الحلّ السياسي وصولاً إلى وضع سورية تحت الفصل السابع وتعليق العمل بالدستور السوري وتعيين هيئة بأسماء محدّدة من بعض رموز الحكم وبعض رموز المعارضة تتولى بقوة التفويض الدولي إدارة هذا الانتقال، ومعسكر مقابل يضمّ روسيا وإيران وآخرين يقوم على اعتبار مدخل الحلّ السياسي سلوك الطرق الدستورية، بقبول المعارضة التساكن مع المؤسسات الدستورية الحالية، وتغييرها من ضمن الآليات التي ينص عليها الدستور، فتتشكل حكومة وحدة وطنية من الموالاة والمعارضة تدير مع الرئيس السوري وفي ظلّ رئاسته الدستورية، الانتقال وتنتج تعديلات دستورية تعرض على الشعب لاستفتائه عليها، ويملأ السوريون مؤسّساتهم الدستورية عبر صناديق الاقتراع من خلال انتخابات نيابية ورئاسية وفقاً للدستور الجديد. ومرّت السنوات على الخلاف وتعطّل الحلّ السياسي عند هذه النقطة، وفشل جنيف وبقي التعطيل للحلّ قائماً حتى تاريخه لهذا السبب.
– مصدر قوة الموقف الدولي والإقليمي تجاه هذه النقطة، هو أنّ تجذّر الإرهاب في سورية التهم البنى المسلحة للمعارضة وفصائلها، وصار الحديث عن صراع مسلح بين حكومة ومعارضة تجاوزاً كاملاً للحقيقة، فوسائل الإعلام التي تستخدم هذا التوصيف، عندما تسرد تفصيلاً أسماء هذه الفصائل يتبيّن أنها «جبهة النصرة» التي تعلن أنها فرع تنظيم «القاعدة»، وحركة «أحرار الشام» التي وصفت الملا عمر بالقائد الملهم، و«القاعدة» والملا عمر مصنفان ضمن لوائح الأمم المتحدة للإرهاب، وصار التوافق السياسي بين الحكومة والعناوين السياسية للمعارضة له وظيفة واحدة وهي فتح الباب لقبول الدول المنخرطة في الحرب على سورية، بالتعاون في الحرب على الإرهاب وأداء موجباتها التي تنصّ عليها القرارات الدولية، لجهة وقف التسليح والتمويل وإغلاق الحدود أمام تدفق المسلحين، لحساب مجموعات معلوم أنها إرهابية ويصلها الإسناد والدعم بصفتها فصائل معارضة، وعندما يتمّ هذا الالتزام بوقف دعم هذه الفصائل الإرهابية سيكون النصر عليها متيسّراً، بما فيها «داعش» المتعيّش على خلفيته في تركيا وتمويله عبر تسهيلاتها لبيع النفط المنهوب وتحويلات المتبرّعين من دول الخليج.
– واضح إذن سرّ الاهتمام بالشروط التي يمكن الاتفاق عليها حول مفهوم المرحلة الانتقالية، بصفته إعلان فرصة لانطلاق عملية سياسية تبدأ بحوار، ينتج إما حكومة وحدة وطنية في ظلّ رئاسة الرئيس الأسد، وتليها تعديلات دستورية فانتخابات نيابية ورئاسية، أو حوار ينتج توجهاً لمجلس الأمن برضا ضمني من مكوناته ورفع الفيتو الروسي والصيني تمهيداً لاستصدار قرار يضع سورية تحت الفصل السابع ويعيّن لها بعد تعليق العمل بدستورها هيئة لتتولى إدارة الحكم والتهيئة للانتخابات النيابية والرئاسية، من دون أيّ دور للرئيس الأسد، والمعلوم أنّ كلّ من السياقين سيعني سورية مختلفة بعد نهاية المرحلة الانتقالية، والمعلوم هنا يعني معلوم لدى كلّ المتعاطين في الشأن السوري، ولذلك كان مفتاح الخلاف والاتفاق حول سورية هو كيف تكون المرحلة الانتقالية، فصيغة دستورية في ظلّ رئاسة الأسد تمثلها حكومة وحدة وطنية تعني فتح الباب لتشريع رئاسة الأسد اللاحقة لولايتين مضمونتين بإدراك الجميع، يعترف خصوم الأسد أنه سيفوز بها لدى أيّ احتكام لصناديق الاقتراع، ومعه تكريس لموقع سورية كدولة مستقلة حليفة لروسيا وإيران وحزب الله وضمن محور المقاومة، بينما الهيئة المعينة دولياً وفقاً للفصل السابع فتعني سورية من دون الأسد ومن دون الاستقلال وحليفاً للغرب والخليج.
– القتال لفرض مفهوم من المفهومين للمرحلة الانتقالية، كان يختصر المعركة على مستقبل سورية ما بعد المرحلة الانتقالية، لأنّ ما تريد كلّ الأطراف قوله عن ما بعد المرحلة الانتقالية كان يختصره قولها عن المرحلة الانتقالية، فالذين كانوا يقولون لا لدور للرئيس الأسد في المرحلة الانتقالية، كانوا يعلمون أنهم يقصدون لا دور أبداً للأسد ما بعدها، ولا استقلال ولا دستور ولا خيار مقاوم سيكون لها مكان في سورية التي يفتحون الطريق لولادتها، وإنهم يضمنون إذا نجحوا بفرض تصوّرهم للمرحلة الانتقالية فهم سيربحون سورية وينقلونها من معسكر إقليمي دولي إلى معسكر مقابل، ومثلهم كان يعلم الذين يصرّون على الطريق الدستوري لإدارة مرحلة الانتقال أنهم يضمنون إذا سارت الأمور وفق ما يقولون كلّ ما يريدونه لسورية بعد مرحلة الانتقال، فالأسد سيكون عنوان سورية المقبل ومعه خيارها المستقلّ والمقاوم وتحالفاتها الإقليمية والدولية.
– كلّ ما يملكه صناع القرار في الجهات الإقليمية والدولية في مستقبل سورية كان واحداً من اثنين، يختصر بكلمة تحدّد موقع الأسد في المرحلة الانتقالية وينتهي بعدها دورهم هم، فالقبول بدور للأسد في المرحلة الانتقالية يعني دوره الحتمي بعدها وبقاءه عنواناً لمستقبل سورية، ووضع قطار الحرب على الإرهاب على سكة الإقلاع، ووقف التسليح والتمويل وإقفال الحدود ووقف الحرب الإعلامية، والتمهيد لرفع العقوبات والحظر المفروضين على الدولة السورية، أما الرفض فيعني إبقاء سورية في حرب الاستنزاف ومواصلة قوى الحرب على سورية دعم الإرهاب رهاناً على إضعافها، وأملاً بمنح فرص للخيار الآخر المعاكس تماماً.
– كلمة لا للأسد ولا مانع بدوره في المرحلة الانتقالية كذبة كبيرة، فـ»اللا» هنا تصبح تافهة وسخيفة وبلا معنى لأنّ قائلها يعلم أنّ دور الأسد في المرحلة الانتقالية افتتاح لدوره الأكبر الآتي بعدها حكماً، والقول لا دور للأسد في مستقبل سورية عملية ضحك على المعارضة الغبية والبلهاء ومن يقف معها من حكام الخليج، لتمرير معادلة نعم لدور الأسد في المرحلة الانتقالية، والانتقال بعدها لمعادلة «نرضى ما يرضاه السوريون»، ومعلوم سلفاً أنّ الأسد سيكون عنوانه.
– تشارك هذا الحشد الدولي والإقليمي بالنطق بالمعادلة الذهبية، «لا مانع بدور الأسد في المرحلة الانتقالية»، يعني فتحاً لباب الحلّ السياسي، الذي لا قيمة له بإنهاء المواجهات العسكرية، بل بخلق ظروف إقليمية ودولية لتمكين الدولة السورية من الفوز في الحرب على الإرهاب، وإعادة ما سلب من مؤسسات هذه الدولة من اعتراف، ورفع ما فرض عليها من حظر وعقوبات، وتسليم بفشل الحرب واستسلام للوصفة الروسية الإيرانية في إغلاق ملفها وإعلان انسحاب من المداخلة التي كانت أقرب إلى حشد حرب عالمية ضدّ سورية ورئيسها.
– التتابع والتكرار للمعادلة، لا يحتاج تحليلاً وتفسيراً، فلا أسباب خاصة تستطيع تفسير هذا الالتقاء لكلّ هذه الدول على ترداد العبارة نفسها في توقيت واحد، مهما استخدمت مبرّرات وتفسيرات منطقية، مثل ضغط قضية اللاجئين وخطر الإرهاب، وكلها قائمة وصحيحة، لكن هذا التزامن والتسارع لا تفسّرهما صحوة موحدة، ولا وحي يوحى، بقدر ما يفسّرها صدور كلمة سرّ أميركية، جاءت بعد الحركة العسكرية الروسية في سورية قطعت الطريق على فرضية مواصلة حرب الاستنزاف، وتعني إعلان استسلام حلف الحرب وإقراره بهزيمته الكاملة في سورية، وانتظار حفظ ماء الوجه أو الهزيمة المشفقة، وهما ما لا يبخل بهما الخصوم، كما في الملف النووي الإيراني، ولسان حال روسيا وإيران ومعهما الأسد هو «انهزموا ولا مانع من أن تقولوا انتصرنا».