قمّة نيويورك… وضربات القيصر المُوجعة؟

د. تركي صقر

ضرباتٌ موجعة وتحت الحزام وجّهها قيصر الكرملين إلى خصومه في عقر دارهم في نيويورك وفنّد حججهم وذرائعهم المزيّفة، وأوجع ضرباته كانت بهدم جبل الأكاذيب الأميركي عن المعارضة المعتدلة عندما قال إنّ ما أسموه «معارضة معتدلة» لا يختلف جوهرياً عن تنظيم «داعش». فواجه انقلاب المواقف والتلاعب من هولاند وأوباما بالقول إنهما ليسا مواطنَيْن سوريّين، وإن لا خيارَ أمام الغرب سوى التعاون مع الرئيس الأسد.

بالطبع ما كانت قمة نيويورك لتُعقد بهذا الزخم وعلى رأس جدول أعمالها إيجاد حلّ للأزمة في سورية وما كان هذا التراجع الملحوظ في المواقف الغربية التي كانت إلى الأمس القريب بمنتهى التعنّت لولا صمود الشعب السوري وتضحيات جيشه الأسطورية وفشل كلّ محاولات كسر إرادتهما طوال أكثر من أربع سنوات وهو الذي أسّس لاستمرار دعم حلفائها وعدم التخلي عنها ما أدّى لسقوط كلّ المراهنات التي راهنت على عزل سورية عن حلفائها ما أسهم بتزايد الدعم كلما زاد تصميم السوريين على المواجهة والتمسك بالمحافظة على وطنهم ودولتهم ومؤسساتها، ومكّنت بطولات الجيش والشعب حلفاء سورية إفشالَ خطة أميركا والغرب في تكرار السيناريو الليبي، والفيتو المزدوج الروسي الصيني أكثر من مرة الذي ألحق الهزيمة النكراء بهذه الخطة المجرمة.

وما كانت واشنطن لتقبل بالدور الروسي لولا إخفاقاتها المستمرة في تحقيق أية إنجازات ملموسة من خلال الحرب العدوانية الإرهابية على سورية، فضلاً عن أنّ سيد الكرملين فرض نفسه لاعباً لا يُستغنى عنه لحلّ الأزمات المعقدة عندما نجح في مسألتين شائكتين للغاية، هما: الأولى نزع فتيل معضلة السلاح الكيماوي السوري التي كادت أن تشعل المنطقة، والثانية نجاح الديبلوماسية الروسية في التوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني الذي كان مشكلة المشاكل بين إيران والدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وهذا النجاح مضافة إليه حركة الاصطفافات الدولية إلى جانب موسكو التي استطاع إنجازها الرئيس بوتين، بما فيها تقرُّب دول محسوبة على طرح مبادرات الحلّ بقوة، متمتعاً بمصداقية عالية فقدتها إدارة أوباما.

لقد جاء الزخم الروسي عسكرياً وسياسياً بعدما استُنفدت كلّ الوسائل الآيلة إلى إسقاط الدولة السورية، وهذا ما جعل التدخل الروسي المباشر على خط الأزمة أمراً واقعاً، فاضطرت الدول الشريكة في العدوان الى التراجع عن مواقفها تدريجياً، لا سيّما في تنحّي الرئيس بشار الأسد، حسب ما أعلن مؤخراً وزير الخارجية الأميركي جون كيري: «إنّ مسألة تنحّي الأسد ليست بالضرورة الآن»، كذلك فرنسا، فقد قال وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس لصحيفة «لو فيغارو»، «إنّ بلاده لن تطالب برحيل الرئيس بشار الأسد كشرط مسبق لمحادثات السلام».

ويمكن القول إنّ الرئيس فلاديمير بوتين، سواء نجحت مبادرته في قمة نيويورك أم وضعت العراقيل أمامها، فإنه حقق نصف انتصار على الأقلّ قبل أن يجلس وجهاً لوجه مع أوباما، فهو قد أخذ زمام المبادرة في محاربة «داعش» عندما طرح تشكيل جبهة دولية جديدة لمواجهته كبديل حتمي للتحالف الدولي الفاشل بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وفرض وجهة نظره بأن تكون سورية المحور الأساس فيها كما فرض اعتراف الدول الغربية قاطبة بشراكة الرئيس الأسد في حلّ الأزمة في سورية، وبرهن بالأفعال وليس بالأقوال جدّية روسيا في سحق تنظيم «داعش» من خلال رفع مستوى الدعم العسكري النوعي للجيش العربي السوري والجيش العراقي لاحقاً فلا مناصَ بعد الحضور العسكري الروسي المكثف شرق المتوسط من السير مع موسكو إلى النهاية وطيّ صفحة التفكير بعزلها أو استبعادها، كما جرى منذ بداية تفاقم ظاهرة «داعش»، فلم تعد روسيا دولة إقليمية كبرى كما يصفها الأميركان، بل باتت الدولة العظمى، التي تفرض خطوطها الحمراء، وتتخذ القرارات من دون موافقة أحد… فإذا كانت سورية مفتاح عودة روسيا القطبية… فهي الآن بوابتها الواسعة لردّ الدَّين وإعادة الاعتبار لروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

وما من شك في أنّ قمة نيويورك ستؤسّس لمرحلة دولية جديدة يكون ما بعدها ليس كما قبلها لجهة التأكيد على اختفاء ظاهرة القطبية الأحادية وانعدام قدرة واشنطن بعد الآن على التحكم والانفراد بالقرارات الدولية، أو فرض الحلول الأحادية الجانب في الأزمات الدولية، وقد يشكل الحلّ في سورية إذا ما سارت الأمور بهذا الاتجاه الإيجابي نموذجاً للحالات الأخرى مثل الأزمة الأوكرانية والأزمة اليمنية والأزمة الليبية وحتى الكورية، وهذا يؤكد ما قيل سابقاً عن تاريخية الاتفاق النووي الإيراني بكونه سيفتح الطريق أمام حلّ المشكلات الدولية الأخرى المستعصية.

لكن التجارب السابقة مع الإدارات الأميركية التي كانت تصافح بيد وتخفي العكس في اليد الأخرى قد يفسد هذا التفاؤل… إذ بعد طرح بوتين مبادرته عبر منبر الأمم المتحدة… رأينا جون كيري يسارع إلى الإعلان عن مبادرته الخاصة والجديدة بهدف تعطيل زخم مبادرة بوتين، وإنْ عمل على مناقشتها مع الوزير لافروف، قبل طرحها رسمياً، وهي تتعلق بضمّ روسيا إلى التحالف الدولي تحت القيادة الأميركية، وهو ما رفضه بوتين فوراً وكان البديل إنشاء غرفة عمليات مشتركة في بغداد بقيادة روسية تضمّ إيران وسورية والعراق بالإضافة الى روسيا.

في مطلق الأحوال فإنّ قمة نيويورك ليست حدثاً دولياً عابراً ونتائجها تحمل الكثير من المتغيّرات على الصعيد الدولي والإقليمي ولأول مرة يتمّ تسليط الضوء على الأزمة في سورية بجدية مسؤولة، كما أنه لأول مرة يتم النظر إلى إيجاد حلّ للأزمة بعيداً عن تزييف الواقع بإنكار دور الإرهاب فيها، بل هناك إجماع دولي على موافقة سورية على ما كرّرته ولم تملّ من تكراره وهو أنّ الأولوية هي للقضاء على الإرهاب وعليه بدأ يتزايد كلّ يوم لدى خصومها الاعتراف بأنّ الطريق الوحيد لنجاح أيّ تحالف دولي في الحرب على «داعش» والعصابات الإرهابية الأخرى يمرّ عبر دمشق وهذه أولى الخطوات الضرورية واللازمة لوضع عربة الحلّ للملف السوري المستعصي على السكة الصحيحة.

tu.saqr gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى