ممارسة والحرية
نظام مارديني
بالأمس طالبني رئيس التحرير بابتسامته البشوشة وتواضعه الجمّ أن يقرأ لي تعليقاً أو تحليلاً لحدث ما؟
رأيت الطلب وجيهاً فأنا منقطع عن الكتابة منذ زمن، بل أنا مراقب صامت للحدث أو الأحداث التي تدور في وطننا وعالمنا العربي، ولأن الكتابة من جهة هي نوع من ممارسة الحرية على حدّ تعبير سارتر، فلماذا أنقطع عن ممارسة حريتي؟
وهكذا فالحوار بين رئاسة التحرير والمحررين حين يكون موضوعياً يفضي دائماً إلى الدخول في عوالم فضاءات الحقيقة. والدخول إلى فضاءات الحقيقة يعني ولوج رحاب فضاءات الفلسفة، كون الفلسفة أصلاً، هي البحث عن الحقيقة.
هل يعني ذلك الاستجابة لطلب رئيس التحرير؟
الجواب هو نعم لأنني من المؤمنين بأن معيار حصافة الإنسان وحكمته وتحضّره، هو مدى استعداده للفهم ولتصويب أفكاره واحترام الرحابة الإنسانية التي تتسع كل يوم. وأيضاً مدى قدرته على متابعة قضايا وطنه بدلاً من أن يكون متفرّجاً على آلامه.
بيننا وبين بعض العرب أزمة وعي، نحن نضحّي من أجل قضاياهم المصيرية ونتعاطف مع معاناتهم، ونمد لهم يد العون، وهم يهتفون بحياة جلادنا من دون مراعاة أرواح الضحايا ومشاعر ذويهم.
وراء ما يجري في وطننا همّ وطني عميق يتلخص بسؤال الهوية، وسؤال الهويّة قديم، لكنه ظلّ معلقاً في سماء اللاجواب.
أتصفح كتبنا القديمة، لأشبع الفضول حول النهج الذي كان ينظم أفكار الأولين، في مباحث «الإمامة والسياسة» فيفاجئني اقتباس شهير من حديث الجاحظ، لا أمل من تكرار تذكره، حين يملي على النساخ في كتابه «البيان والتبيين» مقارنة بين خطباء الفرس، وخطباء العرب. يقول:
«كلام الفرس ناتج من طول فكرة، واجتهاد وخلوة، ومشاورة ومعاونة، وطول دراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم».
ثم يوضح مقارناً، أن كلام العرب «بديهة وارتجال، فليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكرة ولا استعانة، فتأتيه المعاني إرسالاً وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده».
أفتح التلفزيون لتفقد عناوين الصحف، فأجد أهالي باب التبانة وجبل محسن في لبنان، وأهالي كسب وإدلب ورأس العين وعفرين ودرعا في سورية، وأهالي أبو غريب والفلوجة والأنبار في العراق، يتحدثون عن هلع أطفالهم، من دوي التفجيرات، الذي بات يُسمع على بوابات مدنهم، نتيجة المفخخات الإرهابية. لأتذكر لحظتها، أننا لم نعثر بعد على نهاية مناسبة للإرهاب في بلادنا.
ماذا سيبقى منا ونحن نقترب من وعاء عزلتنا؟ ونحن على وشك أن نرفع يدنا بتلويحة أخيرة؟ هل ننتظر رحمة الآخر حتى ينتزع الورقة الأخيرة، أم نكون العين التي تقاوم المخرز؟