الكلداني الموصلي السائح العربيّ الأوّل إلى القارة الأميركية

محمد محمد الخطّابي

بعد مرور 176 سنة على رحلة كريستوفر كولومبوس الاستكشافية، ركب الكلداني الموصلي البحر من مدينة قادس الإسبانية مارّاً بجزر الخالدات، ووصل إلى أميركا الجنوبية بعد 55 يوماً قضاها في المحيط الهادر.

لقد خلّف لنا التاريخ سجلّاً حافلاً بأسماء أمثال هؤلاء الذين نذروا أنفسهم لاستكناه الغوامض، والغوص وراء كل مجهول، والذين يعتبرون بحق رسلاً للإنسانية لما قدّموه لها من خدمات، وما بذلوه من جهود بحثاً عن حقائق الحياة وألغازها التي لا حدود لها، لا بل للتعرف على أسرار الكائنات التي تدبّ عليها.

لا ريب أن رحلة البحث الطويلة المضنية التي بدأتها البشرية في غياهب المجهول سواء في ما يتعلق بالأماكن النائية، واكتشاف قارات وسبر عوالم جديدة، لا بل تقديم معلومات حول شعوب تلك المناطق، كلّ ذلك يتوازى مع رحلة البحث عن أغوار المعرفة وأسرار الحكمة وحقائق العلم المذهلة.

وتعتبر رحلة كريستوفر كولومبوس للقارة الأميركية ذرّةً في جبين الرحلات الاستكشافية على امتداد التاريخ. إن العصر الذي أصبحنا نعيش فيه، وما يوفره لنا من وسائل الراحة وسرعة الحركة والانتقال والاتصال يقدّم لنا الدليل على مدى الشجاعة التي كان يتحلى بها هؤلاء الرحّالة، ومدى قدرتهم على التحمل والصبر ومجابهة الأخطار، ومواجهة الصعاب، لا بل الموت المحقق في وقتٍ لم يكن يتوفر فيه أي لقاح ضد أي وباء من الأوبئة الفتاكة التي كانت منتشرة في تلك العصور.

يقول الرحالة الشريف الإدريسي المولود عام 1100 في مدينة سبتة في كتابه الشهير «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»:

ليت شعري أين قبري

ضاع في الغربة عمري

لم أدع للعيش ما

يشتاق في برّ أو بحر

فإضافة إلى ابن بطوطة، والإدريسي، سجّل لنا التاريخ أسماء رحالة آخرين عالميين مثل ماركو بولو، وكوك، وماجلان، وكولومبوس، ونونييس دي بالبوا، وإيرنان كورتيس، وفرانسيسكو بيثارو، وفاسكو دي غاما، وأبو الريحان البيروني، والقزويني، وابن سعيد المغربي والزياني وابن جبيرا وابن عثمان، وسواهم.

يزخر الأدبان العربي والعالمي إذن على حدّ سواء بفنّ الرحلات منذ أقدم العصور. ولقد عرف المغاربة على وجه الخصوص هذا النوع من الفن منذ زمن بعيد. ويذكر لنا ابن بطوطة في رحلته «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» قصة تدل على شغف المغاربة بالرحلات. فهو يحكي لنا أنه عندما كان في بلاد الصين التقى بمغربيّ آخر وهو قوام الدين السبتي البشري الذي كان قد سبقه إليها، وأقام مدة طويلة في الهند كذلك.

الرحالة العربي الأول إلى العالم الجديد

محقق هذه الرحلة الأول وواضع تعليقاتها هو الأب أنطون رباط اليسوعي، نشرت في مجلة «المشرق» بتاريخ 15 أيلول 1905 ، ثم كانت النشرة الثانية، بعد سبعين سنة على يد الباحثة العراقية ابتهاج الراضي. كما صدر عن «دار السويدي» كتاب عن هذه الرحلة بعنوان «الذهب والعاصفة» بقلم نوري الجراح. يقول أنطون رباط: «لم نكن نعرف أن أحد الشرقيين ساح منذ قرنين ونيف في أكثر البلاد الأميركية، وزار مدنها وولاياتها وشعوبها وتفقد أحوالهم. ولم نعثر قط في المكاتب عما نستشف منه ذكر سياحة كهذه». ولقد عثرت على نسخة من مخطوط هذه الرحلة بالصدفة في جامعة سان ماركوس بليما خلال عملي في سفارة المغرب في العاصمة البيروفية أواسط التسعينات من القرن الفارط.

ويعرّف المحقق الرحالة فيقول: «هو الكلداني الخوري إلياس الموصلي ابن القسيس حنا من عائلة بيت عمودة»، ويشير إلى أنه: «في سنة 1668 سافر الموصلي من بغداد لزيارة القدس، ثم أبحر من اسكندرونة إلى البندقية وفرنسا وإسبانيا والبرتغال، وجزيرة صقلية ثم عاد إلى إسبانيا، ومن قادس إلى أميركا ووصل إلى قرطجنة في كولومبيا، ثم ساح في عدد من مناطق وجهات البلاد التي تدعى اليوم البيرو، وبوليفيا، وإكوادور وشيلي، والمكسيك التي يسميها «ينكي دنيا» ثم ركب البحر وعاد إلى إسبانيا فرومية».

صاحب الرحلة قس كاثوليكي قام برحلته لأسبابٍ ودوافع غير معروفة على وجه الدقة، وإن كان من المرجح لدى معظم الباحثين، ولدى كراتشوفسكي صاحب «الأدب الجغرافي العربي» أنه ربما قام بمهمة لحساب البابوية، أو التاج الإسباني، أو لكليهما معاً. لا شك إذن أن هذه الرحلة كانت لها أهداف وقد تمت بمعرفة البابا، وفي ذلك يقول: «فأنعم علي البابا إينوسينسيو الحادي عشر صاحب الذكر الصالح بوظايف وظائف لم أكن أهلاً لها». كما أن هذه الرحلة تمت بموافقة ملك إسبانيا، إذ كما يقول هو نفسه: «لأنه لا يقدر غريب أن يجوز إلى بلاد الهند إن لم يكن معه أمر من الملك، وكان في ذلك الزمان رسول البابا في مدريد يسمى الكاردينال ماريسكوتي وهذا المبارك ساعدني». كما يفصح الموصلي عن الغاية التبشيرية لرحلته فيقول: «فسبيلنا أن نبرهن ونبين رجوع هذه الطوائف إلى الإيمان الحقيقي واحتضانهم للكنيسة».

لا شك أن لهذه الرحلة أهمية تاريخية لما تتضمنه من أخبار وقصص وحكايات عن تلك البلدان النائية، خصوصاً أن كل ما سُجّل فيها كتبه الموصلي بلغته الأصلية وهي العربية، وقد عمل الرحالة على ترجمة الكلمات الإسبانية فيها وردّها إلى اللغة العربية. والطريف أن بعض الكلمات التي ظنها إسبانية هي من أصل عربي!

كولومبوس أم أميركو!

يشرح الرحّالة في مخطوطه كيف اعتنق معظم سكان هذه البلاد الديانة المسيحية التي وصلت مع المبشّرين الإسبان إلى هذه الأرض «التي جعلوا لها اسماً جديداً وسمّوها ميركا مسلوبا». وهو يريد بذلك أن هذه القارة كان من حقها أن تسمّى بِاسم مكتشفها وهو كولومبوس، إلا أنها تحمل اسم البحار الإيطالي أميركو فيسبوتشي، الذي شخّص تلك الأرض على خريطة وعرضها على ملك إسبانيا، فسمّيت حينذاك أميركا.

عالم جديد مثير ومتنوع

الرحلة سياحة حافلة بالمفاجآت، والقصص والحكايات، وهناك جوانب عدّة فيها تستحق التأمل. إذ إنّ المعلومات التي تتضمنها غزيرة ومتنوّعة وبعضها جديد على القارئ، قد يتقبلها العقل أو تنأى عن التصديق، ولكنها لا تخلو من طرافة. ولا يترك رحالتنا صغيرة ولا كبيرة إلا ويوفيها حقها من الوصف، إذ نقل إلينا مختلف التقاليد والأوضاع والعمران والبنايات، والحيوان والطيور والجوارح، والمعادن وكيفية استخراجها، والمواشي والزواحف وعمليات القرصنة، فضلاً عن الطقس والمبادلات التجارية والمقايضة وتجارة العبيد وعادات الدفن والزواج، والزلازل، والطقس وغيرها من الأخبار المثيرة.

فعند وصفه المناخ يقول: «ثم صعدنا إلى جبل وما زالت الرياح والبرد شديدين، ابتدأت تتغير أمزجتنا وتقيّأنا بسبب أننا خرجنا من أرض شديدة السخونة وجزنا عاجلاً إلى أرض باردة». ويشير «وما كان لهم في هذه المنطقة مواش سوى واحد يشبه الجمل بقدر الحمار، وحدبته في صدره، يحملون عليه ويأكلون لحمه، ولكنه لا يسافر بعيداً، فلما يتعب ينام ويزبد، ويتفل على أصحابه».

وعن مدينة كوسكو في البيرو القريبة من قلعة «ماتشو بيتشو» يقول: «وجدنا أجناساً من الحيوانات منها أيل وبقر وحشية، وجنس حيوان آخر يسمى بيكونيا وهو قويّ وأنيس، لمّا يرى أناساً أم دواباً مجتازين ينحدر من الجبل ليتفرج عليهم، ولحمه لا يأكله غير الهنود، وفي بطنه حجر البازهر الترياق بين كليتيه فيخرجونه ويبيعونه بثمنٍ غالٍ لأنه نافع للسموم». ويقول عن الهنود والخيول: «وهؤلاء الهنود صاروا يركبون الخيل، ويحاربون برماح تشبه رماح العرب، ولما كانوا ينظرون إلى الخيل، كانوا يظنون أن الفَرَس وراكبها شقفة واحدة مثلما كان الهنود يظنّون لما وصلت مراكب السبنيولية إلى تلك البلاد أنها حيتان البحر، وقلاعها كانوا يظنونها جناح الحيتان».

وعند وصفه الزواحف والطيور يقول: «في هذا الدرب أجناس مثل السعدان وله ألوان وأشكال، وأيضاً هناك الطائر الذي يتكلم، وآخر يسمى باكا مايا وهو بقدر ديك كبير لكن ريشه ملون، وكنت قد أحضرت معي من الهند أربع درات كذا وهي الطيور التي تسمّى في لسان الفرنجة «بابا كاي» الببغاء تتكلم مثل الإنسان، وفي جزيرة تسمى تورتوكا السلحفاة بالإسبانية توجد سلاحف كذا كبيرة أزيد من ذراعين طولاً وعرضاً، والمراكب تتصيد فيها وتملّحها لأجل زوّادة».

وفي بنما، يصف لنا الموصلي جنسَ نباتٍ غريب، إلا أنّ وصفه لا يخلو من مبالغة، إذ يقول بعبارات طعّمها بالعامّية: «أما الحاكم، فما أراد يخليني أروح وحدي بسبب الجبال التي يوجد فيها نوع من الحشيش يشبه الخيزران، فلما يمر عليه رجل أبيض يرتفع من الأرض مثل عود السهام ويدقر يمس الإنسان ولا يشفى المصاب من هذه الدقرة إلى أن يموت، لكنّه لا يدقر الهنود العبيد ولا يضرّهم».

وعن نبات الصبار أو التين الشوكي يقول: «وعندهم أشجار مختلفة الأجناس يسمونها توكال أوراقها في سمك كفين، وما لها أغصان لكن الأوراق مشوكة وفي طرف الورقة تصير الثمرة، ويسمى في لسان الهنود توناس . وهذا الثمر بقدر بيض الدجاج، لكنه أصلب منه وداخله حلو كطعم التوت، وهو مسهّل ومبرّد، فمن خارج الثمرة يصير شوك ناعم فيلزم الإنسان ألا يمسكها بيده إلا بعد أن ينظّفها من الشوك».

وعن غواياكيل يقول: «هناك بساتين فيها جنس أشجار تشبه التوت تحمل ثمرة تسمى كاكاو، ويعملون منها الشوكولاتة، وهذا الثمر تراه مثل البطيخ متعلقاً وملتصقاً على جسم الشجرة، فلما يبلغ ويصفرّ، يأخذونه ويقطعونه وفي داخله يخرج الثمر وهو حبوب أخشن من الفستق، ثم ييبسونه حتى ينشف، وبعد ذلك يلقونه فتراه كالقهوة في اللون والطعم والرائحة، لكنه كثير الدهن ومن دسامته يصير مثل العجين».

وعن قصب السكر يقول: «وفي كيتو عاصمة إكوادور حالياً ، جنس قصب ارتفاعه أربعون ذراعاً يجعلونه الصواري أعني غطاء لسقف البيوت والبعض منه ممتلئ بماء أبيض وحلو، وأنا شربت منه».

عادات وتقاليد

سجّل الموصلي خلال رحلته مختلف عادات السكان الأصليين وتقاليدهم، ومنها التي بدت له مستحبّة، ومنها المستهجنة، ما يضفي على نصوصه قيمة تاريخية مهمة. وهكذا يصف لنا عادات الزواج في بانكاي فيقول: «وهذا الحاكم لما وصلنا إلى ليما تجوّز تزوج مع بنت أعطته نقداً مئة وخمسين ألف قرش كعادة بلاد النصارى، أن البنت تعطي نقداً للرجل بحسب حالها». ويقول عن عادة أكل لحم البشر: «هؤلاء الهنود عندما كانوا يحاربون السبنيولية الإسبان كانوا إذا أمسكوا أحداً منهم يشوونه ويأكلون لحمه، وأما الرأس فيقطعون جمجمته ويعملونها طاسة ويشربون بها». وفي ضواحي كيتو يصف لنا أناساً «يصير لهم مثل غدة كبيرة نازلة تحت حلوقهم، ولا لحى لهم، إنما بعض شعرات ثابتة في حنكهم، وأنا لأنني كنت رجلاً كامل اللحية، كانوا يتعجبون مني قائلين إنني ذو شجاعة شديدة بحيث جزت تلك البلاد».

وعن دار السكّ في البيرو يقول: «ورحت إلى البيت الذي يسكّون فيه الدنانير من قروش وأنصاف أرباع . وفي هذا البيت «السكتخانة» رأينا القروش مكوّمة على الأرض ويدوسونها بأرجلهم مثلما يدوسون التراب الذي لا قيمة له».

وعن ليما يقول: «وفي هذه البلدة زلازل عدّة، وفي ذلك الحين حصل زلزال كبير فخرج الناس من البلدة لخوفهم، وسقطت منازل كثيرة وكنائس». وعن الغلاء في ليما عاصمة البيرو يقول: «وهذه البلدة غالية المعاش بهذا المقدار، حتى أن الدجاجة تساوي قرشاً ونصف قرش».

وعن كوبا يقول: «هذه الجزيرة هواها مليح، وماؤها طيّب، وأناسها محبّون، فلما أردت أن أخرج منها حتى أتوجه إلى إسبانيا جاءني حاكمها بشاكيش البقشيش أو البخشيش تسعة صناديق سكّر مع مرطبانات المربى».

لم يتعرّض الموصلي خلال هذه الرحلة إلى الجوانب الاجتماعية في العمق، ولِما كان يعانيه السكان الأصليون من تعنّت، وتعذيب وملاحقة من طرف الغزاة الإسبان، وما كانوا يسومون هؤلاء السكان من سوء المعاملة والاحتقار، ومن إتلاف لآثارهم، وتدمير لمعالمهم التاريخية، وتشويه لحضارتهم، وطمس لعاداتهم، وتقاليدهم، وإحراق لكتبهم ومخطوطاتهم.

كما لم يتعرّض البتة إلى التأثير الإسلامي في مختلف هذه البلدان، خصوصاً في فنون العمارة وفي اللغة والطبخ والموسيقى ومختلف أوجه الحياة العامة في ذلك الوقت المبكر. إذ نقل الإسبان هذه التأثيرات والفنون معهم إلى العالم الجديد كما يؤكد ذلك معظم الدارسين والباحثين المتخصّصين في هذا المجال، خصوصاً أن جميع المدن والحواضر الكبرى التي زارها الموصلي ما زالت تحتفظ إلى يومنا هذا بعدد من المآثر والآثار والمباني والدور والقصور ذات التأثيرات الأندلسية الواضحة، والفنون الإسلامية التي لا يرقى إليها شك ولا ريبة . كما شاهدت وعاينت ذلك بنفسي خلال عملي، وإقامتي لسنواتٍ طويلة في مختلف هذه البلدان.

تعتبر رحلة الموصلي الكلداني، السياحة العربية الأولى الحافلة بالأخبار والمعلومات، التي سجّلها لنا هذا الرحّالة عن تلك الأصقاع البعيدة، كما أنه يعتبر هو بالتالي الرحالة أو السائحٍ العربي الأول الذي يزور تلك الديار البعيدة والأصقاع النائية ويصفها لنا.

كاتب وباحث مغربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى