المجازر العثمانية بحق القوميات… الخيانة والصفعة في فكر أردوغان
دمشق ــ سعد الله الخليل
لم تأتِ الحملة التركية ضد كسب خارج سياق السلوك العثماني التاريخي الذي يعتبر أردوغان نفسه وريث هذه السلالة في القرن الجديد، وامتداداً لأسلافه وهذا ما يفاخر به أردوغان، فغداة الانتخابات الأخيرة دعا أنصاره إلى توجيه صفعة عثمانية لخصومه واتهم خصومه بالخيانة.
يدرك جمهور أردوغان فحوى الرسالة فالصفعة العثمانية تعني استمراره بالنهج العثماني، القائم على تأجيج العصبيات الدينية، واللعب على الوتر العرقي الإثني، فأتت مجازر كسب امتداداً للتاريخ العثماني القائم على ضرب القوميات، كنهج منذ نشأته بحق الأكراد والأرمن والسريان، ولتبرير هذه الحرب أمام جمهوره قبل الآخرين، فالتهمة جاهزة الخيانة، وهي جزء من سياسية إبادة انتهجتها الإمبراطورية العثمانية منذ نشأتها.
عمليات التصفية العثمانية بحق المسيحية بدأت بين سنتي 1894- 1896 بالمجازر الحميدية، عقب قيام أحد أفراد منظمة الطاشناق، بمحاولة فاشلة لاغتيال السلطان عام 1905 بتفجير عربة عند خروجه من مسجد، وعلى رغم عفو السلطان عن المتهم أدت الحادثة والانقلاب على حركة تركيا الفتاة في 1908 إلى مجازر أخرى في قيليقية، كمجزرة أضنة التي راح ضحيتها حوالى 30 ألف أرمني. وخلال فترة الحرب العالمية الأولى قام الأتراك بالتعاون مع عشائر كردية بإبادة مئات القرى شرق البلاد، في محاولة لتغيير ديموغرافية تلك المناطق، لاعتقادهم أنهم قد يتعاونون مع الروس والثوار الأرمن فحلت مأساة التهجير قتل حوالى 75 في المئة من أهالي تلك القرى وترك الباقون في صحارى بادية الشام، كل ذلك بتهمة الخيانة. ويقدر الباحثون عدد ضحايا المجازر بين مليون إلى مليون ونصف نسمة، ولذلك أصر أردوغان على اتهام خصومه بالخيانة مبرراً أي سلوك عدائي ضدهم في المستقبل.
ضحايا المجازر العثمانية لم تتوقف عند حدود الأرمن، بل طالت السريان والكلدان والآشوريين واليونانيين وغيرهم، فمجزرة سيفو خلال الأعوام 1924-1920 أتت على خلفية اعتقاد العثمانيين بأن السريان يريدون الاستقلال، وهو امتداد لفكر التخوين، فقتل العثمانيون 500 750 ألف سرياني، تبعها قرار كمال أتاتورك بالقضاء الكلي على السريان، فأقصى مطرانهم عن البلاد واستمرت الحرب العثمانية على السريان إلى عام 1978، حيث أقفلت السلطات التركية المدارس التابعة للأديرة التي تعلم اللغة الآرامية، على أمل انتزاع جذور السريان نهائياً من تركيا، ففي طور عابدين ومن أصل مئتي ألف سرياني في القرن التاسع عشر الذين تبقوا بعد المذابح، وصل عددهم بحلول عام 1990 إلى أقل من أربعة آلاف، بقي منهم بضعة مئات.
قرار التهجير ترافق بالاستيلاء على أراضي دير ما كبرئيل حيث شجعت الحكومة التركية بعض الأكراد المحسوبين على حزب الحرية والعدالة على المطالبة بأراضي الدير، وغيرها من أراضي السريان عبر تقديم بلاغات إلى المدعي العام المحلي زاعمين أن هناك تجمعاً سرياً للغرباء في الدير للقيام بأنشطة غير قانونية. مزاعم أنصار أردوغان لم تقف عند اتهام السريان، بل وصلت للزعم بأن الدير نفسه قد بُنيَ فوق جامع، على رغم أن دير مار كبرائيل معروف أنه تأسس وبني قبل 174 عاماً من ميلاد النبي محمد، وفي عام 2009 أدخل أردوغان وزارة المال للمطالبة بالأرض العائدة للدير، وأصدرت المحكمة المحلية حكماً لصالح وزارة المال بحجة عدم دفع الضرائب، على رغم قيام إدارة الدير بتقديم الوثائق التي تثبت مُلكية الأراضي المتنازع عليها، ولكن النيابة العامة ادّعت أنه لا يوجد لديها سجل بذلك.
أعلن أردوغان صراحة رفضه الإفراج عن أملاك السريان وألمح خلال اجتماعه والمطران أكتاس بحضور رئيس الجمهورية عبدالله غُل، إلى أن حملة السريان في الخارج للاعتراف بمجازر عام 1915 على أنها إبادة جماعية السبب وراء مصادرة الأملاك، فقال أردوغان: «إن طائفتكم في الخارج تتكلم».
سلوك أردوغان منع قسماً كبيراً من السريان من العودة إلى طور عابدين وماردين، على رغم ادعاء أردوغان في المحافل الدولية تشجيعه عودة السريان إلى أراضيهم، في مسعى إلى تحسين صورته العثمانية أمام الاتحاد الأوروبي الذي توقف عند ملف حقوق الإنسان والحريات لدى مناقشته طلب انضمام تركيا إلى الاتحاد. نفاق أردوغان قرأه جيداً البطريرك الراحل زكا الأول عيواص فرفض كل المحاولات الغربية والدولية لنقل الكرسي البطريركي من دمشق تحت مسميات العودة إلى أنطاكية وأصر على بقائه في سورية وفي دمشق حصراً.
لا يغفل على أحد ما قامت به العثمانية بحق الأكراد من تنكيل وتجريم، وكما قتل العثمانيون السريان تحت ذريعة الانفصال، حاربوا الأكراد من بوابة الحكم الذاتي على مدى عقود، خيضت خلالها حروب وحملات تهجير، ومع قدوم أردوغان إلى السلطة لم يغير من هذا النهج على رغم اعتماده نهج المغريات قبل الموسم الانتخابي، بحزمة وعود يسوق لها شخصيات كردية محسوبة على العدالة والتنمية، وكانت آخر المحفزات حزمة إصلاحات ديمقراطية منح من خلالها حقوقاً للأقليات، تتضمن السماح بالتعليم بلغات ولهجات غير تركية في المدارس الخاصة وفي الحملات الدعائية، واستعمال اللغة الكردية أمام المحاكم واستعمال الأحرف المفتاحية باللغة الكردية.
وتسمية القرى بأسمائها غير التركية التي كانت عليها قبل عام 1980، كل ذلك في مسعى لاستمالة الأكراد في الانتخابات. ويبقى السؤال الكردي هل سيتراجع أردوغان عن تلك الإصلاحات بعد الانتخابات، كما حصل في الانتخابات السابقة حيث ذهبت وعده أدراج الرياح؟
أردوغان وارث السلالة العثمانية بعقليتها وسلوكها لا يمكنه أن يسير في مشروع العثمانية الجديدة، واستنهاض همم الشارع التركي المؤيد له، إلا عبر خوض حملات التخوين بحق من يخالفه الرأي والفكر من أكراد سريان وأرمن وحتى الأتراك المنتسبين لأحزاب المعارضة، لا يمكنه أن يتعامل معهم إلا كخونة يستحقون الصفعة العثمانية التي خاطب جمهوره بها.