لحن نينوى

تركي حسن

حوار الناي والوتر أنتج عزف نايٍ على نوى أي مقام الحجاز عاصمة الآشوريين السوريين العراقيين الذين أبدعوا نينوى الموسيقية في نينوى الأرض. هي قصة ملحمية تُظهر كيف ساهم أجدادنا في وضعِ لبنات في تراث الحضارة الإنسانية، إذ تظهر تلك الموسيقى عظمة الإمبراطورية الآشورية وجيشها النظامي، وكيف تآمرت وتكالبت قوى الأعداء ضدّها. ثم المعارك الطاحنة التي وقعت بين جيش الأجداد وجيوش الأعداء المتحالفة. إلى المقطع الأخير بما يحمله من حزن وأسى حيال الخراب والدّمار والحرائق التي حلت بنينوى، فهل يكرّر التاريخ نفسه؟

نينوى التاريخ والتنوّع الثقافي والعقدي والعرقي تجتاحها «داعش» واجهة حلف العدوان لتفتكَ بشعبها وتراثها وطوائفها تقتل وتدمر وتخرب. لنعيدَ عزف اللحن القديم حزناً وأسىً على حضارة تُغتال وتُقتل أكثر من مرة.

-فجأة ومن دون مقدمات نُفاجأ بأن نينوى التاريخ والحضارة يدخلها الغزاة الجدد ويجتاحونها ويعملون فيها قتلاً وتدميراً وخراباً. في حين كانت اتجاهاتنا تؤكد أن الجيش العراقي يحقق نجاحات في ضرب الإرهاب على مدى الأشهر السابقة في محافظة الأنبار، سواء في الرمادي والفلوجة، أو عند تسلله إلى سامرّاء ذات الرمزية وكَنسِه من تلك المناطق. كيف أمكن للإرهاب دخول ثاني المدن العراقية، بل الاستيلاء والتمدّد في كامل المحافظة، في انهيار كامل للسلطة في يوم واحد. أي أنّها نفّذت ما عجزت عنه جيوش التحالف في عدوانها على العراق عام 2003 يوم استطاعت أمّ قصر مقاومة العدوان الأميركي لأكثر من أسبوعين، في حين لم يدافع القيّمون على نينوى ليوم واحد.

كان يوم التاسع من نيسان عام 2003 سقوطاً للعراق بسبب سقوط عاصمته بغداد، كذلك فإن العاشر من حزيران عام 2014 هو سقوط للعراق بسبب سقوط نينوى. هنا تكثر وتتزاحم الأسئلة حول ما حصل، كيف دخلوها؟ وَمْ المسؤول؟ ولماذا لم تقاوم نينوى سلطة وقوى أمنية وجيشاً؟ ولماذا لم يقاوم أهلنا في نينوى؟ وهل ثمة تواطؤ؟

في ما سمعته من بيان الرئيس المالكي، استرعت انتباهي ثلاث كلمات: خيانة، غدر، تقاعس… ولكلّ منها دلالاتها. فهل اختُرقت السلطة والجيش وتواطأ بعضهم مسبقاً مع «داعش» وغيرها فسهّل سقوط المحافظة؟ يبدو ذلك، وهي الخيانة بعينها.

أما الغدر فهو أن يطعن طرفٌ ضمن فريقِ بأطراف أخرى وتبدو قراءة المشهد من الإعلام وتحميل المسؤوليات لبنية السلطة العراقية.

أما التقاعس في أداء الواجب فهو واقع لا محالة إثر مشاهدتنا القوى الأمنية والجيش بعض المواقع وفرار السلطة والفوضى التي حلّت، ما سهل لـ«داعش» الدخول والتمدّد.

بغض النظر عن الاتهامات والمسؤوليات، الأهم قراءة التداعيات على نحو صحيح، بعيداً عن الصراع على السلطة بين الطبقة السياسية. وكيف يخرج العراق من هذا الواقع وينهض مجدداً من سقوط هو الأسوأ بعد سقوط بغداد في 9/4/2003.

في القراءة الأولية أنّ «داعش» دخلت نينوى كواجهة ساهمت بعض السلطة في تأمين الظروف الملائمة لدخولها، وكانت إلى جانبها مكوّنات أخرى أبرزها:

1 ـ «جيش الطريقة النقشبندية» الذي يُعتبر جناح عزت ابراهيم الدوري ويقوده تنظيم «البعث» الآن وورث أمانته، وهو على خلاف مع جناح آخر للتنظيم يقوده يونس أحمد الذي حافظ على هويته القومية.

2 ـ «الجيش الإسلامي» الذي يقوده طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي السابق والملاحَق قضائياً في العراق الاخوان المسلمون وتحتضنه حكومة العدالة والتنمية على خلفية عقائدية إذ ينتميان إلى خلفية واحدة.

3 ـ «القاعدة» التي تقاتل الى جانب «داعش» رغم الخلافات التي ظهرت منذ أكثر من عام والاقتتال بينهما في سورية.

4 ـ وهن السلطة وانقسامها مركزياً في بغداد ومدّ الجسور من قبل بعضها مع سلطة المحافظة في الموصل على حساب المركز.

هذا يعبّر عن تحالف دموي على الساحة ويعبّر عن الدول التي ترعاه وتصطفّ ضدّ الحكومة العراقية، مثل تركيا والسعودية وقطر والإمارات. كما يقف في الصفّ نفسه الأردن الذي يحتضن المجموعات العراقية القيادية ورجال الأعمال زمن صدام حسين وفي مقدّمهم ابنته رغد، وتتجلى هذه التداعيات في:

أولاً: استجدّ أمر جديد بعد نينوى، فسورية التي تصدّ عدواناً منذ أكثر من ثلاث سنوات تقوده الولايات المتحدة الأميركية والغرب مع بعض الدول الإقليمية والعربية نبَّهت مراراً إلى خطر الإرهاب الذي يستثمره الغرب في مشاريعهم التقسيمية للمنطقة ولحرفِ الصراع عن بوصلته في اتجاه فلسطين. وترعاه سياسياً عبر مجلس الأمن وإعلامياً وعبر الإعلام المفبرك والزائف والمضلل وتسلّحه بمختلف الأسلحة الشرقية والغربية وبأموال خليجية، وتستقدم الإرهاب من مختلف دول العالم وتسهّل قدومه الى سورية.

هذا الإرهاب أصبح خطراً على العراق وسورية ودول الجوار والمنطقة بأكملها والأصداء تتردّد في المجتمعات الغربية خوفاً من انتقاله إليها فكراً بالدرجة الأولى ثم سلوكاً.

الولايات المتحدة التي تقود المشروع سلَّحت سابقاً، وتدفع بالدول إلى التسليح، وإذا كان هناك حذر من تسليم الأسلحة النوعية وتمتنع أو تعطي بحدود ضيقة تعتبر أنها تتحكم فيها، لا داعي الآن لهذا الحذر كما تدَّعي، فـ«داعش» سيطرت على مستودعات أسلحة نوعية للجيش العراقي وهي بين أيديها الآن، وقد نُقل بعضها إلى سورية وشُوهدت في بعض المناطق السورية على ما أظهر الإعلام؟

ثانياً: هناك حدود مفتوحة أطول، فقبلاً نينوى كانت محصورة بين محافظتيّ الأنبار ودير الزور، أما الآن فأضيفت إليها الحدود بين نينوى والحسكة، وهناك امتداد إلى محافظة الرقة حتّى حلب شرقاً وصولاً إلى الحدود التركية.

ثالثاً: دخول الإرهاب إلى كركوك أعطى حكومة إقليم كردستان مشروعية دفع قوات البيشمركة إلى كركوك للمحافظة عليها وهي المحافظة المتنازع عليها عرقياً، وبين المركز والإقليم.

رابعاً: دفع المجموعات للانتشار في محافظة ديالى ودخول تكريت يعني أنّ الخطر اقترب من إيران، وهي محافظة على الحدود العراقية ـ الإيرانية.

خامساً: إنّ خطورة تمدّد الإرهاب جنوباً هي أن يدخل منطقة سامراء التي تحتضن مرقدي الإمامين العسكريين والعبث بهما وتدميرهما أو الدخول إلى كربلاء التي على مسافة 45 كلم فحسب، وتحتضن العتبات المقدسة ومراقد الإمام الحسين وأبي فضل العباس وغيرهما، ما يعيد إلى الذاكرة الغزوة الوهابية في آذار 1802 وما حصل فيها. ونظراً إلى رمزية تلك المراقد في نفوس المسلمين عامة، والشيعة خاصة، فستقع فتنة كبيرة لا أحد يعلم نتائجها، حتى من خطط لها منذ عدة سنوات ويسعى إلى إيقاعها.

الإرهاب الآن مفتوح أمامه من الحدود الإيرانية إلى شمال بغداد، عابراً الى سورية، وصولاً حتى الحدود الجنوبية لتركيا.

إذ نتحدث عن واقع مؤلم، على الحكومة العراقية والأحزاب والطبقة السياسية كافة أن تبادر وفوراً إلى ترك خلافاتها والتنازع على السلطة وتقف خلف جيشها وتتماسك في مواجهة الإرهاب وتقدِّم مصلحة الوطن على مصالحها الذاتية والحزبية الضيقة فإذا سقط العراق في يد «داعش» لن تبقى سلطة يتنازعون عليها، فعندما يسقط الوطن لا يبقى سلطة ولن تدع لهم «داعش» حتى الفتات. والغريب أن الطبقة السياسية لم تتعظ من الاحتلال وما حصل.

نداءٌ أوجهه صادقاً إلى إخوتنا في العراق أن يتوحّدوا للحفاظ على العراق لله يا عراق ، فهل من يستجيب؟ آمل ذلك.

باحث في الشؤون الاستراتيجية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى