بوتين يملأ الفراغ الاستراتيجي في الشرق الأوسط

يحتاج التموضع العسكري ـ السياسي الروسي الذي يتخذ من سورية منطلقاً لرسم معادلات تتخطّى حدود الحدث السوري، قراءة تتجاوز ما تتناوله الكتابات السياسية المنطلقة من الإطار المباشر لهذا التموضع. وعلى رغم أهمية القراءة السياسية، التي ترصد التحوّلات التي يصيب بها هذا التموضع الكثير من الحسابات الدولية والإقليمية، ويعطل سياسات ويفرض سياسات، ويغيّر توازنات ويرسم توازنات جديدة، ويسمح بالقول إن مسارين جديدين للحرب على الإرهاب والحرب على سورية، قد رُسما بفعل هذا التموضع، بداية من الفصل بين المسارين اللذين أقامت بينهما واشنطن ربطاً محكماً، تتغير مفاهيمه لكنه يبقى كمنهاج قائم على تلازم الحربين ولو بشعارات تأخذ المتغيّرات وتتواءم معها. أما بعد التموضع الروسي فالفصل صار تاماً، لا بل ربما صار العكس وهو التعارض حدّ التصادم.

بينما كانت المعادلة قبل أن يكون شركاء الحرب على الإرهاب شركاء الحرب على سورية، صارت المعادلة الجديدة تقوم على أن شركاء الحرب على الإرهاب يستمدّون مصداقيتهم من كونهم شركاء سورية. وتأسيساً على هذا الفصل بين مسارَي الحربين، وُضعت الحربان على سكة النصر موضوعياً. فالحرب على الإرهاب المؤسسة على الشراكة مع سورية صارت قابلة للنصر وهي تغيّر موازين الحرب على سورية بتجفيف الدعم العلني والسري للإرهاب بداعي كسب الحرب على سورية، ليصير العكس صحيحاً وواجباً، دعم سورية لكسب الحرب على الإرهاب، وهذا التصويب للمسارين، ينتج اختلالاً في موازين القوى إذ إن العقبة أمام نصر سورية تكمن في هذا التلاعب بمفاهيم الحربين.

مع هذا التموضع، لم تعد الموازين الميداينة بحاجة إلى قبول الآخرين من حكومات دولية وإقليمية، بعد الإعلان عن حلف روسي ـ إيراني ـ عراقي ـ سوري يشارك فيه عملياً حزب الله، وهو حلف بات قادراً على حسم الحربين معاً، واضعاً الآخرين بين خيارَي الشراكة في هاتين الحربين وفقاً للوصفة الروسية، أو الخروج من ساحتيهما معاً، لاستحالة البقاء من دون الصِّدام المباشر مع الحلف الجديد، وما يترتب من تكلفة مرتفعة لمثل هذه المخاطرة، وهي كلفة بدا واضحاً منذ عام 2013 أن تفادي اختبارها كان وراء قرار سحب الأساطيل الأميركية التي حشدت على الساحل السوري.

البعد الاستراتيجي لهذا التموضع الروسي يتأسّس على معادلات مختلفة كلّياً لكنه يخدمها كنتيجة. فالتموضع الروسي مناورة استراتيجية، لا قراراً سياسياً عسكرياً تكتيكياً متصلاً بمصير الحرب على سورية والحرب على الإرهاب، بقدر ما هو تغيير جيواستراتيجي لمعادلات دولية وإقليمية في قلبه ستتغير الحربان على سورية والإرهاب. فتنفصل مساراتهما وتتغير اتجاهاتهما، وهو تموضع ناتج عن قراءة معمّقة لمسار أربعة عقود يشكل تاريخ روسيا السوفياتي جزءاً عضوياً منه، كما تشكل السياسات العسكرية الامبراطورية الأميركية ومشاريع الهيمنة الجزء المتمّم له.

تبدأ الحكاية من ثنائية فييتنام وأفغانستان، حيث تناوبت واشنطن وموسكو على مكانة المنتصر والمهزوم كما تبادلتا موقع الداعم لمجموعات حرب العصابات في وجه التدخل الخارجي وموقع من يتولى هذا التدخل الخارجي ويهزم. التعادل الفييتنامي ـ الأفغاني لروسيا وأميركا، كان خداعاً بصرياً. ففي فيتتنام كانت مقاومة وطنية شعبية لغزو أجنبي استعماري، وفي أفغانستان كان الإرهاب الذي سيضرب لاحقاً في كل أنحاء العالم صناعة أميركية لبديل عن التدخل المباشر في الحروب تماشياً مع نتائج ما سمّي بعقدة فييتنام. وعلى عكس نهاية حرب فييتنام ببناء دولة وطنية فييتنامية، لم تتأخر واشنطن عن بناء علاقات طبيعية معها. انتهت حرب أفغانستان بعد الانسحاب الروسي بالتحول إلى قاعدة لإرهاب يشكل اليوم باعتراف أميركا المعضلة الأولى للعالم.

صمّمت واشنطن بعد نجاحها بتفكيك الاتحاد السوفياتي وتهميش روسيا للسيطرة على العالم، بالرهان على الشفاء من عقدة فييتنام والعودة للغزو العسكري، بقوة أحداث أيلول 2001 التي نفّذها «مجاهدو أفغانستان» الذين صنعتهم واشنطن قبل عقدين من الزمان. وكان غزو أفغانستان والعراق، والفشل فيهما يتكفل بإحياء عقدة فييتنام والانصراف عن الرهان على الحروب، وإعلان نهاية نظريات الحرب خسائر صفر التي تورّط بها الأميركيون من حربهم في يوغوسلافيا، فعادوا إلى الاحتواء المزدوج لـ«القاعدة»، يقاتلونها حيث تقترب من خطوطهم الحمراء، ويراهنون عليها للجم التمدّد الاستراتيجي لروسيا والصين وإيران المتوقع مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان، بتفويض «القاعدة» بمنوعاتها إسقاط سورية كحاجز يمنع الثلاثي الاسيوي الصاعد من بلوغ حوض البحر الأبيض المتوسط.

فشلت واشنطن مرّة جديدة، وتجذّرت «القاعدة» وتنوّع نسلها وتهجّنت أجيال جديدة ليست كلها تحت السيطرة على رغم ما تحظى به من الاحتواء المزدوج، عبر السعودية وتركيا تحديداً. وترتب على توريد الإرهابيين بوهم التخلص منهم، أن يتناسلوا بسرعة أكبر، فصار عدد الأجيال الجديدة منهم في البلدان التي غادروها إلى سورية والعراق عشرة أضعاف ما كان عليه أسلافهم قبل عمليات التوريد المنظم من دول الغرب بصورتين رسيمة وشبه رسمية. وبقي التدخل العسكري الأميركي الموضعي الذي حاولت الأساطيل تشكيل طليعته، ولما صار الخيار حرب شاملة وعادت الأساطيل، صار المشهد الدولي يبدأ من الشرق الأوسط، بثنائية اللاجئين المتدفقين والإرهاب المتجذر والعائد، والفراغ الاستراتيجي ما بعد الإنسحاب الأميركي خطر داهم، والعالم يحتاج إلى ضامن استقرار، ربما لا يتمناه لكنه يحتاج إليه، لا يرغب بانتصاره لكنه لا يتحمّل الاستنزاف بغيابه.

تموضع روسيا في وجه الإرهاب وتثبيتاً للدولة المدنية في سورية، يملأ هذا الفراغ الاستراتيجي، ويشكّل ضامن الأمن الإقليمي، ويسم الشرق الأوسط بلغة التفاوض بدلاً من الحروب، ويفتح لقوى المقاومة فرص العمل لكنه يحول بينها وبين حرب مقبلة ضدّ «إسرائيل». يسرّع عودة العافية إلى سورية وجيشها، ويساهم في تقديم فرصة التسريع لتبوأ مركز القوة الأولى في المنطقة أمام إيران مع التغييرات المرتقبة لكل من تركيا بعد الانتخابات والسعودية بعد هيستيريا حرب اليمن. لكنه يضعها قوة سياسة بلا حروب قادمة، قادرة على دعم المقاومة تحت سقف حصر المواجهة بالدائرة الوطنية لشعب فلسطين من دون حرب تعبر الحدود. يدير اقتصاد النفط والغاز في الشرق الأوسط وأنابيبه بدلاً من الدور المصطنع لتركيا وقطر و«إسرائيل»، ويؤمّن تدفقاً سلساً للطاقة، لكن لحساب معادلات النمو لإيران وروسيا والصين.

روسيا تشفى من عقدة أفغانستان فتأتي لتهزم الذين قاتلوها هناك. وهي تشفي أميركا والغرب من وهم النوم مع الشيطان والتعاون مع الإرهاب. وتثبت خيار الدولة الوطنية المدنية كنموذج للمنطقة، انطلاقاً من سورية. وتتبوّأ روسيا مكانة مدير البحر المتوسط وآسيا والشرق الأوسط معلنة ولادة أوراسيا من معادلة روسيا وإيران والعراق وسورية وولادة نظام عالمي جديد ستتبلور ملامحه تدريجياً.

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى